ترجمة وتحرير نون بوست
في آب/ أغسطس 2014، بعد أن هاجم مسلحو تنظيم الدولة منطقة سنجار شمالي العراق، أدرك هوجير هيروري ما يجب أن يقوم به. رغم أنه يعيش في السويد منذ سنة 1999، فإن مسقط رأسه في العراق يبعد حوالي ساعتين بالسيارة عن منطقة سنجار.
يقول هيروري متحدثا عبر الفيديو من ستوكهولم: “عندما نفذ تنظيم الدولة هجومه، أدركت أنه يمكنني سرد القصة بطريقتي الخاصة. كنت أعرف الثقافة واللغة، وكنت لاجئا طوال حياتي، لذلك كان لديّ الفهم الكافي والأفكار اللازمة لإخراج هذه الأفلام الوثائقية جيدا”. تدرب هيروري على الإنتاج الإعلامي وعمل في التلفزيون السويدي، لكنه لم يخاطب جمهورا عالميا قبل أن تغيّر أحداث سنجار كل شيء.
“سبايا” هو الفيلم الوثائقي الطويل الثالث الذي يقدمه هيروري عن مآسي الحرب شمالي العراق ومصير الطائفة الإيزيدية المضطهدة منذ فترة طويلة. سنة 2016، روى فيلم “الفتاة التي أنقذت حياتي” قصة عودة هيروري إلى المنطقة لتوثيق أزمة اللاجئين؛ وكان فيلم “مفكك الألغام” الصادر سنة 2017 عبارة عن تصوير مأساوي لقصة خبير كردي متخصص في تفكيك القنابل.
في فيلم “سبايا”، يتعقب هيروري قصة مجموعة من المتطوعين الشجعان الذين تسللوا إلى مخيم الهول الخطير في سوريا لإنقاذ حوالي سبعة آلاف فتاة وامرأة من الطائفة الإيزيدية احتجزهن تنظيم الدولة سنة 2014. يضم هذا المخيم مترامي الأطراف أكثر من 62 ألف شخص، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة الأخيرة، 80 بالمئة منهم من النساء والأطفال.
هوجير هيروري “أردت فقط توثيق ما يحدث بالضبط في حياتهم اليومية”.
يقول هيروري: “زوجتي لورين إبراهيم هي من خطرت لها فكرة الذهاب إلى سوريا لمعرفة ما حدث للنساء والفتيات”. تعمل إبراهيم مراسلة في الإذاعة السويدية، ومثل زوجها، لديها معرفة سابقة بالمنطقة. كانت تبلغ من العمر 11 سنة عندما فرّت من سوريا، واستغرق الأمر ثلاث سنوات للوصول إلى السويد.
مع تدهور الوضع الأمني في سوريا، غيّر الزوجان خططهما: “لقد أدركنا أنه من الخطير جدا إحضار أي شخص آخر، لذلك قررت أن أفعل كل شيء بمفردي”.
لدى هيروري جذور عميقة في هذا الجزء من العالم، ومع ذلك لم يكن على علم بفظاعة ما مرت به النساء المخطوفات، المعروفات بـ”السبايا”. يقول هيروري: “كان الحديث عن هذا نوعا من المحرمات”. لقد أدرك منذ ذلك الحين طبيعة هذا المصطلح: “إنه موجود منذ العصور القديمة ويشمل فكرة أن لديك الحق في اختطاف الفتيات في أوقات الحرب واستخدامهن كما يحلو لك: إنهن ينظفن منزلك ويمكنك ممارسة الجنس معهن”.
يتم غسل دماغ الضحايا وتعليمهن التفكير بهذه الطريقة، ويوضح هيروري: “تم اختطاف جميع الشابات اللاتي قابلتهن تقريبا في سن مبكرة جدا، وقد قلن لي: [كنا نخون ديننا ولم نتبع تعاليم الإسلام، وهذا عقاب الله. هذا ما كان مقدرا لنا]. يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى يخرجن من تلك الحالة الذهنية، وذلك الجحيم الذي كن يعشن فيه”.
عُرفت محنة الطائفة الإيزيدية – التي اعترفت عدة هيئات دولية بأنها إبادة جماعية – على نطاق واسع سنة 2014، ولكن بعد سبع سنوات، لا تزال الآلاف من الفتيات والنساء في عداد المفقودين، وقد نسي العالم قصتهم.
نفّذ مهمة الإنقاذ “إيزيدي هوم سنتر”، وهي منظمة تطوعية صغيرة مقرها سوريا ويمثلها في فيلم هيروري الشاب محمود، وهو شخص طويل ورصين يعمل باستمرار ويستقبل المكالمات على هاتفه المحمول أو يجتمع مع زميله زياد.
يحرص هيروري على أن يوضح أن محمود وزياد ليسا الوحيدين المنخرطين في هذه المهمة. في الواقع، تواجه النساء المتسللات إلى مخيم الهول – ومنهن محتجزات سابقات فيه – أكبر المخاطر. يقول هيروري إنه لأسباب تتعلق بالسلامة، لم يتم إدراج أسمائهن وصورهن في الفيلم، ويوضح: “قررنا فقط رسم صورة لمحمود وزياد. لكن من المهم بالنسبة لي ألا أقوم بجعل أي شخص بطلا. أردت فقط توثيق ما يجري بالضبط في حياتهم اليومية”.
مع ذلك، كان لدى المنظمة التطوعية تحفظات جدية بشأن السماح لهيروري بالتصوير، ويقول المخرج في هذا السياق: “أخبروني فيما بعد أنهم كانوا في البداية يحاولون العثور على أي كذبة بيضاء تقنعني بالعدول عن إنتاج هذا الفيلم الوثائقي. لكننا أقمنا علاقة وطيدة للغاية بعد فترة، حيث كان من الضروري أن نثق ببعضنا البعض في المواقف الخطيرة التي مررنا بها”.
محمود عضو منظمة “إيزيدي هوم سنتر” في مشهد من فيلم سبايا.
كانت المخاطر واضحة بجلاء في الفيلم، وشمل ذلك مطاردات بالسيارات، وحوادث إطلاق النار واستجوابات قاسية. يتضمن الفيلم نوعا من الإثارة التي نراها عادة في أفلام الأكشن بهوليوود، مع فارق واحد مهم وهو أن الجميع في “سبايا” يحافظون على هدوئهم بشكل غريب.
يقول هيروري: “عندما عرضت على منتج الفيلم [أنتونيو روسو ميريندا] مقطعًا يصوّر حدث تبادل الطلقات النارية، توجب عليّ أن أشرح له سبب عدم شعور أي شخص بالذعر مثلما يحدث في الأفلام الخيالية”.
مع تكرار الحدث ذاته، يمكن للمرء الاعتياد على أي شيء، حتى أهوال الحرب: “أحدهم يُصاب بالرصاص، وآخر يُطعن، وينتشر صدى هذه الأصوات في كل مكان لدرجة تطغى على أي شعور بالدهشة. حينها ينبغي عليك محاولة التغلب على مخاوفك الداخلية في سبيل الحفاظ على هدوء المجموعة وتجاوز المواقف الصعبة”.
في مخيم الهول، تعتبر الأسلحة المهربة أكثر انتشارا من الكاميرات المهربة للأسف. مثّل ذلك تحديا كبيرا بالنسبة لهيروري، ويوضح أنه “في كل مرة حاولت فيها التصوير في الساحة المركزية، سرعان ما وجدت الجميع مجتمعين حولي”. لذلك، جرّب المخرج استخدام هاتفه الجوال والتظاهر بإجراء مكالمات وهو يقوم بالتصوير، لكنه أكد أن “هذه الصور لم تكن جيدة بما يكفي”.
راودته فكرة أخرى تتمثل في ربط كاميرا خفية بجسده والدخول إلى المخيم لوحده، لكن المتطوعين رفضوها على الفور باعتبارها خطيرة للغاية. في نهاية الأمر، أخفى هيروري هويته وخبّأ الكاميرا من خلال ارتداء النقاب ودخول المخيم في صفوف المتسللات. أسفر ذلك عن لقطات الكاميرا المميزة في بداية الفيلم ونهايته. لكن هذه الحيلة استغلها آخرون لأغراض مختلفة. وفقا لهيروري، “تبيّن أن الرجل الذي طعن أحد أفراد الأمن في المخيم كان يرتدي النقاب. وكثيرا ما يستخدم الرجال النقاب للتنكر ودخول الساحة، وذلك لجمع المعلومات وتفحص الأوضاع بشكل عام”.
مع ذلك، لا يتسم فيلم “سبايا” بتلك الدرجة العالية من الدراما طوال الوقت. بعد عملية الإنقاذ، عادة ما يتم نقل النساء إلى منزل محمود لتبدأ رحلة التعافي الطويلة، ويعمل أعضاء “إيزيدي هوم سنتر” على إيجاد أماكن إقامة دائمة لهن. هنا نلتقي بنجل محمود، الطفل اللطيف شادي، ووالدته، وهي امرأة ودودة ترحب بالجميع.
يشير هيروري إلى أن هذه اللحظات تخفف قليلا وطأة المأساة على الجمهور، لكن هذا ليس السبب الرئيسي لإدراجها، موضحا أن “هذا الجزء مهم للغاية في رحلة تعافي الفتيات وعودتهن إلى الحياة الأسرية الطبيعية. أردت أن أصوّر إنسانية عائلة محمود وطيبتهم. إنهم ليسوا أغنياء – بل هم فقراء جدًا – لكنهم يشاركون كل ما لديهم مع أي أحد، بما في ذلك النساء اللائي يأتين للعيش معهم”.
المقطع الترويجي لفيلم “سبايا”
مكث هيروري طويلا في منزل محمود خلال فترة التصوير، ويقول في هذا الشأن:
“كان بإمكاني أن أستيقظ في الصباح وأقوم بالقليل من أعمال التنظيف في المنزل، وأطهو بعض الوجبات. قضيت بعض الوقت في اللعب مع الأطفال، والتحدث إلى النساء”. شيئا فشيئا، شعرت بعض النساء بالراحة الكافية لمناقشة تجاربهنّ المؤلمة أمام الكاميرا، واتخذت هذه المحادثات طابع الحوارات الثنائية.
يضيف هيروري: “قبل أن أبدأ بإنتاج هذه الأفلام الوثائقية، لم يسبق لي أن تحدثت مع أحد عن تجربتي كلاجئ، وكنت منغلقًا جدًا حيال الموضوع. لقد عانى والدي من هذا الأمر، وجدّي أيضا”.
مع اقتراب موعد صدور فيلم “سبايا”، وهو الفيلم الثالث ضمن سلسلة من ثلاثة أجزاء عن القضية الإيزيدية، هل يشعر هيروري الآن أن قصة النساء المخطوفات، وقصته الشخصية، قد رويت بالكامل؟
يجيب هيروري قائلا: “عقب إصدار كل فيلم من أفلامي، كنت أقول لنفسي، حسنًا، هذا هو الأخير، وأنني لا أريد سوى أن أركز على عائلتي وحياتي في السويد. لكن سرعان ما يحدث شيء ما، وأشعر بأنه يجب عليّ أن أعود مرة أخرى”.
هنا تعلو محيّاه ابتسامة حزينة، ويقول: “ها أنا أزعم مرة أخرى أن هذا هو الفيلم الأخير وأنني سأركز على حياتي الطبيعية بعده”.
سيصدر فيلم “سبايا” في 20 آب/ أغسطس.
المصدر: الغارديان