يتدرج الرئيس التونسي قيس سعيد عبر سلم الانقلاب في تنفيذ خطته شيئًا فشيئًا، معتمدًا في ذلك على تأويل الفصل 80 من دستور الثورة الشعبية التونسية التي تنكر لها ولمبادئها القائمة على الفصل بين السلطات الثلاثة والنظام الرئاسي المعدل الذي يحول دون تغول الرئيس واحتكاره للسلطة، لكن سعيد قفز على المسار الانتقالي وهو ما بدأ يتضح مبكرًا منذ حملته الانتخابية المرتكزة على توظيفه للتنسيقيات الشبابية التي كانت أشبه بطريقة التفويض التي انتهجها الانقلابي عبد الفتاح السيسي بمصر وخليفة حفتر في ليبيا، ثم اتضحت أكثر خلال مرحلة ما بعد انقلاب 25 يوليو/تموز مع توظيف سعيد للشباب مرة أخرى، الفئة التي تمثل العمود الفقري للتركيبة الديمغرافية لتونس وذلك من خلال تقريبهم من مواقع صنع القرار في الولايات والجهات.
تأويل الدستور
لم يجد الرئيس التونسي قيس سعيد لتنفيذ انقلابه والانزلاق بالبلاد في منعرج خطير يعصف بمسار عشر سنوات من الديمقراطية وتعزيز منهج حقوق الانسان وانتزاع ورقة الحريات بأنواعها ما يعد ضربًا لركائز النظام الديمقراطي المدني في مقتل خاصة مع تواصل سياسية التعتيم عن الرؤية السياسية المستقبلية للبلاد.
وقد اتبع قيس سعيد في ذلك منهجًا تعسفيًا لتأويل الدستور وإعلان الأحكام الاستثنائية وتجميد الحياة السياسية برمتها بدءًا من مخالفته الصريحة للدستور ولروح الفصل 80 منه الذي ينكر قيس سعيد نفسه أنه لا يمكن الانقلاب على الدستور عبر الدستور بينما الفصل لا يسمح بتجميد مجلس نواب الشعب ولا رفع الحصانة عن البرلمانيين، بل ينص صراحة على استمرار عمل البرلمان طوال الـ30 يومًا التي يتم فيها العمل بالإجراءات الاستثنائية.
توظيف التعيينات
يبدو أن الرئيس التونسي ماضٍ في ترسيخ طريقته الالتفافية في الحكم من خلال التعيين على أساس الولاءات للمناصب السياسية والسيادية في الدولة لضمان عدم خروجهم عن قراراته وسلطانه إضافة إلى كسب ودهم، بعد احتكار جميع السلطات بيده لتفادي سيناريوهات ما قبل الانقلاب، وهنا يمكن التذكير بمثل ما تعرض له رئيس الحكومة الأخير هشام المشيشي الذي اختاره سعيد نفسه لحكومته ثم احتج عليه وحدث ما حدث من مماحكات بينهما ومن صراع واضح بشأن الصلاحيات ونذكر فيما يخص الإشراف على سلك الأمن والداخلية.
ومن اللافت للنظر أكثر أن يحتل الموظفون الجدد مكانة مرموقة في قصر قرطاج، حتى إن بعضهم أحد طلبة قيس سعيد حاصل على الإجازة ولم يشتغل يومًا واحدًا، ثم أصبح واليًا على إحدى الولايات شمال البلاد، أي أن يصبح أعضاء التنسيقيات والأصدقاء على رأس الدولة.
ويخشى الانقلابيون دائمًا من خروج المكلفين في أسلاك الدولة عن طاعتهم، ما قد يثير العداوة ضدهم ويكسر ما يرون أنها هيبة للقيادة والريادة.
تطويع المؤسسات
بعد توزيع العسكريين على رأس الوزارة على غرار ما تم في وزارة الصحة اتجه قيس سعيد نحو تولية الموالين له لتطويع المؤسسات السيادية للدولة وذلك بتعيين شباب التنسيقيات الذين خاضوا حملته الانتخابية التي قيل عنها الكثير كونهم شباب متطوعين ومتحمسين لحكم رجل نظيف لإنقاذ البلاد من الفساد والمفسدين.
وتعد مثل هذه التعيينات مدخلًا للمحاباة وشرعنة للواسطة وما يسمى “الأكتاف” في تونس وهي باب من أبواب الفساد والإفساد التي انتقدها رئيس الجمهورية بنفسه بشدة في أكثر من مناسبة، وبكل الأعمال التي تكون طريقًا إلى المحسوبية والرشوة والارتشاء.
وقبل أيام فقط أعفى رئيس الجمهورية عددًا من الولاة رغم الشهادة لهم بكفاءتهم، ومن هنا تغيب كل مبررات إعفائهم غير بداية التسلل إلى أجهزة الدولة لتولية المقربين ومجازاتهم عن عملهم الذي قاموا به خلال الحملة الانتخابية، والأنكى من كل ذلك أن يتم تعيين والٍ ليس له أي خبرة سياسية ولا تولى مناصب إدارية من قبل، بل فقط لأنه عاطل عن العمل وهذا لا يبرر منحه منصبًا سياسيًا.
كما أن منصب الوالي هو منصب سيادي لا يمنح لأي شخص كان إلا إذا كان المُراد من ذلك التحكم في مفاصل الدولة، وهنا يحق التساؤل أين الذين كانوا يعتبرون كل تعيين يتم على أساس إيديولوجي أو أين الذين كانوا يحذرون من تغول الأغلبية تمامًا؟ وأين دعاة الإضراب العام والإضراب القطاعي؟
التقرب من الجيش
في محاولة محمومة للسيطرة على مفاصل الدولة يتقرب الرئيس ويتزلف للجيش الوطني حسن السيرة والسلوك مع شعبه، وذلك استعطافًا له في كل مناسبة ليضمن ولاءه في تنفيذه انقلابه، وهنا تطفو إلى الذاكرة مباشرة صورة الرئيس عند إلقاء كلمة الانقلاب يوم الـ25 من يوليو/تموز المنقضي وهو محاط بقوات عسكرية أقرب بمشهد انقلابي يتم في أي دولة إفريقية أو غير إفريقية.
ولعل توخي قيس سعيد لسياسة المراحل والتدرج هي جهود لإخراج المؤسسة العسكرية عن مهامها الرئيسية وتعويدها بالدخول أولًا في العمل السياسي في سابقة خطيرة هي الأولى من نوعها لم تعرفها تونس سابقًا.
وبفضل سياسة تحييد الجيش التونسي عن كل ما هو قريب من العمل السياسي، فإن تكليف الرئيس للجيش للإشراف على حملات التلقيح ضد وباء كورونا واستقبال الهبات الدولية والمساعدات الخاصة بالجائحة ما هو إلا تمهيد مقصود للجيش بتغيير سلوكه من ذلك القبول بالخروج على المنابر والتحدث عن الوضع السياسي العام في البلاد وهو أمر طارئ على حياة العسكريين المهنية والانضباطية التي لطالما عرفوا بها.
كذلك ثمة أمر ثانٍ لا بد من الإشارة إليه وهي مرحلة التدخل، وهي المرحلة التي يصبح فيها العسكري موظفًا في أجهزة الدولة وهو الأمر الأخطر عوض الموظف المدني، وقد بدأ مع تعيين قيس سعيد لأحد الضباط في منصب وزير الصحة.
واختيار هذا المنصب دون غيره كان لغاية في نفس يعقوب، وهي توظيف الجانب الوبائي شعبيًا حتى يقترب الجيش أكثر من الشعب من خلال تقديم اللقاحات والخدمات الصحية للكبار والشباب وما لذلك من تأثير على نفسية المواطن خاصة أن صورة الجيش تحظى باحترام كبير سابقًا، وبالتالي تعزيز هذه المكانة، ومن هنا تتغلغل صورة الجيش المسيس إلى العقل الجمعي وتنجح عملية التطبيع التام بين الجيش والسياسية بشرعية شعبية أو ربما يطلب هو ذلك كلما استشعر الأزمات.
وفي ظل الظروف الاستثنائية الحاليّة وتعليق العمل بكل المؤسسات ما عدا مؤسسته الرئاسية، تعد مطالبة قيس سعيد مؤخرًا المؤسسة العسكرية بـ”عدم التراجع إلى الوراء” حتى تستعيد البلاد مكانتها، ثم قوله “المؤسسة العسكرية تصنع تاريخًا جديدًا” اعتراف ضمني بإقحام الجيش في غير مجاله ومطالبته بخوض ما لم يخضه سابقًا، وهذه سابقة في تاريخ البلاد، وصورة إغلاق الجيش للمؤسسة البرلمانية لا تزال حاضرة في الأذهان.
“تونس الجديدة”
مع إعلان قيس سعيد انقلابه الدستوري تم مباشرة إطلاق مفردات تمجد الانقلاب الدستوري وتروج له كالبطل المنقذ والمخلص للبلاد، وهذا أمر ليس بالجديد عبر التاريخ الاستعماري أو ما بعده، أن يتزلف المتزلفون بل ويتخابرون مع الأعداء ضد مصلحة أوطناهم، لكن سرعان ما يتساقطون كأوراق الخريف سعيًا لمكاسب أو لتموقع جديد تشفيًا من البعض لكن أن تكون بهجة أولائك تصفيقًا لانقلاب، فهذا أمر مستغرب بكل المقاييس.
وقد لوحظ ذلك التهليل في أكثر من موقع من مواقع التواصل بأنواعها وفي قنوات إعلامية اتبعت منهج الضخ الإعلامي في ذات الاتجاه، والأغرب أن بعض الوجوه التي كانت ضد الرئيس انقلبت مع تواجهاته في خرق لشرف المهنة.
وقد ظهرت مصطحات مثل “تونس الجديدة” و”تونس ما بعد 25″، بل رأينا برامج تليفزيونية تحمل عناوين التغيير الإيجابي الذي بشروا به، موظِفةً مواضيع مثل مقاومة الفساد والإصلاح والتبشير بمرحلة جديدة من التاريخ، وكأن الانقلابات ستفتح أبواب الجنان على مصرعيها.
وعمومًا فإن الذين عاشروا انقلاب الـ7 من نوفمبر/تشرين الثاني لا يزالون يذكرون جيدًا حجم “التطبيل” إلى حد التقديس والتمجيد لبيانه الانقلابي الناعم على نظام بورقيبة، واعدًا بالحريات وبـ”العهد الجديد” الذي فتحه “شعبنا الذي بلغ من الوعي والنضج مـا يسمح لكل أبنائه وفئاته بالمشاركة البناءة في تصريف شؤونه في ظل نظام جمهوري يولي المؤسسات مكانتها”، وهو نفس الشعب الذي لفظ بن علي في بيان هروبه مؤذنًا بنجاح الثورة يوم 14 من يناير/كانون الثاني 2011 وهو أشبه ببيان انقلابه، والتاريخ يعيد نفسه في شكل مهزلة، لكن ما كل كرة تسلم الجرة، أليس التغيير بالصندوق؟