المرأة في لبنان تحارب الغلاء بالاستغناء والابتكار

تذهلك بأناقتها التي اشتهرت بها عربيًا وعالميًا، تنسق أمور حياتها وتضبط إيقاع أسرتها بكل احتراف، لعل اهتمامها بمظهرها وبآخر صيحات الموضة لم يمنعها من التنسيق والاهتمام بأدق تفاصيل بيتها، تغالب الدنيا وفي وجدانها الكثير من الأمنيات والأحلام. إنها المرأة اللبنانية بكل ما تضج به المفردة من صخب يثيره غموضها.
فالمرأة المدللة اليوم أمام تحدٍ كبير غير مسبوق، كل مظاهر الترف اختفت وما بقي اليوم من المجتمع اللبناني هو بكاء طفل يبحث عن حليب أو عجوز يتوسل لأجل دواء، وبين جائحة وأزمات اقتصادية واجتماعية خانقة تخرج المرأة بثقلها لتدخل في خط الدفاع الأول لحماية أسرتها من الوباء تارة ولمواجهة الأزمة الاقتصادية تارة أخرى.
وتتحمل المرأة في مثل هذه الظروف مسؤولية مضاعفة بغض النظر عن شعورها الداخلي بالخوف من المجهول، فإنها ترتدي قناع القوة واللامبالاة حتى تبث الطمأنينة في نفوس من حولها.
وفي ظل الانهيار الاقتصادي تحاول المرأة في لبنان إعادة حلقة التوازن لأسرتها في عدة مجالات في إطار مواجهة الكارثة لتتكيف مع الأحداث الطارئة وتعيد ترتيب أمور عائلتها انطلاقًا من المستجدات التي طرأت على المجتمع.
ويتعاظم دورها وتتهالك عليها المسؤوليات والضغوطات في ظل الجائحة والمتطلبات التي تفرضها من أدوات تنظيف ومصاريف إضافية، فلجأت الكثير من النساء إلى الاستغناء عن الكماليات ثم بدأت باستبدال حاجياتها بأمور أخف سعرًا، لكن عجلة الانهيار السريعة وبالتالي انخفاض القدرة الشرائية وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر دفعها إلى ابتكار حلول ضرورية وبديلة تغنيها عن الشراء والصرف.
العودة إلى الزراعة والمؤونة التقليدية
السيدة سهى الحلبي ربة منزل وجدة تقول: “بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية الحاليّة تعرضت حياتنا لتغييرات كثيرة، حجزت أموالنا في المصارف، ثم غلاء فاحش، بعدها فقدان مواد عديدة من دواء وغذاء وانقطاع متكرر للطاقة الكهربائية والمائية، عمدنا للبحث عن أساليب تخفف عنا الضائقة المالية والخسائر بالمواد الغذائية”.
“زرعت الأرض بجانب منزلي، فبدأنا بزراعة الخضراوات وتخزين الإنتاج في وعاء زجاجي كحل بديل عن التبريد في البرادات للانقطاع المتكرر للكهرباء، ثم زرعنا اللوبيا والكوسة والباذنجان والبامية والفاصوليا، جزء منه تم تجفيفه وجزء وضع في أوعية مثل البازلاء والبندورة وورق العنب والخيار، أيضًا اللبنة والجبنة وضعتا في وعاء زجاجي، كما جففت الملوخية والنعناع والكزبرة”.
وتضيف “زرعنا بعض الفاكهة وحولتها إلى مربى، أو حتى خل من العنب والتفاح، وكان عندي بواقي زيت قديم حولتها إلى صابون، حاليًّا نحن مهددون بقطع مادة الغاز، لذا عمدنا لإنشاء حفرة نارية على الحطب وجمعنا أكواز صنوبر فارغة وحطب لاستخدامها للطبخ عند الحاجة”.
وتؤكد السيدة سهى قائلة “إننا اليوم نعود بالزمن إلى الوراء، إذ نستخدم الأساليب القديمة في كي الملابس والطبخ وحتى الغسيل، فخسارتنا للغاز والكهرباء والوقود جعلتنا نبتكر أساليب جديدة أو نلجأ إلى الطرق التقليدية، لكن تبقى حاجتنا ملحة للدواء الذي لا يعوض”.
السيدة سهى اليوم باتت صديقة الأرض والشجر، تقضي أغلب وقتها بين النباتات، إما تسقي وإما تزرع وإما تتفقد المحصول، لتضمن قوت عائلتها وأحفادها من الطعام، أما السيدة أماني إدريس فتقضي أغلب وقتها في المطبخ، لكن ليس للطبخ بل لابتكار شيء آخر مختلف وهو تصنيع أدوات التنظيف، فمعلمة الفيزياء منذ سنوات كان راتبها وراتب زوجها يكفيان حاجيات أطفالها الثلاث بكل أريحية، حتى اختلف الوضع اليوم مع انهيار الليرة اللبنانية التي خسرت قيمتها، فلم يعد دخلها مع دخل زوجها يتعدى 200 دولار.
تروي أماني إدريس رحلتها مع مهنتها الجديدة بالإضافة إلى التدريس، وهي تصنيع مواد التنظيف من المنزل، إذ لاحظت أن المدرسة ما عادت تشتري منظف يدين للتلاميذ وتكتفي بكمية فقط للمعلمات، فأطلقت مبادرة لتصنيع سائل يدين وبعد تجارب عديدة فاشلة أخيرًا وجدت الخلطة الجيدة الخاصة بها ووضعتها للمعلمات والتلاميذ في المدرسة.
ومع ارتفاع الأسعار راحت تحاول من منزلها ابتكار سائل جلي وغسيل للملابس، وبالفعل نجحت في ابتكاره بجودة عالية حتى استطاعت أن تكفي بيتها وبيت أقاربها من أدوات التنظيف بتكلفة مواد أولية فقط، تضيف أماني “منذ أشهر لم أشتر مواد تنظيف، حتى إنني ما عدت أنظر إليهم عندما أشتري حاجياتي من المتجر، واليوم بت أبيع مواد تنظيف لمجموعات من النساء وعائلات تعرفني من الأصدقاء والجيران، وأنا أبيع بسعر منخفظ جدًا ولا أبغى الربح الكبير، فسعر منتجاتي لا يتضمن التغليف والتوضيب والتعبئة، لأنني امرأة وأشعر بهموم النساء والعائلات التي حولي”.
وتؤكد أماني “الناس ما عادت تهتم بشكل المنتج ومظهره بل بجودته، فالجودة اليوم في لبنان باتت تنخفض كثيرًا بسبب ارتفاع سعر المواد الأولية التي تباع بالدولار وعلى سعر صرف السوق السوداء، ما يضع الناس أمام تحدٍ كبير، ارتفاع الأسعار من جهة وانخفاض الجودة من جهة أخرى”، لكنها بعد تجارب كثيرة استطاعت الحصول على الجودة اللازمة.
غرفة تصليح الملابس
ومن غرفة تصنيع المنظفات إلى غرفة الخياطة حيث تعمل هناء من منزلها المكون من غرفتين بعد أن توفي زوجها منذ سنوات وهي تعيل طفلين، تراها إذا قصدت بيتها في أغلب الأحيان تجلس على عتبة دارها تتصبب عرقًا وتنظر إلى ساعتها باستمرار، تنتظر بفارغ الصبر قدوم الكهرباء لكي تعود إلى آلة الخياطة مصدر رزقها الوحيد.
تقول: “منذ بداية الأزمة الاقتصادية ويواجه عملي ضغطًا كبيرًا، فلم أشهد طوال حياتي هذا الكم من الناس المقبلين على تصليح ملابسهم إما تضييق وإما توسيع أو حتى تفصيل”، تتابع هناء “في مواسم الأعياد الفائتة كنت أعمل طوال النهار والليل، حتى إنني توقفت عن استقبال المزيد من الزبائن التي تطلب تعديلًا في ملابسها القديمة بدل شراء ما هو جديد”، وتضيف “من أصعب التحديات التي تواجهني اليوم انقطاع الكهرباء وبالتالي توقف آلة الخياطة عن العمل، فأتأخر عن تسليم الملابس أو حتى ارتفاع سعر الخيط وأدوات الخياطة وبالتالي تذمر الناس”.
وتؤكد هناء “لم يعد لدى الناس القدرة على شراء ملابس جديدة ولا حتى مستعملة، فلجأ البعض إلى تصليح الملابس والأحذية وجميع أغراض المنزل، ما عاد اللبناني اليوم يرمي شيئًا في النفايات، بل يلجأ إلى حفظ كل شيء حتى أكياس البلاستيك والكرتون”.
في وقت متأخر من النهار وفي أثناء استراحة هناء تراها تسارع لوضع قدر الطعام لتطهو لطفليها وتطعمهما بيديها المتعبتين، ثم تفتح الكتب لتتابع دروسهما وواجباتهما المدرسية وهكذا الحال كل يوم.
في أجواء يخيم عليها الحزن والترقب والغموض من القادم المجهول تتقدم المرأة في لبنان لتكون ركيزة الأمان ومركز الثقة والفرح لضمان سلامة الأسرة واستقرارها، والحال لا شك أشد فتكًا بها في بعض الأحيان، فقد أثبتت في الوقت الحاضر أنها تستطيع أن تتكيف مع تطور الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحيطة بها، ويؤكد تقدمها الملحوظ في المجالات التي تتطلب المعرفة والنقاش والعمل على ذلك، إذ برهنت المرأة استغلالها لقدراتها ورسخت نجاحها وكفاءتها في رعاية البيت والأسرة وفي جميع مجالات الحياة الأخرى.