لأول مرة منذ عشرين عامًا تتجول مدرعات حركة طالبان بأريحية كاملة داخل شوارع وميادين مدينة “قندهار” ثالث أكبر المدن في أفغانستان، وباتت على بعد أقل من 50 كيلومترًا من العاصمة كابول، وذلك بعد السيطرة على معظم ولايات ومدن البلاد في تطور يحمل الكثير من الدلالات.
سباق الزمن الذي تنتهجه الحركة في إحكام سيطرتها على كل المدن (في أقل من 8 أيام فقط سقطت غالبية المناطق ولم يبق إلا ثلاثة فقط لا تزال تحت سيطرة الحكومة، كابول ومزار شريف (كبرى مدن الشمال) وجلال أباد (شرق)) أثار الكثير من الحيرة، ليس لدى الأفغان فحسب، بل للقوى الخارجية بما فيها الولايات المتحدة التي قررت سحب قواتها من هناك.
طالبان التي ظلت لسنوات عدة أسيرة انشقاقات وفوضى داخلية وتضييق الخناق عليها، انتفضت بصورة مفاجئة لتسقط في أيام معدودة جيشًا قوامه أكثر من 300 ألف جندي، أنفق عليه مئات المليارات من الدولارات لتهيئته من أجل السيطرة على البلاد في مواجهة بقايا الحركة التي تلقت العديد من الضربات الموجعة خلال السنوات الماضية.
وكانت الحركة قد بدأت هجومها العسكري على ولايات ومدن البلاد في مايو/أيار الماضي، عقب إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن رحيل قوات بلاده العسكرية من البلاد، الذي من المقرر أن يكون في 31 من أغسطس/آب الحاليّ، بعد 20 عامًا من تدخلها الذي كان بهدف الإطاحة بطالبان من السلطة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
طالبان تحكم قبضتها
خاض مقاتلو طالبان سلسلة من المعارك خلال الأيام القليلة الماضية استطاعوا خلالها ضم عشرات المدن، آخرها مدينة “بولي علم” عاصمة ولاية لوغار، القريبة من جنوب العاصمة، التي رفعت الراية البيضاء سريعًا أمام قوات الحركة، أمس الجمعة 13 من أغسطس/آب الحاليّ، بجانب السيطرة على لشكركاه عاصمة ولاية هلمند (جنوب)، وذلك بعد ساعات قليلة على سقوط قندهار.
السيطرة على المدن الأفغانية صاحبه استسلام جماعي لعدد من أمراء الحرب في البلاد، أبرزهم إسماعيل خان الذي استسلم للحركة بعد سقوط هرات (غرب) أول أمس الخميس، بعد سنوات طويلة قضاها الرجل في قتال طالبان، التي توعدت بمعاملته معاملة جيدة.
الغرب ضخ مبالغ كبيرة من أجل تقوية الجيش الأفغاني خلال السنوات الخمسة عشر الأخيرة، وأن الولايات المتحدة وحدها أنفقت أكثر من 88 مليار دولار لتأهيل القوات الرسمية في البلاد للسيطرة على المشهد
ورغم الاشتباكات العنيفة أحيانًا التي خاضتها طالبان ضد بعض وحدات الجيش الأفغاني في عدد من المناطق، فإنها استقبلت استقبالًا كبيرًا لدى بعض المدن التي تتمتع فيها بشعبية إثنية وطائفية كبيرة كشركاه بولاية هلمند الجنوبية، التي عاد إليها الهدوء نسبيًا بعد أيام من المواجهات الدامية.
وهكذا وفي غضون أقل من عشرة أيام أصبح الجزء الأكبر من شمال البلاد وغربها وجنوبها تحت سيطرة مقاتلي طالبان، ولم يتبق إلا عدد قليل من المدن تحت سيطرة الحكومة، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات عن هذا السقوط المفاجئ وغير المتوقع، وبات السؤال الأبرز: أين اختفى الجيش الأفغاني المدعوم بمليارات الغرب طيلة عقدين من الزمان؟
أين اختفى الجيش؟
“لماذا ينهار الجيش الأفغاني البالغ قوامه 300 ألف جندي بهذه السرعة ضد طالبان؟” تحت هذا العنوان نشرت صحيفة “تلغراف” البريطانية، الجمعة، تقريرًا استعرضت فيه أسباب السقوط المدوي للجيش الأفغاني في مشهد أقرب لما حدث في العراق قبل 18 عامًا.
التقرير أشار إلى أن الغرب ضخ مبالغ كبيرة من أجل تقوية الجيش الأفغاني خلال السنوات الخمسة عشر الأخيرة، وأن الولايات المتحدة وحدها أنفقت أكثر من 88 مليار دولار لتأهيل القوات الرسمية في البلاد للسيطرة على المشهد بجانب الحكومة الرسمية في مواجهة مناوشات الحركة التي تخرج بين الحين والآخر.
هزيمة القوات الأفغانية بهذا الشكل السريع كان مفاجئًا لعناصر حركة “طالبان” أنفسهم، كما أصاب الفشل الذريع للجيش الأفغاني الأفغان وداعميهم بالصدمة والإحباط، هكذا تقول الصحيفة، التي نقلت عن القائد في الجيش الأفغاني، العقيد إدريس عطاي، قوله: “لا أرى أي إستراتيجية للحرب، لقد أسيئ استخدام قواتنا خلال السنوات الماضية، وتم تعيين من لا يستحقون في مناصب قيادية، لذا نحن اليوم في هذه الفوضى”.
ما حققته طالبان خلال الشهر الأخير تحديدًا لم تحققه طيلة 20 عامًا خاضتها في مفاوضات مستمرة مع الأمريكان
الجنرال الأفغاني اتهم الغرب من خلال إبرام اتفاق مع طالبان أنهم يمنحون “الشرعية والثقة للإرهابيين”، الذين أمضى حياته المهنية في قتالهم، قائلًا: “نفذنا المهمة كتفًا لكتف مع الأجانب، وكنا متفقين على أن عناصر طالبان إرهابيون. حاربناهم لـ20 عامًا، لكنهم ذهبوا وأبرموا اتفاقًا مع الإرهابيين الذي كنا نحاربهم معًا، لقد منحهم الشرعية السياسية وسلموهم مستقبلنا”.
التقرير لفت إلى أن “تفشي الفساد والقيادة الضعيفة تسببت في خسائر فادحة، فيما يشكو الجنود من عدم الحصول على رواتبهم أو الطعام والذخيرة، وعلاج الجرحى بشكل سيئ”، وأن ذلك “انعكس على إرادة الجنود وأفراد الشرطة في القتال”، بحسب اللواء البريطاني السابق الذي عمل مستشارًا للجيش الأفغاني، تشارلي هربرت، الذي أضاف “في النهاية، أعتقد أننا حاولنا جعل هذه الحرب حربنا، وليست حربهم. أرسلنا 100 ألف جندي من قوات التحالف لخوض الحرب بدعم من أعداد صغيرة من القوات الأفغانية، إنه نهج خاطئ تمامًا، كان ينبغي الاعتماد عليهم منذ البداية”.
كما نقلت الصحيفة عن النائب البريطاني الذي خدم في أفغانستان، توم توجندهات، قوله إن الانسحاب السريع وحرمان القوات الأفغانية من الضربات الجوية للناتو، وكذا المهندسين والمتعاقدين لإدارة قواتهم الجوية “سحب البساط من تحتهم”، مضيفًا “الأمر أشبه ما يكون بتدريب رجل على القتال وعينيه مفتوحتين، ثم تعصيب عينيه قبل مباراة النهاية”.
فيما حمّل المحلل العسكري، خالد حمادة، مسؤولية سقوط الجيش الأفغاني أمام طالبان، إلى غياب الولاء والانتماء بالنسبة لأفراد المؤسسة العسكرية الرسمية، التي قدمت المال والإغراءات المادية التي قدمها الأمريكان والغرب على أي اعتبارات أخرى، ومن ثم غابت العقيدة القتالية بصورة كبيرة.
حمادة في تصريحات متلفزة له أشار إلى أن سيطرة الطائفية والإثنية على المشهد الأفغاني، بجانب القبلية التي لا تزال تخيم على الأجواء، كلها عوامل ذات تأثير كبير في حسم المعركة لصالح طالبان التي ترتبط ارتباطات كبيرة مع القبائل والطوائف الأفغانية وعلى رأسها “البشتون” وهي أكبر طائفة في البلاد، ملمحًا إلى دعم باكستاني لوجستي في ظل العلاقات القبلية القوية التي تجمع بين البلدين.
السيطرة بسرعة جنونية.. تساؤلات عن الدوافع
ما حققته طالبان خلال الشهر الأخير تحديدًا لم تحققه طيلة عشرين عامًا خاضتها في مفاوضات مستمرة مع الأمريكان، المتابع للمشهد الأفغاني يلحظ وبشكل واضح هرولة غير مسبوقة لإخضاع أكبر قدر ممكن من مناطق البلاد تحت سيطرة الحركة.
يمكن تفهم هذا التسرع والعجلة التي عليها طالبان في السيطرة على كل الولايات في ضوء عدد من الأسباب والدوافع، أبرزها استغلال حالة الارتباك التي تخيم على المشهد عقب انسحاب القوات الدولية والأمريكية من البلاد، التي خيمت بطبيعة الحال على أجواء الجيش الوطني، وبالتعبية أصاب الحكومة بإعياء شديد.
يستقر في يقين الحركة أن السلطة الأفغانية الرسمية لو سنح لها الوقت لاستعادت قوتها شيئًا فشيئًا خاصة بعد محاولات إعادة أمراء الحرب السابقين، وتوظيف خريطة التحالفات الإقليمية والدولية وهو ما كان سيكون له تداعياته على تنظيم صفوف الداخل الأفغاني، وعليه كانت المباغته من الحركة لإجهاض أي محاولات استبقاية للعودة لساحة المعركة مرة أخرى.
بالتوازي مع ما سبق، فقد استفادت الحركة من سنوات التفاوض مع الجانب الأمريكي في تحسين صورتها على المستوى الشعبي، إذ صدرت صورة للداخل تعكس رغبتها في حلحلة الوضع وطي صفحة الصراع الممتد لعقدين كاملين تكبدت فيهم البلاد خسائر على المستويات كافة.
هذه الصورة تعززت أكثر مع فشل الحكومة والرئيس معًا في تحقيق الاستقرار المزعوم، رغم الارتماء في أحضان الأمريكان لسنوات، وهو ما كان له أثره الكبير في إحداث شروخات غائرة في جدار الثقة المتبادلة بينها وبين الشعب، الأمر الذي قد يفسر الاستقبال الحافل الذي قوبلت به الحركة عقب سيطرتها على بعض المناطق.
عامل آخر كان حاضرًا بقوة في إستراتيجية الحركة نحو السيطرة الكاملة في أقل وقت، يتعلق بالطقس والمناخ، حيث تسعى إلى إنهاء خطتها العسكرية قبل حلول نوفمبر/تشرين الثاني القادم، وهو موسم سقوط الثلوج على البلاد، الأمر الذي يعيق عملية التنقل ويصيب أي تحركات ميدانية بالشلل التام، ما قد يعطي فرصة للفريق الآخر لإعادة ترتيب أوراقه.
معروف في العقلية العسكرية الأفغانية أن السيادة على الأرض في الغالب تكون للقتال الميداني، نظرًا للطبيعة الجغرافية والبيئية التي تمتاز بها البلاد، ومن ثم يتجنب المقاتلون فترات سقوط الثلج خلال معاركهم المسلحة لما تنطوي عليه من مغامرة محفوفة بالمخاطر، خاصة أن هناك العديد من التجارب التي تثبت صحة ذلك.
الجيش الأمريكي نفسه في أثناء دخوله أفغانستان أول مرة عام 2001 انتهج هذا الفكر وكان سببًا رئيسيًا في هزيمة الحركة وتكبيدها خسائر عديدة، ولطالما كان يفتخر الأمريكان بتلك الإستراتيجية لدرجة أن البعض طالب بتحويلها إلى فيلم سينمائي كما هو الحال في فيلم “12 سترورنج” المنتج عام 2018، الذي تناول الأيام الأولى للغزو الأمريكي لأفغانستان.
السلاح والدبلوماسية معًا
يبدو أن سنوات الزخم التي قضتها الحركة في المفاوضات مع الأمريكان ومبعوثي الأمم المتحدة قد أثقلت من قدراتها الدبلوماسية، ففي الوقت الذي كانت تحرز فيه تقدمًا على مستوى إمكاناتها العسكرية كان قادة طالبان يدشنون خريطة تحالفات خارجية مع الجيران تضمن لهم تحييد أي تحركات إقليمية من شأنها أن تعرقل مسيرتهم.
نجحت طالبان في تأمين حدود البلاد الشمالية من خلال التفاهمات مع الروس على مدار الأعوام الماضية بما يهيئ الطريق نحو كابول دون أي مضايقات من موسكو، الأمر نفسه تكرر من باكستان التي لم تنقطع العلاقات بينهما عبر قبائل البشتون، ما أبقى على أواصر الصداقة المتبادلة بين الجانبين.
واستطاعت الحركة بمساريها المتوازيين، السلاح والدبلوماسية، تحقيق انتصارات متتالية ميدانيًا على حساب القوات المدعومة من الولايات المتحدة من جانب، وتحييد دول الجوار بما يسهل عملية تطويق كابول، وعزل الحكومة الأفغانية عن محيطها الإقليمي لا سيما بعد تخلي القوى الغربية عنها.
باتت الساحة الآن – بعد انسحاب القوات الأجنبية – مهيأة تمامًا لدخول أفغانستان نفقًا جيدًا من عدم الاستقرار، سيكون له تداعياته بلا شك على المنطقة برمتها في ظل تعدد الأجندات والأيادي العابثة في تلك البقعة الساخنة بطبيعتها
فبجانب فض واشنطن يديها من غبار المشهد الأفغاني عبر سحب قواتها وتقليص حجم ومستوى بعثاتها الدبلوماسية فضلًا عن تدميرها للتقارير والمواد الاستخباراتية الحساسة، وما لذلك من دلالات غاية في الخطورة، حسبما ذكرت شبكة “سي إن إن” (CNN) الأمريكية، أعلنت بريطانيا هي الأخرى أنها سترسل 600 عسكري لمساعدة الرعايا البريطانيين على مغادرة الأراضي الأفغانية.
وفي المسار ذاته أغلقت النرويج والدنمارك وبعض الدول الأخرى سفاراتها في البلاد مؤقتًا، فيما خفضت هولندا وفنلندا والسويد وإيطاليا وإسبانيا، وجودها الدبلوماسي إلى الحد الأدنى، لحين استجلاء إلى أي مدى ستصل الأمور في ظل قرب سيطرة طالبان على العاصمة، الأمر الذي ربما يدخل البلاد في أتون معارك أخرى لا تقل ضراوة عن تلك التي شهدتها خلال العقدين الماضيين.
تتزامن تلك التطورات مع استمرار المفاوضات المنعقدة في الدوحة بين ممثلي الحركة والأمريكان، التي لم تسفر عن أي نجاحات تذكر، ورغم اتفاق السلام الموقع بين الطرفين في فبراير/شباط 2020، فإنه لم يترجم ميدانيًا ليعود الجميع إلى نقطة الصفر مرة أخرى حتى مع الأجواء الإيجابية التي خيمت على المسار التفاوضي في الآونة الأخيرة.
وتبقى الساعات القادمة حبلى بالمفاجآت التي ربما تعيد تشكيل الخريطة السياسية بالبلد الذي لم يتوقف صوت الرصاص والتفجيرات عن سمائه طيلة أكثر من عشرين عامًا، إذ باتت الساحة الآن – بعد انسحاب القوات الأجنبية – مهيأة تمامًا لدخول أفغانستان نفقًا جيدًا من عدم الاستقرار، سيكون له تداعياته بلا شك على المنطقة برمتها في ظل تعدد الأجندات والأيادي العابثة في تلك البقعة الساخنة بطبيعتها.