لم تكد تهدأ عواصف النقد الأخيرة تجاه برنامج القصص المصورة ذات الطابع “التريندي” (ناس ديلي) – الذي تقوم فكرته على إنتاج قصة مصورة، عن موضوع تفاعلي جذاب، في قالب مشوق مبهر بصريًا، خلال زمن وجيز للغاية، يناهز الدقيقة، من أجل سرعة تداوله – حتى بدأت أزمة جديدة تمس مهنية البرنامج ومقدمه، ياسين نصير.
التطبيع مع الاحتلال
أولى الأزمات وأبرزها كانت بخصوص علاقته مع الاحتلال الإسرائيلي منذ نحو عام من الآن، وبالتحديد في سبتمبر/أيلول 2020، وذلك بعد ما بدأ مدونون على مواقع التواصل الاجتماعي ربط عدة شواهد ببعضها للخروج بنتيجة مفادها أن برنامج “ناس ديلي” يخدم، عمدًا، الأجندة الثقافية للاحتلال في العالم العربي.
في البداية، احتوت بعض حلقات البرنامج الذي يقدمه مدون الفيديو ذو الأصول الفلسطينية الذي يتحرك بجواز سفر إسرائيلي، ياسين نصير، على مشاهد ومضامين تروج سردية الاحتلال الإسرائيلي عن التطور الذي تشهده الأراضي العربية المحتلة تقنيًا وبصريًا، مقابل التخلف الذي يضرب معظم العالم العربي المحيط بها، باستثناءاتٍ بسيطة (سنكتشفها لاحقًا)، إلى جانب إمكان التعايش مع الآخر، المحتل، لأن البرنامج لا يقدمه محتل، وإنما يقدمه كـ”آخر” فقط.
في وقتٍ لاحق، كشف عن تعاون ضخم بين مؤسسة “ناس أكاديمي” التي انبثقت عن البرنامج “ناس ديلي” من جهة، ومؤسسة “نيو ميديا” الإماراتية التي دشنها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي، في يونيو/حزيران عام 2020 من جهة أخرى.
من المعروف أن كثيرًا من المشاريع الثقافية والشبابية والعلمية، التي تمول من جانب النظام الإماراتي بسخاء ملحوظ، تهدف إلى دعم السردية الإماراتية عن ضرورة ترسيخ الاستبداد في العالم العربي من أجل الحفاظ على الاستقرار من قوى الإسلام السياسي، سنيةً كانت أم شيعية، وحماية المصالح الغربية الرأسمالية من أي مشروع سياسي عربي ذي ميول يسارية تحررية.
إلى هنا، كان مفهومًا ومتوقعًا أن الإمارات تستهدف، شأنها شأن كثير من الدول في المنطقة، الاستفادة من نجاح “ناس ديلي” من أجل ترويج سردياتها وتجميل صورتها كدولةٍ منفتحة متحضرة وسط بحر هادر من التخلف، تمامًا مثل “إسرائيل”، وأنها لا تحارب إلا من يستحق الحرب: قوى الظلام والرجعية والتشدد، كما تقول صراحةً وضمنًا.
تأكد الرأي العام العربي من تحالف المؤسستين من أجل هذه الأهداف، وهي ترويج السياسات الداعمة للاحتلال وشراء المؤثرين العرب وتجميل سياسات دولة الإمارات والنيل من الثوابت الثقافية العربية
لكن الجديد الذي ظهر لاحقًا، أن التعاون بين الأكاديمية الإماراتية والبرنامج الذي يروج لأجندة الاحتلال، لن يقف عند ذلك الحد، وإنما سيشمل عددًا ضخمًا من صناع المحتوى العربي، يصل إلى 80 مدونًا، تحت غطاء “بناء القدرات”، لترويج الخطوط العريضة للسياسات الإماراتية الإسرائيلية، التي تقوم على شعارات براقة كالسلام والتعايش، على نحو ما يشير إليه المعنى القرآني البليغ: “ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله العذاب”.
ولما تأكد الرأي العام العربي من تحالف المؤسستين من أجل هذه الأهداف، ترويج السياسات الداعمة للاحتلال وشراء المؤثرين العرب وتجميل سياسات دولة الإمارات والنيل من الثوابت الثقافية العربية، عبر اكتشاف أسماء عبرية قحة على صلة بالأجهزة الأمنية الإسرائيلية مثل جوناثان بيلك، المشرف على المشروع الإماراتي، بدأت حملة عربية مضادة لمقاطعة هذا النوع من البرامج.
من ضمن من دون لإيصال هذه الرسالة إلى الجمهور العربي كانت منظمة مقاطعة “إسرائيل” BDS، التي وصفت التمويل الإماراتي لهذا البرنامج بأنه “تواطؤ صريح مع الجهود الإسرائيلية لغزو عقول شعوبنا وتلميع جرائم نظام الاستعمار الاستيطاني والأبارتهايد الإسرائيلي، فضلًا عن تسويق اتفاقية العار التي أبرمها النظام الإماراتي مع الاحتلال”.
الدحيح نموذج عملي
حاولت الحملة العربية المضادة للتحالف المطبع بناء مناعة، بالمعنى البيولوجي، ضد سطوة برنامج “ناس ديلي” الرمزية، وتدشين صورة ذهنية بالمعنى الفلسفي، وعلامة مائية بالمعنى التجاري، تربط، تلقائيًا بين هذا البرنامج والاحتلال، بحيث إذا ذكر اسمه أو ظهرت صورة مقدمه، يتذكر المشاهد تلقائيًا أن هذا البرنامج يقدم مضامين تخدم الاحتلال.
لكن جهود هذا التحالف بين “ناس أكاديمي” و”نيو ميديا” لاستقطاب المؤثرين في العالم العربي لم تتوقف أيضًا، خفتتْ مؤقتًا، ثم عادت بثقلها، مع أحد أبرز صناع المحتوى المؤثرين في الشباب بالعالم العربي، أحمد الغندور، أو “الدحيح” نسبةً إلى ذكائه العلمي الفذ وقدرته على تبسيط “العلوم للعموم”، كما توصف هذه الصناعة.
ظهر الدحيح للمرة الأولى بعد توقفه وغيابه لمدة طويلة عن المشاهد العربي في برنامج جديد على “يوتيوب” ضمن قناة “نيو ميديا” أكاديمي الإماراتية، ولما كانت هذه المؤسسة قد تعرضت إلى هجوم وجهد استقصائي سابق لتعاونها مع برنامج “ناس ديلي”، فقد ربط الجمهور، على الفور، بين هذه الخلطة الثلاثية: تتعاون الأكاديمية الإماراتية، التي تشغل خبراء إسرائيليين، مع أكاديمية ياسين نصير، من أجل استقطاب المؤثرين في العالم العربي، مثل الدحيح، لترويج أجنداتهم السياسية والثقافية.
رفض “الدحيح” إيقاف تعاونه مع المؤسسة الإماراتية، كما اعتاد تجاهل الجمهور كل مرة، مبررًا ذلك الموقف بأنه كمدون محتوى بصري، لا علاقة له بالسياسة، ولا علاقة له بالمضامين التطبيعية، وأن المؤسسة الإماراتية أنهت تعاونها مع ياسين نصير وبرنامجه.
إن لم يقدم محتوى مطبعًا بشكل مباشر، فقد تجنب الإشارة إلى جرائم الاحتلال
ولكن “المية تكدب الغطاس” كما يقول المثل المصري الشعبي، فقد بدا، أن الدحيح وإن لم يكن مروجًا للمحتوى الثقافي والسياسي التطبيعي، فإنه رضي أن يكون أداةً لهذه المؤسسات التي تسعى إلى استقطاب أكبر نسبة من الشباب والنشء العربي إلى محتواها الملغوم، وبالفعل، فقد نجح الدحيح في جذب آلاف المشاهدين من هذه الفئة إلى القناة الإماراتية، التي ثبت عدم تخليها عن تعاونها مع نصير، مع نية تقديم حلقتين أسبوعيًا من هذا البرنامج.
لوحظ أيضًا أن “الدحيح” قد بدأ في الانزلاق وتقديم التنازلات تدريجيًا من خلال مساره المهني الذي بدأ مع قناةٍ قطرية، ثم تركها، تحت الضغوط السياسية، إلى منصة سعودية مدفوعة (شاهد) وصولًا إلى “نيو ميديا” الإماراتية المتعاونة مع الاحتلال وياسين نصير.
وأنه وإن لم يقدم محتوى مطبعًا بشكل مباشر، فقد تجنب الإشارة إلى جرائم الاحتلال، على نحو ما ظهر في الحلقة الأولى من برنامجه الجديد التي حملت عنوان “الملل” وتناولت أوضاع المساجين، دون أي إشارة للمعتقلين العرب في سجون الاحتلال.
السقطة الأخيرة: الفلبين
يبدو أن “ناس ديلي” ونصير لا زال في جعبتهم الكثير، إذ أثار البرنامج ضجةً ضخمةً في إحدى بلاد الشطر الآسيوي (الفلبين) بعد الصدمة التي تلقاها المجتمع المحلي هناك من البلوجر الذي يدعي قربه من الناس ويروج للتسامح العالمي.
خلال زيارته إلى الفلبين منذ عامين، أخذ ياسين نصير مقدم البرنامج يتصرف في المجتمع المحلي، كمستعمر تمامًا، فمن جهة، كان يشعر بالتقزز من الأسرة التي استضافته، على نحو ما أوضحت إحدى فتيات هذه العائلة تدعى “لويز مابولو”، حتى إنه رفض أن يأكل أيًا من المأكولات الشعبية التي أعدتها نسوة تلك العائلة من أجله طوال مدة بقائه معهم.
كما أخذ يسخر من المجتمع المحلي هناك، عاداته ولغته (التاغالو) وفقره المدقع ونمط حياته، حتى إنه، خلال رحلته إلى تلك الأسرة، رفض أن يتجاوب معهم اجتماعيًا على نحو ما يتجاوب أي غريب وضيف مع مستضيفيه، ليعاملهم، بدلًا من ذلك، بصلفٍ واستعلاء، كأنه يمتن عليهم بزيارته، حسبما أوضحت السيدة الفلبينية.
ومن جهة أخرى، كان نصير دائم التشديد على أن وجوده هنا، في هذا المكان، مزرعة الكاكاو المدعومة من أحد البرامج الإنمائية التابعة للأمم المتحدة، مقصورٌ على تقديم قصة مصورة جذابة، تحتوي في العنوان على كلمة “الفلبين” لتحصل على ملايين المشاهدات من أبناء ذلك المجتمع، دون الالتفات إلى أي معاناة حقيقية لأبناء هذا المجتمع. كان نصير يتحدث بلغة الأرقام التفاعلية، لأن هذا ما كان يسيطر عليه فقط، وفقًا لمابولو.
معظم المواد التي تتناوله صارت، لأسباب كثيرة، تختزله في هذا القالب: الاستغلال والتطبيع
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي دفع تلك السيدة إلى إرجاء قص حكايتها وتجربتها السلبية مع هذا اليوتيوبر المشهور طيلة هذه المدة؟ تجيب السيدة، أنها على الرغم من بلوغها ذروة الغضب والصدمة من سلوكيات هذا الشاب في ذلك الوقت، فإنها لم تملك الجرأة الكافية لمواجهته على الملأ بشكل مباشر، لكونها في موقف ضعف، لانتمائها إلى مجتمع يسعى إلى أبسط حقوقه الأساسية في مواجهة يوتيوبر مشهور يقف خلفه ملايين المحبين حول العالم.
غير أن ما حرضها على نشر هذه التجربة بعد هذه المدة، كانت تجربة السيدة الفلبينية العجوز، التي تمثل رمزًا ثقافيًا في المجتمع الفلبيني، وتدعى “غارسيا أود” من قبيلة “بوتبوت” التي كانت تخوض، في نفس الأثناء، معركةً ثقافيةً وقانونيةً مع نفس الشخص، بسبب استغلالها وسرقة أعمالها الفنية في مجال “الوشم” وبيعها على الإنترنت لصالحه دون استئذان منها، وهو ما دفعها في الأخير إلى كسر صمتها وفضح ذلك الشخص الانتهازي الذي يزدري ثقافة أبناء أمتها، على حد قولها.
خسائر بالجملة
ربما لم يعد السؤال عن خسائر ياسين نصير وبرنامجه بعد هذه الفضائح الأخلاقية ذا معنى، إذ صار اسمه مقرونًا بالعنصرية والاستغلال في كثير من دول العالم النامي، التي كانت تعد هدفًا إنتاجيًا لبرنامجه وداعميه، بعد أن صار اسمه مقرونًا بالتطبيع مع المحتل وخدمة أجندته الثقافية في العالم العربي.
يمكن بسهولة البحث عن اسم “ناس ديلي” أو ياسين نصير في محرك البحث “غوغل” بنسخته العربية، لتجد، دون الاستعانة بكلماتٍ مفتاحية أن حضوره الافتراضي صار مقرونًا بتلك الفضائح من هذا النوع، وأن معظم المواد التي تتناوله صارت، لأسباب كثيرة، تختزله في هذا القالب: الاستغلال والتطبيع.
وبلغة الأرقام التي يفهمها نصير، فقد فقد عشرات الآلاف من المتابعين حول العالم في الساعات الأولى لانتشار هذه الحادثة، التي تتجاوز 100 ألف متابع في اليوم الأول فقط وفقًا لبعض التقارير.
كما حصل المنشور الذي كتبته السيدة الفلبينية عن تجربتها السلبية مع استضافة نصير قبل عامين على أكثر من نصف مليون تفاعل ما بين إعجاب وتعليق ومشاركة، وبدلًا من أن تمتلئ تعليقات محتواه عن الفلبين بالكتابات العصبية البلهاء، كما وصفها بنفسه من قبيل: “أنا من الفلبين وأفتخر”، باتت تعج بالانتقادات والهجوم على برنامجه.
من المفترض أن تفصل إحدى الجهات القانونية المختصة في الفلبين في صحة هذا التوقيع الذي نشره نصير ومدى صلاحيته كوثيقةٍ قانونية تخول له الاستفادة المادية من المحتوى الأصلي للسيدة
من جانبه، نفى نصير أن يكون ما روته السيدة الفلبينية على الفيسبوك حقيقيًا، متهمًا إياها بالكذب، كما نشر صورةً تظهر موافقة السيدة الأخرى البارعة في الوشم على حصوله على حقوق استغلال موادها الفنية، وهو ما قالت عنه الأوساط الفلبينية إنه الاستغلال بعينه، لأن السيدة عجوز غير متعلمة ولا تجيد التدقيق في مثل هذه الأمور.
وبناءً على الضغوط المحلية وبعد إثارة هذه الوقائع، من المفترض أن تفصل إحدى الجهات القانونية المختصة في الفلبين في صحة هذا التوقيع الذي نشره نصير ومدى صلاحيته كوثيقةٍ قانونية تخول له الاستفادة المادية من المحتوى الأصلي للسيدة، وإلى حين حدوث هذا، وبغض النظر عن نتيجة التحقيق، فمن المؤكد أن “ناس ديلي” خسر الكثير من الأرقام الافتراضية والأموال خلال هذه الوقائع، وقبل ذلك فقد خسر كثيرًا من “الناس”.