عاد التقارب مرة أخرى إلى علاقات السودان بتركيا بعد حالة من الفتور مرت بها العلاقات بين البلدين في أعقاب سقوط نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير بثورة شعبية عام 2019.
تمثّل التقارب الأخير في زيارة قام بها مؤخرًا رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان يرافقه 4 وزراء إلى تركيا، تم خلالها التوقيع على عدد من اتفاقيات التعاون سنستعرضها لاحقًا.
أهمية الزيارة تكمن في أنها جاءت بعد فترة من برود العلاقات بين البلدين، فقد أظهر الجنرالات الذين أداروا الـ4 أشهر الأولى من فترة ما بعد نظام البشير ميلًا واضحًا تجاه محور السعودية والإمارات، من دون أن تنقطع علاقات السودان تمامًا مع تركيا وقطر.
أما بعد توقيع الاتفاق الدستوري الذي تم بموجبه تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين في أغسطس/آب عام 2019، استمر العسكر في توطيد علاقاتهم بالإمارات والسعودية ومصر، رغم أن الرياض وأبو ظبي جمدتا سداد منحة بقيمة 3 مليارات دولار أعلنتا عنها لدعم المجلس العسكري الذي تشكل بعد سقوط البشير في محاولة لتثبيت حكم العسكر.
ففي فبراير/شباط من العام الماضي، اعترف وزير المالية السوداني السابق إبراهيم البدوي بأن السعودية والإمارات دفعتا فقط 750 مليون دولار من جملة الـ3 مليارات التي تعهدتا بها للعسكريين.
الشق المدني الذي يقوده رئيس الوزراء يتكون من كتلة غير متجانسة من منسوبي الأحزاب السودانية
رئيس الوزراء يميل إلى الشراكة مع الغرب
إذا أردنا أن نحلل توجهات السياسة الخارجية للحكومة الانتقالية في السودان، فإننا نجد أن الشق العسكري الذي يقوده رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان كان يميل إلى محور السعودية الإمارات قبل المصالحة الخليجية التي أسفرت عن انفراجة محدودة في العلاقات بين المحورين، ورغم محدودية هذه الانفراجة فإنها أتاحت مجالًا لرفع الحرج عن العسكر، إذ قام كلٌ من رئيس مجلس السيادة البرهان ونائبه حميدتي بزيارات إلى قطر وتركيا خلال الفترة الماضية.
أما الشق المدني الذي يقوده رئيس الوزراء فهو يتكون من كتلة غير متجانسة من منسوبي الأحزاب السودانية، بعضها لديه ولاء تام للمحور الإماراتي السعودي، إلا أن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك يبدو زاهدًا في إقامة علاقة مع هذا المحور الإقليمي أو ذاك، إذ يركز على توطيد علاقات السودان مع المجتمع الدولي والغرب تحديدًا، فمنذ تسلمه رئاسة الحكومة وضع نصب عينيه هدف إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وهو ما تحقق أواخر العام الماضي، وما زال يسعى إلى مزيد من انفتاح السودان نحو الغرب بهدف إعفاء الديون المثقلة وجذب الاستثمارات وتمويل تنفيذ اتفاقية سلام جوبا.
شركة تركية تستأنف العمل في مطار الخرطوم الجديد
لكن حمدوك وجّه خلال لقاء له مع رئيس مجلس إدارة شركة سوما التركية، سليم بورا في يونيو/حزيران الماضي، وزارة النقل بالمضي قدمًا مع شركة “سوما” التركية للإنشاءات والاستثمارات من أجل استئناف العمل في مشروع إنشاء مطار الخرطوم الجديد.
وقال وزير النقل السوداني ميرغني موسى، إن لقاء رئيس مجلس إدارة الشركة التركية يأتي ثمرة لمخرجات زيارته الأخيرة لتركيا”، فقد زار موسى أنقرة يومي 27 و28 من مايو/أيار الماضي، ضمن وفد برئاسة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي.
وأضاف موسى “وجه رئيس مجلس الوزراء بالتواصل المباشر مع شركة سوما التركية، ومراجعة مذكرة التفاهم الموقعة سابقًا حتى يرى مشروع مطار الخرطوم الجديد النور”.
ولفت تقرير لوكالة أنباء الأناضول إلى أن السودان يعتزم بناء مطار جديد على بعد 40 كيلومترًا من العاصمة الخرطوم، بمواصفات عالمية، استجابة لاتساع حركة التنقل والاندماج مع المجتمع الدولي، وفي 2018، وقع السودان اتفاقية مع “سوما” لتشييد مطار الخرطوم الجديد عن طريق نظام “بي أو تيه” B.O.T، بقيمة تجاوزت أكثر من مليار دولار.
ووفق مراسلة الأناضول، توقف العمل في المشروع جراء ظروف تغير النظام الحاكم، إذ عزلت قيادة الجيش، في 11 من أبريل/نيسان 2019، عمر البشير من الرئاسة (1989-2019)، تحت ضغط احتجاجات شعبية منددة بتردي الأوضاع الاقتصادية.
تم الاتفاق على تخصيص هذه المساحة من الأراضي في السودان لتشغيلها من جانب تركيا
نشير أيضًا إلى أن رئيس الوزراء السوداني كان قد اطّلع على ترتيبات زيارة الوفد الوزاري إلى تركيا، إذ ترأس قبل يومين من الزيارة اجتماعًا تحضيريًا شارك فيه وزراء الدفاع والمالية والزراعة والصحة والتعليم العالي والشباب والرياضة.
التعويل على تركيا للاستثمار الزراعي وفتح الأسواق الأوروبية
خلال الزيارة الرسمية التي قام بها الوفد السوداني برئاسة عبد الفتاح البرهان إلى تركيا، تم توقيع 7 اتفاقيات ومذكرات تفاهم شملت مجالات الزراعة والطاقة والدفاع والمالية والإعلام.
لم يُكشف عن تفاصيل معظم الاتفاقيات خاصة مذكرة التعاون الدفاعي، لكن أهم هذه الاتفاقيات هي موافقة السودان على تخصيص 100 ألف هكتار (مليون فدان) من الأراضي الزراعية لتشغلها تركيا كمرحلة أولى، كما بدأت خطوات للتعاون في تصدير اللحوم السودانية إلى أوروبا عبر تركيا.
إذ قال نائب الرئيس التركي، فؤاد أوكتاي، خلال مشاركته ورئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، في اجتماع تشاوري مصغر مع رجال الأعمال والمستثمرين الأتراك، نظمه مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي في أنقرة (الجمعة)، إنه تم الاتفاق على تخصيص هذه المساحة من الأراضي في السودان لتشغيلها من جانب تركيا.
ولفت إلى وجود استثمارات تركية بقيمة 314 مليون دولار، وتنفيذ شركات المقاولات التركية 90 مشروعًا في السودان، بينها 20 مشروعًا خلال العامين الماضيين، كما افتتح بنك الزراعة التركي التابع للدولة فرعًا له في الخرطوم، موضحًا أن هذه ما هي إلا أمثلة قليلة على العلاقات الاقتصادية المتنامية بين البلدين.
رفع حجم التبادل التجاري إلى ملياري دولار
رغم العلاقات التاريخية التي تجمع الخرطوم وأنقرة فإن حجم التبادل التجاري بين البلدين يبدو متواضعًا، إذ سجّل التبادل التجاري بينهما نحو 480 مليون دولار فقط خلال العام الماضي 2020، بينما وصل حجم التبادل بين تركيا ومصر إلى أكثر من 5 مليارات دولار خلال العام نفسه رغم الخلافات السياسية العميقة بين البلدين.
لكن يُنتظر أن تفضي الاتفاقيات الأخيرة ـ إذا تم تنفيذها ـ إلى رفع حجم التبادل التجاري بين الخرطوم وأنقرة إلى ملياري دولار خلال الخمس سنوات المقبلة، وفق تصريح لرئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان.
إذ يتوقع أن تركز الاستثمارات التركية الجديدة في السودان على قطاعات الزراعة والتعدين والتصنيع الزراعي إلى جانب قطاعات الطاقة الكهربائية والاتصالات، بالإضافة إلى التطورات التي شهدها قطاع النقل الجوي والبحري بين البلدين مؤخرًا.
إستراتيجية ذكية لتركيا في التعامل مع السودان
عندما أسقطت الثورة الشعبية في السودان نظام البشير “2018 ـ 2019″، نجحت السعودية والإمارات بادئ الأمر في دفع جنرالات المجلس العسكري الذين تسلموا السلطة إلى تهميش النفوذ التركي في السودان، لكن تركيا لم تستسلم، فقد حرصت على استمرار تواصلها مع السودان عن طريق الهيئات والجمعيات الخيرية مثل وكالة التعاون والتنسيق التركية “تيكا” والهلال الأحمر التركي ووقف الديانة، بجانب منظمات المجتمع المدني الأخرى، خصوصًا في الفترة الأخيرة التي شهدت انتشار فيروس كورونا.
دبلوماسيًا، حرص وزير الخارجية التركي على استمرار الاتصالات مع وزيرة الخارجية السودانية السابقة أسماء عبد الله والحاليّة مريم الصادق المهدي، كما لعب السفير التركي في السودان عرفان نذير أوغلو دورًا كبيرًا في التواصل مع أطراف الحكومة الانتقالية في السودان.
ويُعد السفير التركي في السودان من أكثر السفراء قُربًا من الشعب السوداني، خاصة رواد موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، فهو يُتقن اللهجة السودانية ويستخدمها في تغريداته، كما يحرص على النشاط الإنساني والاجتماعي، ويبذل جهودًا لزيادة حصة السودان من المساعدات الصحية والإنسانية التركية، ودعمه للطلاب السودانيين الراغبين في الحصول على منح دراسية تركية.
سلام يا ناس السودان،
زي ماعارفين انا في اجازه في تركيا، لكن ما تفتكروا إنو انا ناسيكم، دااايما في بالي ومشتاق ليكم شديد وأي مقابلة انا عملتها هنا عملتها عشانكم وعشان السودان. لكن جاييكم قريب إن شاء الله ونواصل من محل ما وقفنا بطاقه ونشاط اكتر.? pic.twitter.com/j06UAVN9ux— ??İrfan Neziroğlu?? (@ineziroglu) August 8, 2021
كانت هذه الفقرة الأخيرة وقفة مع إستراتيجية تركيا مع السودان خلال فترة برود العلاقات، إذ كانت بعض أطراف الحكومة الانتقالية في السودان تنظر إلى تركيا على أنها دعمت النظام السابق، بينما كانت أنقرة ترى أن الخرطوم مقربة من المحور المناهض لها، لكنّ علاقات الدول دومًا تحكمها المصالح في نهاية المطاف، وهذا ما جعل العلاقات تعود إلى دفئها بين السودان وتركيا، وجعل كذلك أنقرة والقاهرة تفكران في تجاوز الخلافات نحو تطبيع العلاقات بين البلدين.
أخيرًا، الزيارة التي تم الترتيب لها جيّدًا بإشراف رئيس الوزراء السوداني حمدوك، يُتوقع أن تكون بارقة أمل للشراكة الاقتصادية مع تركيا، وأن تكون الأخيرة بوابة لتصدير المنتجات السودانية إلى أوروبا، خاصة صادرات اللحوم والمحاصيل الزراعية، بعد أن أُزيلت العقبات التي كانت تقف في طريق علاقات الخرطوم مع المجتمع الدولي ومن أهمها وجود السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب.