تحيا العلاقات السعودية السودانية حالة من التناغم منذ الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل/نيسان 2019، إذ شجع التقارب السياسي بين البلدين على مزيد من تعزيز أواصر التعاون في شتى المجالات، مهدت الطريق نحو تعميق الوجود السعودي داخل الدولة الإفريقية.
سارت العلاقات الدافئة بين الرياض والخرطوم بوتيرة هادئة نسبيًا خلال العامين الماضيين، لكنها سرعات ما تسارعت مؤخرًا خاصة بعد زيارة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك إلى الرياض في مارس/آذار الماضي، تلك الزيارة التي وضعت أبجديات مرحلة جديدة من التعاون المشترك.
لا يمكن قراءة سرعة التقارب بين البلدين بمعزل عن التوتر الذي يخيم على العلاقات بين الرياض وأبو ظبي مؤخرًا، بسبب تباين وجهات النظر حيال بعض الملفات، والتغريد المنفرد لأبناء زايد بما يهدد مصالح المملكة وأمنها القومي، الأمر الذي يدعو للتساؤل عما إذا كان هذا التقارب لتعزيز النفوذ السعودي إفريقيًا فقط أم لمزاحمة النفوذ الإماراتي سودانيًا؟
الدعم السعودي للسودان
في أغسطس/آب 2020 ترأست السعودية “مؤتمر أصدقاء السودان” وهو المؤتمر الذي دعت إليه المملكة لدعم السودان في مرحلته الانتقالية الحاليّة التي من المتوقع أن تنتهي خلال 2023/2024، وذلك للخروج من مأزقه الاقتصادي الذي يحياه منذ سنوات، وفي محاولة لدعم السلطة الحاليّة بشقيها، المجلس السيادي والحكومة.
المؤتمر لم يكن التحرك الأول سعوديًا لدعم الأشقاء في السودان، بل سبقه جهود أخرى منذ مايو/أيار 2019 حين أودعت الرياض 250 مليون دولار في البنك المركزي السوداني لتعزيز سعر صرف العملة المحلية، ويأتي هذا الرقم ضمن حزمة المساعدات التي قدمتها السعودية والإمارات للخرطوم بإجمالي 3 مليارات دولار بهدف مساعدة الاقتصاد السوداني على تجاوز صعوبات عديدة.
وقد دشن البلدان في مايو/آيار الماضي صندوقًا استثماريًا بقيمة 3 مليارات دولار على هامش زيارة وفد سوداني رفيع المستوى للرياض، برئاسة عضو مجلس السيادة السوداني رئيس الجبهة الثورية الهادي إدريس، فيما كشف وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم عن استثمارات سعودية بمبالغ مالية كبيرة ستدخل إلى البلاد خلال الفترة المقبلة.
المنافسة على الشريط الحدودي للبحر الأحمر باتت قوية لا سيما بعد تقديم المستثمرين السعوديين خطة لبناء ميناء جديد على ساحل البحر الأحمر بالسودان، ما يحمل تحديًا مباشرًا لشركة “موانئ دبي العالمية”
وزير الاستثمار السوداني الهادي محمد إبراهيم، كشف هو الآخر عن مشروعات جديدة سيتم تدشينها بين البلدين في مجالات اللحوم والسكك الحديد والنقل بجانب مجال الإصلاح وبناء الموانئ والبنى التحتية والإنتاج الحيواني والرعوي، لافتًا إلى أن حجم الاستثمارات السعودية المصدقة في الفترة من عام 2000 حتى 2020 بلغ 35.7 مليار دولار، إلا أنه أوضح أن حجم الاستثمارات التي نفذت على أرض الواقع لا يتجاوز 15 مليار دولار.
وفي يوليو/تموز الماضي تم الاتفاق على فتح 15 فرعًا للبنوك السعودية في السودان، وتشكيل لجنة وزارية بهدف تسهيل المزيد من الاستثمارات في البلد الإفريقي، كأحد مخرجات المؤتمر الذي عقده وزير المالية والتخطيط الاقتصادي السوداني جبريل إبراهيم، ووزير الاستثمار والتعاون الدولي السوداني الهادي محمد إبراهيم، مع صندوق الثروة السيادية بالسعودية و40 شركة بالمملكة.
كما كان للرياض دور كبير في إزاحة اسم السودان عن قوائم الدول الراعية للإرهاب، وهي العقوبات التي عزلتها عن المؤسسات المالية العالمية، لتفتح الباب أمام السودانيين للتعامل مع كل المنظمات الاقتصادية بما يعزز من وضعية الاقتصاد ويسمح بالحصول على القروض والتمويلات اللازمة لعبور المرحلة.
السيطرة على البحر الأحمر
تضع السعودية نصب أعينها على قائمة أجندة وجودها سودانيًا “ساحل البحر الأحمر”، هذا الشريط الممتد بطول الساحل السوداني المقابل للحدود السعودية الذي يبلغ طوله 750 كيلومترًا، يمثل أهمية إستراتيجية للمملكة، سواء على المستوى الأمني أم الاقتصادي.
تحت عنوان “الفائزون والخاسرون في سياسات البحر الأحمر في السودان” نشر موقع “africanarguments” المتخصص في قضايا القارة الإفريقية، مقالًا للكاتب جهاد ماشامون، تطرق إلى خطة المملكة توسيع نفوذها داخل السودان، خاصة ولاية البحر الأحمر المضطربة والممزقة بالصراع، من خلال الاستثمارات والمشاريع التنموية.
التقرير لفت إلى أن المنافسة على هذا الشريط باتت قوية لا سيما بعد تقديم المستثمرين السعوديين خطة لبناء ميناء جديد على ساحل البحر الأحمر بالسودان، ما يحمل تحديًا مباشرًا لشركة “موانئ دبي العالمية” وخططها من أجل السيطرة على موانئ البحر الأحمر المؤدية إلى مضيق باب المندب وتأمين خليج عدن.
كما توصلت الرياض إلى اتفاق مع الحكومة السودانية لتطوير منطقة صناعية حرة واسعة حول ميناء بورتسودان تشمل ربطه بـ800 ألف هكتار من المساحة الصالحة للزراعة في الجنوب الشرقي بالقرب من نهر عطبرة، الأمر الذي يشعل المنافسة الإقليمية على السيطرة على بورتسودان ذات الأهمية الإستراتيجية الكبيرة.
تحجيم النفوذ الإماراتي
وتذهب المؤشرات الحاليّة إلى فقدان أبو ظبي نفوذها على كل من رئيس المجلس السيادي قائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي”، اللذين يتبعان توجهات السياسة الخارجية للمملكة في الوقت الحاليّ، بحسب الموقع المتخصص في القضايا الإفريقية.
ومن الأدلة التي استند إليها الموقع في رؤيته تلك رفض البرهان المقترح الإماراتي المقدم للوساطة بين السودان وإثيوبيا الذي يقوم على تقسيم أراضي منطقة الفشقة المتنازع عليها بين البلدين، معتبرًا أن ذلك مؤشرًا واضحًا على خروج رئيس المجلس السيادي عن سلطة أبو ظبي.
العديد من المراقبين يقرأون المساعي السعودية لتعزيز نفوذها داخل السودان في إطار الحرب الباردة المستعرة مع الإمارات التي تأججت بسبب تباين وجهات النظر حيال عدد من الملفات أبرزها الملف اليمني والليبي، بجانب التقارب مع إيران والموقف من المصالحة الخليجية، هذا بخلاف الخلافات الاقتصادية التي اشتعلت مؤخرًا داخل تحالف “أوبك بلس”.
مزاحمة السعودية للوجود الإماراتي في السودان لا شك أنه سيحجم من توغل الإمارة الخليجية الصغيرة في مفاصل الدولة الإفريقية، وهي التي استغلت نفوذها المالي في توظيف معاناة الشعب السوداني لتنفيذ أجندات توسعية مشكوك في نواياها ومثيرة للقلق
المخططات الإماراتية الرامية لتعزيز الوجود على الشريط الحدودي الشرقي السوداني على البحر الأحمر، المقابل للشريط اليمني، بهدف السيطرة على هذه البقعة الحيوية التي تتحكم في مرور نفط وتجارة العالم من الغرب للشرق والعكس، أثار قلق السعوديين بصورة دفعتهم لمزاحمة هذا النفوذ عمليًا بعد فشل الدبلوماسية في إقناع الحليف الخليجي بالتخلي عن تلك الأطماع التي تهدد الأمن القومي للحلفاء على رأسهم السعودية ومصر.
يذكر أن أجندة أبناء زايد الإقليمية تلقت ضربات موجعة في أكثر من ملف، الأمر الذي أدى إلى تقزيم الدور الإماراتي في المنطقة بصورة مغايرة تمامًا لما كانت عليه قبل 5 سنوات على سبيل المثال، حين كانت تخطط الإمارة الصغيرة حينها لسحب بساط الريادة الشرق أوسطية من تحت أقدام القاهرة والرياض معًا.
مزاحمة السعودية للوجود الإماراتي في السودان لا شك أنه سيحجم من توغل الإمارة الخليجية الصغيرة في مفاصل الدولة الإفريقية، وهي التي استغلت نفوذها المالي في توظيف معاناة الشعب السوداني لتنفيذ أجندات توسعية مشكوك في نواياها ومثيرة للقلق، فهل تنجح الرياض في إقصاء أبو ظبي من المشهد السوداني برمته؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.