أثار الصعود الكبير الذي أطّر عملية سيطرة حركة طالبان على الساحة الأفغانية، بعد وصولها إلى قلب العاصمة كابل، الكثير من الأسئلة والاستفسارات عن المشهد المقبل في أفغانستان بعد صعود الحركة.
ورغم تقديم الحركة الكثير من التطمينات في الداخل والخارج، إلا أن ما يثير الاهتمام هنا ليس التعهُّدات التي تقدمها الحركة، وإنما التأثير الذي سينتجه صعودها على الخارطة السياسية والتوازنات الجيوسياسية في منطقة آسيا الوسطى، وعلى الأبعاد الجيوستراتيجية القريبة، وتحديدًا في القوقاز والشرق الأوسط، حيث تنظر أغلب القوى الإقليمية اليوم بنظرة تسودها حالة الشك وعدم اليقين لطبيعة التحديات التي سيفرزها صعود الحركة.
وفي هذا السياق يمكن القول إنه في الوقت الذي تواجه فيه العديد من الدول المحيطة والمتفاعلة مع التطورات في الشأن الأفغاني، تحدّيات سياسية واجتماعية واقتصادية وحتى أمنية، فإن هناك تحدّيات تتعلق بطبيعة الترابط بين مستجدات الساحة الأفغانية والتوازنات الدولية.
ولعلّ هذه الصورة تشير بدورها إلى الخشية الكبيرة التي يمثلها بروز دولة ذات هوية دينية مذهبية متشددة جديدة على الخارطة العالمية، وما يزيد من هذه الخشية أنها ستكون مجاورة لدولة ذات هوية دينية مذهبية راديكالية متضادة، وهذا ما يزيد من حساسية الموقف.
فَفرص التعايش بين طالبان و”الثورية الشيعية”، قد لا تدوم طويلًا بعد وصول الحركة للحكم، ورغم علاقات التحالف التكتيكي التي جمعت الحركة بإيران في الفترة الماضية، إلا أنه بعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، وسيطرة الحركة على الحكم، يعني أنه لم يعد هناك مبرّر لاستمرار هذا التوافق، أي دخول العلاقة بين الطرفَين في عهد جديدة من التعامل والتنافس.
لماذا لم تتحرّك إيران حتى اللحظة لتدارُك الوضع في أفغانستان؟
بدايةً تحاول إيران تجنُّب أي حالة تصعيدية مع حركة طالبان، لأنها تدرك أن الأمور أصبحت محسومة للحركة بنسبة كبيرة، ومن ثم إن التصعيد معها يعني إمكانية أن ترتكب الحركة جرائم إبادة بحقّ “الشيعة الهزارة” من جهة، خصوصًا بعد سيطرتها على ولاية مزار شريف الشيعية، إلى جانب غلق الممرّات الحدودية مع إيران من جهة أخرى.
كما تحاول إيران كسب الوقت لإعادة هيكلة ميليشيا فاطميين الأفغانية، سواء عبر تجنيد مقاتلين جدد، أو عبر إعادة بعض المقاتلين من سوريا، ولذلك هي لا تفكر في مواجهة الحركة حتى تستعد لذلك جيدًا، خصوصًا أنها خسرت أبرز حليف لها في أفغانستان، هو إسماعيل خان الملقّب بـ”أسد هرات”، بعد تسليم نفسه للحركة.
تحاول إيران حاليًّا أن تؤسِّس لفكرة أن توجُّه الحركة لا يختلف كثيرًا عن توجُّهها.
تدرك إيران أن محاولة إنتاج “حشد شعبي أفغاني” جديد مسألة صعبة جدًّا في أفغانستان بالوقت الحاضر، رغم دعوتها لذلك، لعدة أسباب أهمها؛ عدم وجود رمزية شيعية مُعتدّ بها في أفغانسان يمكن أن تؤسِّس لذلك، إضافة إلى عدم وجود عمق استراتيجي يربط إيران مباشرة بمناطق انتشار “الشيعة الهزارة”، ما يعني أن فرصة إدامة هذا الحشد صعبة جدًّا.
أما الخشية الأكبر التي تواجه إيران في عدم التصعيد مع الحركة، بعيدًا عن مشكلة اللاجئين والحدود وغيرهما، مشكلة أن تنجح الحركة في حالة المواجهة مع إيران في تحريك الحركات البلوشية المسلّحة في جنوب شرق إيران، حيث ترتبط هذه الحركات، وأبرزها “جيش العدل”، بسياقات فكرية وأيديولوجية ومنهجية مع حركة طالبان، وتخوض مواجهات متقطِّعة مع الحرس الثوري الإيراني بين الحين والآخر، ويبدو أنها تتحيّن الفرصة لذلك أيضًا.
تحاول إيران حاليًّا أن تؤسِّس لفكرة أن توجُّه الحركة لا يختلف كثيرًا عن توجُّهها، في إنهاء الوجود الأميركي في المنطقة، ولذلك هي تحاول استمالة الحركة عبر هذا المسار، كما تحاول أن تُبعد فكرة أنها دولة تدعم الحركات القريبة منها مذهبيًّا فقط، وإنما هي داعم لكل حركات التحرُّر في العالم، بغضّ النظر عن توجُّهها الأيديولوجي والعقدي.
وتراهن إيران حاليًّا إلى جانب خيارها العسكري، على الدور السياسي الذي يمكن أن يلعبه تحالف قبائل الشمال في أفغانستان المستقبلية بعد سيطرة طالبان، حيث إن معاداة إيران لحركة طالبان يعني وقوع الحركة في حضن باكستان وتركيا.
يعني ذلك استراتيجيًّا تشكيلَ حالة توازنية جديدة في منطقة آسيا الوسطى تستثني إيران، وتعيد هندسة موقعها ضمن مبادرة الحزام والطريق، ويجعلها تواجه خيارات صعبة للغاية، بين صعود تركي-باكستاني من جهة الشرق، ومحور عربي-إسرائيلي من جهة الغرب.
قد تواجه الولايات المتحدة هزيمة أخرى!
إن البراغماتية التي تتّصف بها السياسة الإيرانية، جعلتها قادرة على التخلُّص من العديد من المضايقات الاستراتيجية التي وقفت أمامها. وفيما يتعلق بأفغانستان، تشير حالة الوفاق التي جمعت الحركة بإيران في مرحلة ما بعد غزو أفغانستان، إلى إمكانية أن تنجح إيران في إعادة نسج خيوط هذه العلاقة القديمة مرة أخرى.
ولذلك إن الإدارة الأميركية لا بد أن تدرك أن عملية الانسحاب قد تنتِج دولة دينية جديدة في المنطقة، وقد تُعيد هذه الدولة تشكيل الخارطة السياسية وفق المعطيات الجديدة، خصوصًا أن هناك الكثير من الحركات الدينية التي ستحاول أن تستلهم من التجربة الأفغانية، والحديث هنا عن حلفاء إيران في العراق، الذين عبّروا مرارًا وتكرارًا عن إعجابهم بتجربة حركة طالبان في التعاطي مع الوجود الأميركي في العراق.
الظروف الإقليمية المعقّدة التي تعيشها إيران اليوم، ستجعل قادة هذه الدولة يراجعون مواقفهم السياسية ما بين التهدئة أو التحشيد.
فضلًا عن ذلك، تشير الجهود التي تبذلها الصين في فتح قنوات اتصال مع قيادات الحركة، إلى إمكانية أن يصل الطرفان إلى نقط التقاء سياسي رغم التضاد الأيديولوجي، من منطلق العداء المشترَك للولايات المتحدة.
ولذلك إن نجاح الصين في استمالة الحركة، يعني إعطاء إيران فسحة استراتيجية تستطيع التحرك من خلالها، بعيدًا عن الضغوط التي يمثّلها صعود الحركة في أفغانستان، خصوصًا أن أفغانستان تشكّل جسرًا بريًّا يربط الصين بإيران، ولذلك إن أي نجاح تحقّقه الصين في هذا الإطار، سينعكس استراتيجيًّا لمصلحة إيران بالنهاية.
ومن خلال ما تقدّم، يمكن القول إن الظروف الإقليمية المعقّدة التي تعيشها إيران اليوم، ستجعل قادة هذه الدولة يراجعون مواقفهم السياسية ما بين التهدئة أو التحشيد في أفغانستان، وهذه المواقف ناجمة عن حالة عدم اليقين التي تعيشها إيران.
ففي الوقت الذي يوسِّع فيه الحرس الثوري الإيراني من خارطة المواجهة وينوِّعها، بحسب مستوى التأثير والفاعلية، نجدُ أن الضغوط الدولية تتزايد على إيران.
وفي ظلِّ هذا التعقيد السياسي، سيظلّ ملف المواجهة الساخنة أو السلام المقلق في العلاقات الإيرانية الأميركية حاضرًا بقوة على مسرح الأحداث الإقليمية، حتى تتّضح معالم الواقع الأمني المقلق في أفغانستان مستقبلًا.