أُسدلَ الستار عصر أمس عن صراع من أطول الصراعات وأكثرها غرابة في العصر الحديث، حيث تمكّنت حركة طالبان من السيطرة على الحكم في أفغانستان مرة أخرى بعد 20 عامًا من إسقاطها عنه.
جرى ذلك بعد أن ربحت الصراع مع أكبر القوى العظمى في العالم، على رأسهم أمريكا، لتدخل قيادات الحركة القصر الرئاسي الحاكم في العاصمة كابل، بعد فرار قوات الأمن وهروب الرئيس أشرف غني إلى طاجيكستان.
ماذا حدث؟
منذ أسابيع وطالبان تدهشُ العالم، سيطرت على كل معاقل الحكومة، خطفت أكثر من نصف عواصم المقاطعات الأفغانية البالغ عددها 34، أي ما يقدَّر بنحو 65% من البلاد مطلع الشهر الحالي، ليحاول الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني الحشد في الوقت الضائع بالشمال للدفاع عن مزار الشريف، رابع أكبر مدينة في البلاد، والتي تُعتبر شفرة انتصار طالبان الآن، لكن باءت محاولته بالفشل.
يمكن القول إن أسابيع قليلة فصلت بين رحيل القوات الأمريكية وتقدُّم طالبان بسرعة البرق، لتدمِّر إرث عقدَين من الزمن ومليارات الدولارات التي أنفقتها الولايات المتحدة وشركاؤها لإنشاء قوات قتالية أفغانية قادرة على المواجهة.. والسؤال: كيف حدث ذلك؟
فساد الجيش والشرطة
تغلبت طالبان بعقيدتها الدينية والفكرية والعسكرية، وقواتها التي لا تزيد عن 57 ألف مقاتل، على الجيش الأفغاني الحديث، الذي يضمّ أعدادًا جرارة تقارب 400 ألف جندي، من جيش وشرطة وقوات جوية، خُمسهم على الأقل قوات خاصة مدرَّبة تدريبًا عاليًا، بخلاف أرقام غير معلَنة للجماعات شبه العسكرية المدرَّبة من قبل وكالة المخابرات المركزية، وكذلك الميليشيات المرتبطة بأمراء الحرب في البلاد.
نجحت طالبان في اللعب على فساد الجيش الأفغاني وتدنّي عقيدته القتالية، وتزايُد الصراعات داخله، لهذا اعتمد مقاتلو طالبان في خطتهم العسكرية على تكثيف توغُّلهم في معظم أنحاء أفغانستان، واستهدفوا عواصم المقاطعات والاستيلاء على منطقة تلو الأخرى بأسرع وقت ممكن، ما أشاع الرعب في قلوب ضبّاط وجنود الجيش، خاصة بعد رحيل القوات الأجنبية.
خلال الأعوام القليلة الماضية، دار في الجيش صراعات طاحنة بسبب أجواء الفساد التي أشاعتها نخب سياسية وعسكرية أدمنت السرقة والنهب، لدرجة أن الجنود كانوا يشكون ليس فقط من المعدّات دون المستوى، لكن حتى من سوء ورداءة العناصر الأساسية مثل الزي والأحذية، التي كانت تنهار في غضون أسابيع من استلامها بسبب فساد المقاولين.
وذلك ما رصدته وكالة “أسوشيتد برس” قبل أسابيع، وركزت في تقارير لها على ارتداء جنود أفغان أحذية ذات ثقوب متداخلة، وخوذات ضعيفة ومتهالكة، وأسلحة معطّلة، وقبل هذه التقارير بأعوام، خاصة عام 2019، ألقت وسائل الإعلام الأجنبية الضوء على فساد نظام الرواتب في الجيش الأفغاني، وفجواته الهائلة بين مستويات القوة والأسلحة.
مع انسحاب الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، لم يبقَ بمقدور القوات المحلية -نفسيًّا وعسكريًّا- القدرة على الفوز بأي مواجهة على الأرض.
الأمر نفسه تكرّر في الشرطة المدنية خاصة في جنوب البلاد، المعروفة بتأييدها العاطفي والديني لحركة طالبان، وكشفت التقارير أن نسبة 50% إلى 70% من مواقع الشرطة التي تتقاضى مرتّبات تخصَم من ميزانية الدولة، مخصّصة لأفراد غير موجودين بالأساس.
القوة الجوية
واحدة أيضًا من مفاجآت عودة طالبان، خرافة الحسم بالقوة الجوية، التي أصبحت تعبِّر عن إفلاس تكتيكي وجبن وعدم قدرة على المواجهة، إذ كان الصراع يحسَم كثيرًا على مدار السنوات الماضية بين الجيش الأفغاني ومقاتلي طالبان بالقوة الجوية لأمريكا والناتو، وهو ما كان يعطِّل قوات طالبان بالفعل، لكنه أيضًا أعطى قناعة لأفغان الجيش أن الحرب مع طالبان لن تكون ممكنة إلا بالتدخل الجوي فقط.
لكن مع انسحاب الولايات المتحدة وحلفائها في “الناتو”، لم يبقَ بمقدور القوات المحلية -نفسيًّا وعسكريًّا- القدرة على الفوز بأي مواجهة على الأرض، خاصة مع توقف الاستطلاع والمعلومات الاستخباراتية التي كانت مهامًّا شبه حصرية للقوات الاجنبية، وانتهت فاعليتها برحيلها، وأصبحت الريادة في مجال المعلومات لـ”طالبان”.
سيطرت الحركة سريعًا على أكثر من 80% من الطرق السريعة في البلاد، وقطعت الاتصال بين الآلاف من قواعد الجيش والشرطة ونقاط التفتيش، وهي تكتيكات سبق لطالبان استخدامها في القتال ضد السوفيت، لتبدأ معركة السيطرة على العاصمة كابل وتسلُّم السلطة.
معركة الضواحي
توغّلت طالبان في ضواحي كابل، وبدا واضحًا أن الحركة تستخدم خطابًا سياسيًّا مختلفًا في التعامل مع العالم، إذ أعلنت أنها تسعى لضمان “انتقال سلمي للسلطة”، وبعد إحكام الحصار هربَ الرئيس أشرف غني سريعًا، لتعجِّل هذه الخطوة من تسريع تسليم السلطة، ويبدو أن هناك تفاوضًا جرى معه ليخرج بسلاسة من البلاد دون مضايقة.
غادر أشرف غني كابل مع عائلته وعدد من المسؤولين عبر طائرتَين، كما لم تتعرّض طالبان لأي من مسؤولي الاتحاد الأوروبي، أو رعايا السفارات الأجنبية، ونُقِلوا جميعًا إلى أماكن آمنة في العاصمة، ثم بدأت الولايات المتحدة في إجلاء سفارتها ودبلوماسييها بالطائرات المروحية إلى المطار.
انعكسَ ذلك الهدوء والتعامُل السياسي الحكيم من طالبان مع الأزمة بجانب حسمها العسكري، على ردود الأفعال الدولية التي لم تكن انفعالية في أغلبها، لا سيما الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي دعا “جميع الأطراف الأفغانية” إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس، بعد ساعات من دخول مقاتلي الحركة إلى كابل.
استغلت طالبان ذلك وروّجت سريعًا في حوارات مع وسائل الإعلام الدولية، أنها ستعمل على تشكيل حكومة تشاركية مع مختلف مكوِّنات الشعب الأفغاني، لكن القرار النهائي سيكون للجنة السياسية لطالبان، وإن كان غير معروف حتى الآن من تقصدهم بالتشارُك وعلى أي أرضية، خاصة إنها لا تحيد عن منطق إعلان الإمارة الإسلامية -حسب المقاسات الطالبانية-، وهو ما ستكشفُ عنه أحداث الأيام المقبلة.
لكن عملية الدخول للقصر الرئاسي لم تحمل طابعًا عنيفًا، وجرى تصويرها بكاميرات فضائية، ونُقلت تصريحات عن مسؤول تأمين العاصمة والبعثات الدبلوماسية في حركة طالبان الملا حمد الله، الذي قال: “دخلنا إلى القصر الرئاسي بفضل من الله بعد 20 عامًا من القتال المستمر ضد القوات الأجنبية والقوات الحكومية، ونحن نطمئنُ كل المسؤولين والقيادات السابقة في الحكومة الأفغانية والوزراء وقادة الجيش والشرطة وأهالي كابل”.
ووزّعت طالبان مجموعات تتكوّن كل واحدة من 15 مسلحًا، على جميع المقرّات الحكومية والسفارات والبعثات الدبلوماسية لحمايتها، كما أقامت حواجز ونقاط تفتيش على مداخل المدينة وفي الشوارع الرئيسية.
تسلسل زمني للأحداث منذ إعلان اتفاق الدوحة الذي يقر انسحاب القوات الأمريكية بصورة نهائية من أفغانستان، أعده الزميل تمام أبو الخير.
تحدّيات طالبان الصعبة
نجحت طالبان في أهدافها التي لم تتنازل عنها على مدار 20 عامًا، وأثبتت أولًا أن المنطق الأمريكي والغربي غير صالح لأفغانستان، وهو درس ليس مجانيًّا للجميع، إذ تعمل الإدارة الأمريكية منذ عام 2001 على حقن المجتمع الأفغاني بالمنطلقات الغربية، لكن التطلُّعات الديناميكية للشعب على مدار عقدَين لم تتجاوب كليًّا مع ذلك.
أثبتت طالبان أيضًا أنها قادرة على كسب السلطة في أي لحظة كانت بساحات المعارك، وليس بطاولات المفاوضات أو صناديق الاقتراع، ما يعني أن أي قوة دولية لن تستطيع منع طالبان لاحقًا من استخدام العنف لاحتكار السلطة.
لكن رغم هذه الافتراضات، هناك أيضًا مكتسبات واضحة، أصبحت بمثابة تحديات مؤذية لتوجُّهات طالبان، وبصفة خاصة التوسُّع في تعليم النساء بكل المستويات التعليمية، واندماج ممثّلي العرقيات المتنوِّعة مع جميع جوانب الحياة العامة.
كانت الحكومات الأفغانية التي دعمتها الولايات المتحدة بعد عام 2001، قد فتحت الباب على مصراعَيه أمام إنشاء مجتمع مدني فعّال -رغم الفساد والفقر وانعدام الأمن-، وساهمَ ذلك في تغيُّر المجتمع الأفغاني، ما انعكس على تزايد عدد العلماء الأفغان الشباب البارزين بالداخل والخارج.
كما تزايدت التيارات الثقافية والفكرية التي تروِّج للتعددية السياسية والثقافية، وترفض إعادة النساء للمنزل، ما سيفرض على طالبان أزمات مستمرة لم تكن موجودة في سابق عهدها، بعد أن أصبحت إزاء حكم مجتمع مختلف كليًّا، ستتعارض توقعاته مع أي سيناريو يريد إعادة البلاد للخلف، هذا بالفعل إن كانت كما أعلنت أمس، تريد تشكيل حكومة تساعدُ الجميع على تحقيق تطلعاتهم في مجتمع أكثر عدلًا وسلمًا!