منذ إعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد تجميد عمل البرلمان وإقالة رئيس الحكومة، تحاول عدة أطراف سياسية تقديم تصوراتها للخروج من الأزمة الدستورية التي تشهدها البلاد، وعلى رأس تلك الأطراف حركة النهضة التي أعلنت مؤخرًا تشكيل لجنة مؤقتة لإدارة الأزمة السياسية الداخلية.
ارتأى “نون بوست” إجراء حوار خاص مع رئيس اللجنة وعضو المكتب التنفيذي لحزب حركة النهضة، محمد القوماني، من أجل التعرف على آلية عمل الحركة في هذا السياق، وتحديد طبيعة تصوراتها المتعلقة بالمرحلة القادمة، وحجم التضحيات التي قد تقدمها في سبيل العودة إلى الوضع الطبيعي المؤسساتي في تونس.
كيف تقيمون الوضع الحاليّ؟
بعد مرور أكثر من 3 أسابيع على القرارات الرئاسية، يتبيّن أن الأزمة التي جاءت القرارات لتعالجها ما زالت تترنح، فغياب الحكومة طيلة هذه المدة لا يساعد على معالجة أولويات البلاد الصحية والمالية، إذ إن عدد وفيات كورونا ما زال مرتفعًا، وتراجع احتياطي النقد الأجنبي لتونس يشكك بقدرة الدولة على صرف رواتب موظفي القطاع العام.
ضمن الحلول التي تراها النهضة لمعاجلة الأزمة الحاليّة، التوجه لانتخابات مبكرة تعيد السلطة لصاحبها
قرارات سعيد جاءت بصفة استثنائية لتعالج الأزمة، وقد كان عندها بعض المقبولية كونها حاولت كسر حلقة صارت مغلقة سياسيًا ودستوريًا، لكنها إلى الآن لم تتقدم بأفق حل يعطي ارتياحًا للداخل والخارج، خاصة جهات التمويل التي تستحقها البلاد (صناديق مالية ودول مانحة).
هل تتقاطع مواقف النهضة مع الرئيس؟
ثمة بعض عناصر التقاطع الأساسية في توجهات الرئيس قيس سعيّد مع حركة النهضة، منها تجديد التزامه باتجاهات الثورة ومقاومة الفساد وملاحقة المفسدين وإنفاذ القانون على الجميع دون محاباة ولا أي اعتبارات تمس مبدأ المساواة بين المواطنين.
حيث تكون مصلحة تونس تكون حركة النهضة، هناك فرصة لاستئناف المسار الطبيعي بأقل الخسائر الممكنة، مستفدين من أخطاء قبل 25 يوليو، ومتأكدين أننا لن نعود إلى الوراء، فالوضع الاستثنائي يبقى استثنائي ولا يمكن أن يدوم طويلًا.
ما مهمة لجنة الأزمة؟
قررت النهضة تشكيل لجنة تكون مهمتها إيجاد حلول عملية للخروج من الوضع الاستثنائي والعودة للمسار الطبيعي المؤسساتي، وهذه اللجنة مفوضة حصريًا لإجراء الحوارات والتفاهمات، وكل ما يمكن أن ييسر العودة إلى الوضع الطبيعي واستئناف البرلمان لأدواره، وخاصة تزكية الحكومة التي نرجو أن يعجل الرئيس بتعيين الشخصية المكلفة بتشكيلها.
النهضة ستبدي المرونة المعهودة منها، وستجري اتصالات مع الفاعلين بدءًا بقصر قرطاج إن أمكن ذلك، إلى جانب الأحزاب السياسية والمنظمات والشخصيات الوطنية وكل الفاعلين القادرين على المساعدة لإيجاد مخرج من الأزمة.
مكسب الديمقراطية والحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور، مكسب وطني جاء بتضحيات أجيال وشهداء الثورة، وهي مكاسب غير قابلة للانتكاس، نحن مع كل أحرار تونس، عيوننا مفتوحة، وحذرين جدًا من كل الانتهاكات التي يمكن أن تمس الحقوق على غرار الانتهاكات التي حصلت ضد النواب والقضاة والمحامين والمدونيين والصحفيين، وهي انتهاكات غير مقبولة.
هل يمكن أن نشهد انتخابات مبكرة؟
التوجه لانتخابات مبكرة هي ضمن الحلول التي تراها النهضة لمعاجلة الأزمة الحاليّة، إذا لزم الأمر لإعادة السلطة لصاحبها وإعادة الشرعية لصاحب السيادة وهو الشعب.
نرى أن الانتخابات المبكرة هي الحل الأرجح، في ظل تعطل الحياة الديمقراطية، حيث تبيّن أن وضع مجلس نواب الشعب خلال دورتين غير جيد وحالته مرذلة، إذ يشهد تشظيًا وعليه غضب شعبي.
البلاد لا يمكن أن تسير دون سلطة تشريعية، فإن أوقفنا البرلمان نهائيًا وتم حل الحكومة، فقد دخلنا واقعيًا في الحكم الفردي، الذي لا يقبله أحد لتونس بعد ثورة 14 من يناير/كانون الثاني 2011، لكن من الضروري تنقيح القانون الانتخابي مباشرة بعد استئناف عمل البرلمان.
هل يمكن أن يستقيل الغنوشي من رئاسة البرلمان؟
من غير المقبول أن يبقى البرلمان في حكم المعلق، فهذا الوضع لن يتحمله أي من الأطراف المعنية، لذلك يجب استئناف عمل البرلمان بتفاهمات تتعلق بإدارة مختلفة وترتيب أولوياته وتحسين أدائه الذي عرف هزات كبرى في أغلب مراحل الفترة الماضية.
مرونة النهضة، تظهر أيضًا في عدم اعتراضها على تعديل النظام السياسي
عندما يستأنف البرلمان أشغاله، سيكون المشهد مختلفًا بالتأكيد، وتشمل هذه التغييرات الأغلبيات أو أوضاع الكتل، وإدارة البرلمان أي الرئاسة أيضًا.
حركة النهضة مستعدة للتعامل بمرونة كافية بما في ذلك أن يتخلى الغنوشي عن رئاسة البرلمان، لكن كل شيء سيحصل في أوانه أي عندما يستأنف البرلمان نشاطه، فهذا الموضوع يهم النواب، أي أنه يُتخذ في إطار المجلس وليس في إطار وصاية أو شروط تفرض قبل استئناف البرلمان.
ماذا عن النظام السياسي؟
تظهر مرونة النهضة أيضًا في عدم اعتراضها على تعديل النظام السياسي، فإن لزم الأمر، يمكن إجراء تعديلات في النظام السياسي، فلا مانع في ذلك إن كان ضمن آليات الدستور وإرادة الشعب.
نحن في حاجة لتعديلات واضحة في النظام السياسي استجابةً لغضب التونسيين، وخاصة الشباب منهم، وكل ذلك في إطار الحوار، فلا سبيل للخروج من أي أزمة إلا بالحوار الذي لا يقصي أحدًا ولا يستقوي فيه أي طرف على البقية مهما كانت القوة والشرعية التي يمتلكها.
هل كان سعيد جاهزًا لما بعد 25 من يوليو/تموز؟
الرئيس كان معذورًا، وكان مقبولًا منه أن يتخذ قرارات لكسر حلقة مغلقة، وإنهاء حالة التردي في البلاد على جميع الأصعدة، لكنه ذهب بعيدًا في خرق الدستور، واستعمل المادة 80 بغير مقتضياتها كما أكد ذلك أغلب فقهاء القانون الدستوري والعام.
بعد 3 أسابيع توجد صعوبة في الانتقال إلى المرحلة الجديدة لأن الرئيس قيس سعيّد لم يكن جاهزًا في تصوره لما بعد قرارات 25 من يوليو/تموز، إذ لم تكن نظرته للحكومة القادمة مكتملة، كما أن الإجراءات المتوقعة خاصة على المستوى الاقتصادي لم تكن عميقة وناضجة بالقدر الكافي.
توجد ضغوط من المجتمع التونسي المتمسك بحقوقه وحريته، وقد رأينا ذلك في ردود فعل المحامين والقضاة على الإجراءات المخالفة للقانون، الأمر الذي انجر عنه تراجع القضاء العسكري ومحاولات مهاجمة المنازل وترويع المتهمين.
ويجدر بالذكر أن بعض القوى الإقليمية المجاورة وأخرى دولية حريصة على ديمقراطية تونس واستقرارها السياسي وقد كان لها دور -إلى حد ما- في فرملة قرارات الرئيس ومسار ما بعد 25 من يوليو/تموز.
المهم هنا أن نصل إلى حلول بأيدينا وليس بأيدي عمرُ، فمن الأفضل للتونسيين أن ينأوا ببلادهم عن التجاذبات الإقليمية، فنحن بلد صغير وتقليديًا بعيد عن تنافس المحاور التي دمرت العديد من البلدان الصديقة وأدخلتها في أتون صراعات كبيرة.
هل يقبل التونسيون العيش دون دولة؟
في رده على ما يتداول من إمكانية توجه الرئيس سعيد لفرض سياسة الأمر الواقع وحل البرلمان وتعليق العمل بالدستور، وفرض نظام “الجماهيرية” واللجان الشعبية، قال: “تاريخ تونس الطويل وخاصة المعاصر، يثبت لكل الباحثين والمتابعين أن التونسيين لا يقبلون العيش دون دولة، وأنهم قدموا تنازلات عديدة ليكونوا في حاضنة الدولة”.
حتى التحولات السياسية ذات المنزع الانقلابي، حصلت في إطار الدستور، سواء بتسلم الحبيب بورقيبة الحكم في عهد الباي مباشرة بعد الاستقلال، وأيضًا في تسلم زين العابدين بن علي السلطة من بورقيبة سنة 1987، أو في تسلم قيس سعيّد لمقاليد الحكم انطلاقًا من الفصل 80.
ضعف الدولة أو غيابها تمامًا، هو خطر لن يقبل به التونسيون ولا جيران تونس، فغياب الدولة يعني إدارة التوحش، وتونس لا تتحمل لا الحشد الشعبي ولا أنظمة مجالسية لا تقوم على انتخابات واضحة وديمقراطية.
ماذا لو ثبت انقلاب الرئيس؟
يملك الرئيس سعيد أفكارًا خاصة عبّر عنها في حملته التفسيرية قبل سنة 2019 وخلالها، وما زال يردد البعض منها في تصريحاته الإعلامية المتتالية، فهو مُصنف ضد المنظومة بأكملها، وليس ضد مؤسسة بعينها أو حزب بعينه، فضلًا عن أنه ضد منظومة الأحزاب ومنظومة الديمقراطية غير المباشرة.
ما هو ثابت إلى الآن، أن الرئيس لم يكسب أغلبية تسانده في هذه التوجهات التي لم يحولها إلى مشاريع قوانين واضحة، فهو كان وما زال يتمتع بتأييد شعبي كبير بصفته رئيسًا للجمهورية، أما برنامجه التفصيلي بشأن طبيعة الحكم الذي يريده فهذا لم يُعرض بعد على الرأي العام.
من جانبا، نحن في حركة النهضة، كنا جزءًا مهمًا ممن صوتوا لصالح سعيّد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لكن لم نصوت لبرنامجه الذي لم يفصح عنه بالتفصيل.
الضمان الأبرز لعدم انزلاق البلاد نحو الحكم الفردي أن أغلبية النخب التونسية وحتى الشعب تميل إلى نمط الدولة التقليدية وآلياتها المؤسساتية، فحتى الذين أيدوا إجراءات 25 من يوليو/تموز وانتقدوا منظومة الحكم قبلها، يفصحون الآن بصورة واضحة أنهم ضد إلغاء الدستور والبرلمان وأنهم مع الإصلاحات والحوار لتحسين أداء المؤسسات.
نحن نأخذ الرئيس على ظاهر تصريحاته التي أكد فيها أنه ما زال يعمل في إطار الدستور وأنه ليس ديكتاتورًا وسيحمي الحقوق والحريات، فالأصل أن نعود إلى الوضع الطبيعي.
إن لم يرجع الحال إلى طبيعته، ومضى الرئيس سعيد في خطوة أخرى بإلغاء الدستور وحل البرلمان، سندخل في مرحلة سياسية مختلفة وعلى الرئيس أن يكون واضحًا في هذه النقطة، فلا بد من قرار حاسم وكل خيار له تكلفة وتبعات.