فتحَ إعلان الاحتلال الإسرائيلي السماح للفلسطينيين ببناء ألف وحدة سكنية في مناطق “ج” من الضفة الغربية، باب التساؤل عن دوافع ودلالات هذا القرار، تزامنًا مع الإعلان عن بناء وحدات استيطانية في ظلِّ الحكومة الائتلافية، التي يرأسها نفتالي بنيت بالشراكة مع يائير لابيد.
وبالتوازي مع القرار الإسرائيلي الأخير، فإن عدة تسريبات خلال الأسابيع الأخيرة أشارت إلى بدء الإدارة الأميركية الحالية إجراءات بناء الثقة بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، عبر سلسلة من الإجراءات والقرارات التي تستهدفُ تعزيز مكانة السلطة اقتصاديًّا واجتماعيًّا.
وتشكّل مناطق “ج” حوالي 62% من أراضي الضفة الغربية المحتلة، التي بموجب اتفاقية أوسلو المبرَمة بين منظمة التحرير والاحتلال الإسرائيلي، فإن السلطة مسؤولة عن تقديم الخدمات الطبية والتعليمية للفلسطينيين في المنطقة “ج”، بينما تسيطر “إسرائيل” على الجوانب الأمنية والإدارية والقانونية.
ومنذ سنوات امتنعت سلطات الاحتلال عن منح الفلسطينيين موافقات على البناء في هذه المناطق، فيما وسّعت من عمليات مصادرة الأراضي وهدم المنازل تحت ذريعة عدم الترخيص أو البناء غير القانوني، ما أدّى إلى أزمة كبيرة في ظل التمدُّد السكاني والجغرافي.
توسُّع استيطاني وسلب للأراضي
يقول رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، وليد عساف، إن الاحتلال لم يعلن منذ سنوات عن السماح بالبناء في مناطق “ج”، إلا أن القرار يتزامن مع الإعلان عن بناء 2200 وحدة استيطانية جديدة في الضفة، ما يعني أن القرار يندرج في سياق تمرير البناء الاستيطاني.
ويضيف عساف لـ”نون بوست”: “هناك أزمة حقيقية في موقعَين، أولهما في الأغوار، وفي هذا المكان يمارِس الاحتلال عمليات هدم واسعة، وهناك تجمعات فلسطينية مهدَّدة بالهدم بشكل كامل مثل الخان الأحمر وحمصة، بالإضافة إلى 155 قرية، أما المنطقة الثانية فهي محيط القرى والمدن والبلدات قرب الجدار”.
ويُعتبر رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان أن الإعلان عن بناء ألف وحدة سكنية فلسطينية، لن يغيّر من الواقع شيء في ظل وجود 30 ألف وحدة سكنية مهدَّدة بالهدم في مناطق “ج”، في محيط البلدات والمدن الفلسطينية.
لم يستطع الاحتلال في بعض مناطق الأغوار نقل أكثر من 12 ألف مستوطن خلال 55 عامًا، رغم تقديمه إغراءات مالية كبيرة للمستوطنين.
وبحسب عساف، فإن الفلسطينيين في مناطق “ج” بحاجة إلى 50 ألف وحدة سكنية على الأقل، لحلّ الأزمة القائمة حاليًّا دون التخطيط للأعوام القادمة، وفي حال الرغبة في التخطيط لمدة 5 سنوات، فإن المطلوب ترخيص 100 ألف وحدة سكنية في مناطق “ج”.
ويحذِّر عساف من أن يكون الحديث عن بناء ألف وحدة سكنية في سياق التغطية على البناء الاستيطاني، أو ضمن عملية تستهدف هدم التجمعات الفلسطينية، مثل الخان الأحمر وحمصة الفوقا شرق طوباس، ومناطق شرق القدس المحتلة خلال الفترة المقبلة.
ويلفت عساف إلى أن سلطات الاحتلال منحَت تراخيص لبناء 40 ألف وحدة استعمارية على مدار السنوات الخمس الماضية، إلا أن ما تمّ بناؤه على الأرض لم يتجاوز 10 آلاف وحدة، والسبب يعود لوجود رفض من قبل المستوطنين للانتقال إلى مناطق الضفة، بدلًا من البقاء داخل الأراضي المحتلة عام 1948.
ولم يستطع الاحتلال في بعض مناطق الأغوار نقل أكثر من 12 ألف مستوطن خلال 55 عامًا، رغم تقديمه إغراءات مالية كبيرة للمستوطنين، تصلُ في بعض الأحيان للحصول على مقابل مالي يقدَّر بنحو 20 ألف دولار، إلا أنه لا توجد رغبة لتقبُّل فكرة العيش في هذه المستوطنات.
ويشير رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان إلى أن الاحتلال يسيطر على ما يقارب 42% من مجمل مساحة الضفة الغربية المحتلة، إذ قام بالإعلان عن مليون و250 ألف دونم كأراضي دولة، تُضاف إلى الأراضي التي كان يُطلَق عليها الوصف ذاته خلال فترة الحقبة الأردنية، بإجمالي مئوي يصل إلى 24%.
وأيضًا مليون و160 ألف دونم مصنَّفة كمناطق عسكرية مغلقة للتدريب العسكري، في الوقت الذي يحجز فيه الجدار خلفه 10.5% من مساحة الضفة، في حين تبتلع الطرق الاستراتيجية الإسرائيلية 3% من مساحة الضفة، بينما تسيطر المستوطنات على 9.6% بواقع 500 ألف دونم، فيما يقدَّر مساحة المنطقتَين “أ” و”ب” بنحو 38% وتوجد 2.5% محميات خاضعة للسلطة، ويدورُ الصراع على المساحة المتبقية من إجمالي أراضي الضفة، والتي تتراوح حاليًّا ما بين 18% إلى 20% فقط .
اتفاقية أوسلو أصل الحكاية
يقول المختصّ في الشأن الإسرائيلي، عمر جعارة، إن اتفاق أوسلو لم يعالِج ملف الاستيطان ككُلّ، وترك 62% من مساحة الضفة المحتلة تخضع للتحكُّم الإسرائيلي في المناطق المعروفة اصطلاحًا بـ”ج”، وتمّ تأجيل الملف لقضايا الحل النهائي وبقيَ دون حلٍّ على مدار 26 عامًا.
ويوضِّح جعارة لـ”نون بوست” أن مشاريع الاستيطان بشكل عام لا تنفَّذ إلا بموافقة أميركية مسبَقة، وبغطاء مسبَق جرى في عهد كل الرؤساء الأميركيين، مع اختلاف سياسة كل رئيس منهم، لا سيما باراك أوباما الذي مرّرَ قرارًا في مجلس الأمن يدينُ الاستيطان ولم يستخدم ضده حقّ النقض “الفيتو”.
ويشدِّد المختص في الشأن الإسرائيلي على أن واشنطن لاعب رئيسي في القضية الخاصة بالاستيطان، إذ طلب الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، من رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، اقتطاع أجزاء من مناطق “ج” لإعطائها للفلسطينيين، إلا أن نتنياهو رفضَ الطلب حينها، وأعلن عن السماح للفلسطينيين بالبناء دون إعطائهم السيادة على هذه الأراضي.
الاحتلال لم يوقف الاستيطان من الأساس، ولم يكن بحاجة لتقديم مبرِّرات لذلك، إلا أنه أعلن بشكل رسمي عن السماح ببناء ألف وحدة سكنية للفلسطينيين في الضفة، من أجل التغطية على البناء الاستيطاني.
ويتوقّع جعارة أن يكون هناك اختلاف في المواقف السائدة بين الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن بالمقارنة مع عهد ترامب، لا سيما أن الأول ألغى قرابة 70% من القرارات التي اتّخذها الأخير، وسيسعى إلى قيادة عملية سلام متّزنة، خصوصًا في ظل زيارات تشهدها المنطقة كان آخرها لمديرة الوكالة الأميركية للاستخبارات إلى رام الله والاحتلال.
إجراءات بناء الثقة
من جانبه، يؤكِّد الكاتب والمحلل السياسي طلال عوكل، أن الاحتلال لم يوقف الاستيطان من الأساس، ولم يكن بحاجة لتقديم مبرِّرات لذلك، إلا أنه أعلن بشكل رسمي عن السماح ببناء ألف وحدة سكنية للفلسطينيين في الضفة، من أجل التغطية على البناء الاستيطاني.
ويقول عوكل لـ”نون بوست”، إن ما يجري هو استجابة لمرحلة بناء الثقة التي تديرها بدقة الإدارة الأميركية في المرحلة الراهنة، إذ إن هذه الحكومة ضعيفة ولا تستطيع أن تواجه الإدارة الأميركية كما كان نتنياهو يفعل، وبالتالي فإن رفع واشنطن يدها عن دعم الحكومة الإسرائيلية الحالية سيؤدّي إلى سقوطها.
ويشير الكاتب والمحلل السياسي إلى أن الخطوة الإسرائيلية الحالية، تندرج في سياق الاستجابة للرغبة الأميركية بتقوية السلطة الفلسطينية وإخراجها من حالة الضعف التي تعيشها، ضمن مجموعة من الخطوات يتمّ صياغتها من أجل العودة للمفاوضات.