تأثّرت الدبلوماسية التونسية بالانقلاب الدستوري الذي نفّذه الرئيس التونسي قيس سعيّد منذ 25 يوليو/ تموز الماضي، وكان لافتًا أن الرئاسة التونسية التي تقود الملف الدبلوماسي انخرطت بشكل واضح في المحور الإقليمي المعادي لثورات الربيع العربي، والمشجِّع للتطبيع مع الكيان الصهيوني.
جاء هذا الانحراط خدمةً لهدف سعيّد الأوحد، وهو تثبيت مساره السياسي والبحث عن كل دعم يأتي من الخارج، لزيادة معنوياته وفرص نجاح المغامرة المحفوفة بالمخاطر على المسار الديمقراطي التونسي وعُلوّ الدستور والمؤسسات الشرعية.
ربما سيشعر القارئ منذ الوهلة الأولى أن هناك شيئًا غير منطقي، فكيف للرئيس الذي وصل للحكم بشعارات ثورة 17 ديسمبر/ كانون الأول ورمزيتها ومركزيتها في خطاباته، أن يكون في محور مضاد للثورات العربية؟
وكيف لذلك الرئيس الذي سطع نجمه عاليًا في سماء العالم العربي والغربي بتلك الجملة الشهيرة “التطبيع خيانة عظمى”، أن يجدَ نفسه رفيقًا حميمًا لزعماء مطبّعين وأصدقاء حميمين للصهاينة؟
تمهّل عزيزي القارئ، سنجيبك عن ذلك، ففي الحقيقة ثمة مفارقة -من بين مفارقات لا تُعد ولا تُحصى- للرئيس قيس سعيّد في إدارته للدبلوماسية التونسية طبقًا لما يمليه عليه المزاج، وليس كما دأبت عليه الأعراف التاريخية للسياسات الخارجية التونسية، المرتكزة أساسًا على النأي بالنفس عن سياسة المحاور منذ الحرب الباردة، مرورًا بالحروب والنزاعات في الأقطار العربية، وصولًا إلى المرحلة العربية والدولية الراهنة المتّسمة باشتداد الصراعات الباردة والتحالفات المتضادة.
بحثًا عن المشروعية الخارجية
اتخذت الدبلوماسية التونسية منذ 25 يوليو/ تموز الماضي مهمة رئيسية لها، وهي الترويج لصحّة قرارات الرئيس قيس سعيّد، إذ إن نشاط وزارة الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج -إلى حدّ كتابة هذه الأسطر-، اقتصرَ على اتصالات هاتفية واستقبال سفراء دول، للتأكيد على أن التدابير الاستثنائية تمّت في إطار الفصل 80 من الدستور -بإمكانك عزيزي القارئ أن تُراجع صفحة الوزارة على فيسبوك لتتأكد من ذلك-.
وبذلك تكون الدبلوماسية التونسية “دبلوماسية تلميع”، كما كانت في عهد النظام السابق، وتنحرف عن مسارها الطبيعي الأصلي الذي هو خدمة تونس ومصالحها السياسية والاقتصادية، لصالح هدف الرئيس الوحيد وهو استجلاب دعم خارجي وخلق بروباغندا في الداخل، مفادها أن الخارج مطمئنّ على تونس في ظلِّ حكمه.
هنا يجدر القول إن السياسة الخارجية السليمة هي المحافظة على صورة إيجابية للانتقال الديمقراطي وسيادة القانون واحترام المؤسسات الشرعية وحفظ العلاقات التونسية الدولية بمنطق أساسي، وهو جلب استثمارات خارجية والتأكيد على وجود مناخ محفِّز للأعمال، وحماية الشؤون الداخلية من أي تدخلات خارجية مهما كان نوعها، لعدم التأثير على المناخ الداخلي.
لكن سعيّد أبى إلا أن يوظِّفَ الجهاز الدبلوماسي برمّته للترويج أن جميع قراراته دستورية وتحترم الدستور، وهو توظيفٌ لخدمة طرف في الأزمة يستقوي بمؤسسة هامة وسيادية في الدولة، ولخدمة مشروعه الخاص المتمثِّل أساسًا في إيجاد حلفاء خارجيين يدعمونه في تصوراته وأفكاره وتمشياته المستقبلية، ما سيضعه في محور عربي مضادّ للثورات العربية وتحرر الشعوب، ويمتاز بالتحالُف مع الكيان الصهيوني.
“وقفة تاريخية”
كان لافتًا منذ وصول الرئيس قيس سعيّد للسلطة تقاربه الكبير مع رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي، ومثّل ذلك إحدى كبرى المفاجآت للرجل الذي لم يشرح للتونسيين سياسته الخارجية.
فقد التجأ إلى حيلة الصمت لكي لا يعرف التونسيون أهدافه ورؤاه المستقبلية منذ البداية، ما قد يعرّضه بالضرورة لمشاكل مع فئة كبيرة من الشعب التونسي تناصر حق الشعوب في تقرير مصيرها، وترفض فكرة الحكم العسكري والانقلابات ومناهضة التحرر العربي من الاستبداد.
حلف سعيّد-السيسي، إن صحَّ التعبير، يمثِّل بلا شك إحدى نوادر السياسة في عصرنا الحالي، فالرجلان مختلفان كليًّا من حيث الظاهر؛ الأول نشأ في الأكاديميات العسكرية وتدرّج في المناصب القيادية والمخابراتية، وتكوينه عسكري بحت، بينما الثاني مدرّس قانون دستوري يحاضر عن الدساتير والقوانين وحقوق الإنسان.
وصلا بطريقتَين مختلفتَين كليًّا للحكم -معلومتَين للجميع ولا داعي للتذكير-، ولكنهما أصبحا “أخوَين حميمَين” يتبادلان الاتصالات الهاتفية كل حين، ومكث سعيّد في القاهرة بضعة أيام وانخرط في دعم شامل وكامل للملف المصري في سد النهضة، وكرّس البعثة التونسية غير الدائمة في مجلس الأمن لصالح “أخيه”.
يمكن وصف ما فعله سعيّد في ملف السد بالعمل الأخوي وليس الدبلوماسي، عكس مثلًا ما ذهبت إليه الجزائر بتقديم مبادرة لحلِّ الأزمة، قوامها الرصانة والاعتدال والجدّية السياسية، حفاظًا على سمعتها وثقلها الاستراتيجي في المنطقة.
لم يكن السيسي إلا بداية لما سيكتشف التونسيون فيما بعد -وربما هو من فتح له الطريق بحكم خبرته ودرايته-، فسعيّد الذي كما قلنا إنه مناصر للثورة التونسية بشكل كلامي منقطع النظير، ومثّلت الركيزة الأساسية في مهرجاناته الخطابية، أصبح محلَّ ثناء وتقدير واحترام من دول المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب.. تخيّلوا.
حيث سارع وزير خارجية المغرب -التي استقبلت قبل أيام وزير خارجية الكيان في الدار البيضاء-، ناصر بوريطة، إلى تونس ليستجلي أحوالها، وبعده حلَّ رَكب وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان بن عبد الله آل سعود، وبعدها وصل وزير الخارجية المصري سامح شكري، لتبدأ إثر ذلك زيارات العيار الثقيل للمطبّعَين الجديدَين، وهما المستشار السياسي للرئيس الإماراتي، أنور قرقاش، ووزير الخارجية البحريني عبد اللطيف بن راشد الزياني.
تؤكّد هذه الزيارات أن محور التطبيع العربي نزلَ بثقله إلى تونس، لمساندة طرف في الأزمة وللتعبير له عن “الثقة في قدراته وحكمته وقيادته” -حسب البيانات المنشورة في رئاسة الجمهورية التونسية-، لتجاوز المرحلة الاستثنائية في تاريخ تونس، وهي بذلك تعطي الدعم السياسي السخي بالتوازي مع الضخّ الإعلامي القوي في قنواتها الإعلامية، الرسمية وغير الرسمية، لعمل قيس سعيّد في تونس.
بالتوازي مع ذلك فتحَ الرئيس قيس سعيّد الأبواب على مصاريعها في مسألة التمويل المالي العربي أيضًا من هذه الدول، حيث صرّح في لقاء بتاريخ 2 أغسطس/ آب مع محافظ البنك المركزي، مروان العباسي، أن لتونس أشقاء صادقين يقفون معنا في كل من المجال الأمني والاقتصادي.
كما صرّح أنه ستأتي الفترة “لأعلن عن هذه الوقفة التاريخية لعدد من أشقائنا وأصدقائنا”، ليكون ذلك بمنزلة التذكير بما حصل في مصر بعد انقلاب السيسي، حين وعدت السعودية والإمارات بتقديم الدعم المالي الكافي لها، لتجاوز أي طارئ قد يحصل مع المؤسسات المالية العالمية.
سرّ قيس عند تبون
مع الانخراط التونسي في محور التطبيع والثورات المضادة من حيث الشكل، وقفت الجزائر حائرة أمام المشهد التونسي، فأتى وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، يوم 27 يوليو/ تموز إلى تونس رفقة وفد كبير، واستطلع الأمور مع الرئيس قيس سعيّد، ورحلَ بعدها إلى بلاده ومنها إلى مصر وعاد إلى تونس في 2 أغسطس/ آب.
من الجلي أن تلك التحركات كانت تدلُّ على عدم ارتياح جزائري لما يحصل في تونس وانقلاب سعيّد، لكن سرعان ما تبدّدت الضبابية عند السلطات الجزائرية، حيث همس قيس سعيّد لعبد المجيد تبون بأسرار لا نعلمها، وقال تبون إن قيس سعيّد أطلعه على أمور لا يحق له قولها، مضيفًا أن المشكلة في تونس أنها اتّخذت نظامًا لا يوائم دول العالم الثالث.
التصريح من تبون كشف السر دون أن يتكلم تقريبًا عن مضمونه، فالمتابع الحصيف للشأن التونسي يعرف أن سعيّد يريد تغيير النظام السياسي إلى رئاسي ونظام الاقتراع، وهو يؤكّد ذلك مرارًا وتكرارًا، وما الخطوات الحالية من تدابير استثنائية وعدم تعيين رئيس حكومة إلا مرحلة إعداد لما هو قادم، وتأهيل لنفوس التونسيين من جديد على تمركز للسلطة في قصر قرطاج بعد قطع لم يدُم سوى 10 سنوات.
إن التقارب التونسي مع محور التطبيع والثورات المضادة يمثّل بالضرورة قلقًا للجزائر، خاصة مع قبول عضوية الكيان في الاتحاد الإفريقي بصفة مراقِب، وبعد زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد للمغرب واتهامه الجزائر بالتقارُب مع إيران، وشنّ حملة مع دول أخرى ضد عضوية الكيان في الاتحاد.
أجّج ذلك الخلاف المغربي الجزائري، إثر ردّ وزارة الخارجية الجزائرية واتهام المغرب بالقيام بلعبة خطرة مع الكيان ضد الجزائر وقِيَمها ومبادئها، ومن الواضح أنه لن يؤدّي إلى جفاء بين سعيّد وتبون اللذين يتبادلان الأسرار.
ولو أن التقارُب الحالي بين قيس سعيّد وذاك المحور المطبِّع مع الكيان والمعادي لثورات الربيع مصلحي بامتياز، وهدفه إضفاء شرعية بدعم إقليمي على مرحلة استثنائية في تونس هو يقودها، إلا أنه يعكس تحوّلًا استراتيجيًّا في السياسة الخارجية التونسية وارتهانًا للدبلوماسية -قد يصعب بعدها تخليصها من ترسّباته- لصالح قرارات فردية مرحلية، لن تضفى عليها شرعية دولية إذا ما تواصلت أكثر من اللازم.
وما مطالبة الإدارة الأميركية بعودة الديمقراطية البرلمانية، والإسراع بتعيين رئيس وزراء جديد، إلا دليل على أن رياح واشنطن -في الوقت الراهن- لا تجري وفق ما تشتهيه سفن سعيّد، التي تجرّها غواصات الاستبداد والتطبيع العربي في انتظار تبدُّل الأحوال.