لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا هامًّا في الثورة التونسية بل كانت العمود الفقري للحراك الاجتماعي والسياسي الذي أنهى حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي مطلع عام 2011، لينهي بذلك أيضًا عصر الإعلام الأحادي الذي كان مهيمنًا، لذلك كانت الثورة عفوية وشبابية بالأساس.
المنهج نفسه اعتمدت عليه الثورة المضادة في توظيف الشباب والهاشتاغات، وقد بدأت تلك الحملات من الداخل التونسي قبل الانقلاب، ثم جاءت الهجمة الشرسة من حسابات على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، في شكل ثورة مضادة موظَّفة من الخارج (في الخليج حيث مكتبَي تويتر وفيسبوك) لتبييض صورة الانقلاب وتشويه معارضيه، طبعًا هذا بعيدًا عن الحسابات الحقيقية المساندة لإجراءات الرئيس التونسي، أو المختلفة معه في مسائل محدَّدة.
“حالة وعي” مبكّرة!
ظهرت مبكّرًا حسابات افتراضية من الداخل التونسي على علاقة مع الخارج، تقودها جيوش إلكترونية بإشراف ليلى الطرابلسي أرملة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي تحريضًا وتمويلًا، تعملُ لصالح قيس سعيّد للترويج له منذ بداية حملته ومرافقة مسيرته السياسية، وصولًا إلى الانقلاب لإفشال مسار الانتقال الديمقراطي التونسي.
تلك الحسابات تتبع مدوّنين معروفين بأسمائهم، منهم من يوصف بمدوِّن رئاسة الجمهورية أسامة بن عرفة، أعلنوا ولاءهم المطلَق للرئيس التونسي قيس سعيّد، بل تنبّأوا مسبقًا بما سيحدث من انقلاب ومن ملاحقات لبعض الشخصيات السياسية.
وكشفت تسريبات صوتية لمستشارة الرئيس قيس سعيّد، نادية عكاشة، إصدار الأوامر لبعض المدوِّنين الثقاة للنيل من بعض السياسيين، مثل تشويه صورة المندوب التونسي لدى الأمم المتحدة قيس القبطني، الذي تمّ إعفاؤه فيما بعد من مهمته.
ومنذ الحملة الانتخابية لقيس سعيّد، ظهرت الحسابات والوسوم التي تدعم المرشح سعيّد مستغلّةً شعار الثورة “الشعب يريد” الذي تمّ احتكاره في شخص سعيّد، ثم ظهرت وسوم ومشاركات لمباركته رئيسًا لتونس.
ثم تطورت أكثر في شكل وسوم تهنِّئ بفوزه في الانتخابات، من قبيل إطلاق هاشتاغ “حالة الوعي” التي أصبح عليها الشعب، وقد اشتركت عدة صفحات مأجورة، كما يصفها بعض الدبلوماسيين التونسيين، في تبييض صورة الرئيس.
حالة وهم
بعد انقلاب قيس سعيّد جرى إطلاق وسوم وآلاف المشاركات الممهِّدة للانقلاب على الدستور التونسي، واستغلال اسم الإخوان المسلمين الذين تمّ الإطاحة بهم في مصر لإسقاط الوضع على تونس، والتحريض ضدها بهدف القيام بالآليات نفسها لكن بشكل مؤثّر أكثر، عبر إجهاض ثورات الربيع العربي في مهدها، نظرًا إلى رمزية تونس.
وقد قدِّرَت آلاف الحسابات الوهمية التي تمّ إطلاقها من منصّات في الإمارات ومصر والسعودية، وهي البلدان المضادة لثورات الربيع العربي في سوريا وليبيا وتونس واليمن، وتمّ إحصاء 12 ألف تغريدة كتبها 6 آلاف و800 حساب على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، غرّدت جميعها تحت هاشتاغ “تونس تنتفض ضد الإخوان”، ليتبيّن أن بعضها حسابات وهمية، لتصوير تصرفات الرئيس التونسي على أنها ثورة شعبية تونسية ضد الأحزاب الإسلامية.
لكن هذا الوهم سرعان ما تبدّد بعد الانقلاب، حيث توقّفت معظم الحسابات عن إطلاق الهاشتاغات المضادة، وقد فضح الخبير البريطاني والأستاذ في دراسات الشرق الأوسط والعلوم الإنسانية الرقمية، مارك أوين جونز، التلاعب بتوجُّهات المغرّدين في الشأن التونسي.
يشرح السيد مارك أوين جونز كيف يناصر الذباب الإلكتروني الانقلاب على الدستور في #تونس . https://t.co/tk39jqAVsU
— ناصر بن راشد النعيمي (@AlnuaimiNasser1) July 27, 2021
وفضلًا عن انضمام كتّاب وصحف وقنوات مموَّلة من السعودية إلى شنّ حملة على الديمقراطية التونسية، فقد دخلت أبوظبي على خط الأزمة التونسية، عبر إشعال حرب وسوم على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد دعم حسابات أمنية إماراتية معروفة لوسم #قيس_سعيد و#تونس_تنتفض_ضد_الاخوان، مقابل وسوم النشطاء التونسيين #قيس_سعيد_إرحل و#انقلاب_تونس و#انقلاب_قيس_سعيد، الرافضة للانقلاب.
حملة تبليغات
لم تقف الحسابات الوهمية عند حدّ تبييض الانقلاب، بل تمّ شنّ حملة تبليغات لإغلاق حسابات وصفحات رموز ونشطاء ثورة الحرية والكرامة، فأغلقت صفحات للفاعلين من إعلاميين وأكاديميين، مثل غلق صفحة الباحث الجامعي والناشط السياسي الأمين البوعزيزي قبل أيام، ثم قبله شنّت حملة تبليغات كانت أيضًا وراء غلق حساب الإعلامي والناشط الحبيب بوعجيلة، ما اضطره إلى توثيق حسابه بالعلامة الزرقاء.
لكن بعد تبدّد آمال الحسابات الوهمية، حيث توقّفت معظم الحسابات عن إطلاق الهاشتاغات المضادة، كما أشرنا، تحوّلت تلك الهجمة إلى مرحلة التفاعل السلبي مع التغريدات والتدوينات المضادة للانقلاب، والمنتصرة لمبادئ الثورة التونسية.
فمع امتصاص صدمة الانقلاب وفشل بوادره الأولى، وفضيحة أمر الذباب الإلكتروني، عادت حالة الاستقرار النسبي إلى مواقع التواصل، لكن في هذا الطور لجأت الجهات مصدر التجييش الإلكتروني إلى شنّ حملات تعليقات على حسابات الشخصيات القيادية في الأحزاب الإسلامية والصفحات الإعلامية الموالية لهم، ما دفع بعضهم إلى اللجوء إلى خاصية “إلغاء خيار التعليق”.
بل إن حملات التعليقات غير المحترمة استعملت مفردات بذيئة طالت المواقع غير الموالية حتى، التي تنشر أخبارًا لا تروق لتلك الحسابات الوهمية أو حديثة النشأة والمُسيّرة من خارج البلاد.
وعمومًا، فإن الشباب رواد شبكات التواصل الاجتماعي، يدركون أن الحسابات الوهمية تقام لغايات ظرفية في الزمان والمكان تنتهي بانتهاء غايتها، ويدرك الجميع أيضًا أن مكتبَي تويتر وفيسبوك يقعان في الإمارات، وهما كانا وراء حملات افتراضية سابقة لنقلهما إلى دولة تؤمن بحرية التعبير مثل تونس.
ويُرجع البعض ظاهرة الذباب الإلكتروني إلى الأزمات واختفائها أو هدوء موجتها مع انتهاء الأزمات، لكن رغم ذلك يبدو أن السياسة التواصلية الجديدة ستكون أكثر واقعية، وذلك بظهور تطبيقات جديدة مثل “كلوب هاوس” حيث الاستماع إلى أشخاص حقيقيين بعيدًا عن وهم الذباب أو اللِّجان الإلكترونية.