تعيشُ سوريا أشدَّ أزمة انقطاع كهرباء في عصرها الحديث، توقفت الكثير من المصالح الحيوية، ويعمل السوريون في كل يوم على ضبط حياتهم على ساعات التغذية الكهربائية.
يعود انقطاع الكهرباء ليتصدّر حديث الناس مع ارتفاع درجات الحرارة فوق معدلاتها الطبيعية، حيث فقدَ معظمهم القدرة على النوم أو التركيز في ظلّ التغيُّر المناخي الذي يضرب المنطقة، وفي ظل انعدام التيار الكهربائي الذي يزيد منغصات حياتهم.
فسدَت معظم المؤن في ثلاجات البيوت، وتحوّلت هذه الأخيرة إلى خزائن لحفظ الأشياء؛ “لا أستطيع شرب الماء إلا إذا كانت مثلَّجة” تقول أمّ أسامة، لكنها تعتاد اليوم ببطء على شرب الماء ساخنة بسبب غياب أي وسيلة تبريد.
تخلق الحرب أسواقًا جديدة دائمًا، يزدهرُ سوق السلاح وسوق الإتجار بالبشر، لكن تتفرّد حرب البلاد هذه في خلق أسواق جديدة مثل تجارة الألواح الثلجية.
“عند حاجتنا إلى حفظ كمية من اللحم لليوم التالي، نعملُ على وضع أكثر من كيس ثلج عليها كنوعٍ من التحايُل” يقول سامر، أبٌ لـ 3 أطفال، ويضيف: “دائمًا ما اضطررنا للاستغناء عن اللحمة بسبب غلاء سعرها، لكن في حال حصلنا على كمية منها يجب العمل على حفظها بشتى الطرق، ومع ندرة وجود كميات معقولة من الثلج نفكّر في عدم خوض هذه المعركة الخاسرة مسبقًا”.
سوق للثلج في هذه البلاد المحترقة
تتصدّر السخريةُ من مادة الثلج مواقعَ التواصل الاجتماعي عند السوريين، هناك من يكتب “أنني ثري لأن مياهي باردة وعذبة وأستطيع إقناع أي فتاة من الزواج بي”، ويضيف آخر أنه سوف يفتح مخزنًا للثلج وينافس شركات عالمية تصنع الدواء مثلًا، أو دعابة تطلقها إحداهن بأنها تقدِّم لضيوفها أحسن الضيافة وهي المياه الباردة، كدليل على كرم الاستقبال والتفاخر.
عندما سألنا قصي، صاحب محل لبيع الأغذية، عن الأسعار المرتفعة للثلج، قال إنه يتحمل تكلفة تشغيل مولدة البنزين وغلاء المياه بشكل عام، حيث في سوريا لتر الماء الصالح للشرب أغلى من لتر وقود السيارات، ويصل سعره إلى 1500 ليرة سورية، أي ما يعادل نصف دولار.
عانى السكان جميع أنواع الأزمات المعيشية، وتدور معظم الأحاديث عن فقدان الكثير من العناصر المهمة مثل الغاز والسكّر والزيت، لكن لم نتخيّل نحن السوريين أن ألواح الثلج ستُضاف إلى قائمة المفقودات، ونكاد نجزم أن تنظيم سعر ألواح الثلج هو أكثر القرارات غرابةً أصدرتها الحكومة.
يعلِّق أحدهم على نص القرار بقوله: “معقول لوح ثلج بحاجة قرارات ومراسيم”، وتضيف أخرى: “أثلجت الحكومة صدورنا بلكي منبورد عالسيرة”.
الرقابة على الأسعار مثلها مثل الكهرباء في سوريا؛ دائمًا مقطوعة
تحدِّد لوائح الأسعار سعر الكيلو من الثلج بنحو 200 ليرة سوري، بينما هو يباع بالفعل بسعر يقارب الألف ليرة، أي ثلث دولار، وهذا الرقم داخل سوريا ليس بالصغير، وكأن مصاريف الفرد تتّسع لمثل هذه الزيادات.
وفي عملية حسابية غير معقّدة، يحتاج الفرد من كيلو إلى كيلوَين من الثلج يوميًّا فقط من أجل الحصول على مياه باردة، أي ما يعادل أقل من دولار يوميًّا، وبالمقارنة مع رواتب السوريين التي لا تصل إلى 60 ألف ليرة (ما يعادل 20 دولارًا)، فإن نصف الراتب تقريبًا يذهب مصاريف تبريد.
يعاني سومر من مرض في جهازه العصبي، وتزيد ارتفاعات درجات الحرارة من مضاعفات المرض، عليه أن يبقي جسده في درجة حرارة معتدلة حتى يتفادى هجمات مرضية، كأن يلجأ إلى تبريد جسده بالكمادات الباردة أو بأكياس من الثلج في السابق، لكن مع ارتفاع سعر الكيلو إلى درجة جنونية توقّفَ عن شرائه، لأنه لا يستطيع حتى تحمُّل هذه التكاليف.
بينما يجتمع محمود مع جيرانه على تقاسُم تكلفة تشغيل المولدة كي يضمنوا وجود مياه باردة وثلاجات تشتغل بالحد الأدنى، في ضوء عدم وجود قدرة شرائية عالية لاقتناء الثلج.
ورغم كل هذا الواقع المشتعِل واشتداد الأزمة الاقتصادية، تطلّ المؤسسة السورية للتجارة بتصريحات غريبة بأنها تدرس طرح مادة الثلج ضمن صالاتها لكنها تحتاج لظروف خاصة، ويكاد السوريون يجزمون أن الظروف الخاصة وحدها من أوجدت من يقومون بالتصريحات اليوم، متناسين واقع مأزوم في هذه البلاد.
غياب الرقابة الصحية
تغيب المواصفات الصحية المعمول بها في معظم بلاد العالم عن منتجات البلاد المحلية، في ظل تهالُك منظومة الرقابة الصحية في سوريا.
وفي الحديث عن إنتاج ألواح الثلج، صرّح مسؤول في مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك بريف دمشق لإذاعة محلية، عن ضبط 5 معامل لتصنيع الثلج (البوظ)، تستخدم مياهًا “مجرثمة” في إنتاجها، ولم يكلّف نفسه حتى أن يصدر قرارًا بالتشهير بهذه المعامل أو على الأقل تقديم حلول أكثر نجاعة.
جيل جديد بقلبٍ أكثر اشتعالًا
تؤثر التغيُّرات المناخية التي يشهدها كوكب الأرض اليوم على الكثير من سلوكيات البشر والإنتاج والاقتصاد، ويجاهد القائمون على القرار العالمي بالحدّ من التأثيرات، ويتحمّل السوري إضافة إلى تأثيرات السماء والقمع والظلم والحرب تأثيرات جديدة ومبتكَرة.
تقول سمية، شابة في أواخر العشرين، تنتظر مولودها الثاني: “في حملي الأول توحّمت على الخوخ الفرنسي، وهو نوع من الفاكهة مرتفع السعر، إلا أنني اليوم أشتهي كثيرًا أن أقوم بقرط قطع الثلج إلى حد الهيستيريا”، وتضيف مبتسمة بحرقة: “لم تقصّر جاراتي بتقديم ما وُجد من الثلج عندهن، وتجهد أمي دائمًا بتأمين أي لوح صغير من مكعبات الثلج، خوفًا منها من ظهور مكعّب ثلج على وجه المولود المنتظَر”.
أتعاطف معها، وأشفق على عدم قدرتنا نحن النساء عن مسايرة أطوار الحمل الغريبة في هذه البلاد، وعن مسايرة معتقدات أمهاتنا حيالها، وأفكر أنه إذا ما كان هذا الإيمان بظهور ما تشتهيه المرأة أثناء فترة حملها ولم تستطع تناوله، في جسد المولود على شكل وحمة، قد يحدث بغضّ النظر عن حقيقته وأسبابه العلمية، من الممكن أن يكون طفل سمية بوحمة على وجهه على شكل قطعة ثلج، من الأطفال المبشّرين في هذه البلاد التي توسم وجوه الأجيال الجديدة بكل هذا الخذلان والفقد.