مع إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن قبل أشهر عن أن قوات بلاده ستنسحب من أفغانستان بحلول 11 من سبتمبر/ أيلول القادم، تسارعت خلال الأسابيع الماضية وتيرة الانسحاب الأمريكي ليشهد اليومان الماضيان انسحابًا أمريكيًّا شاملًا من البلاد، واقتصار تواجُد القوات الأمريكية على مطار حامد كرزاي في العاصمة كابل، لأجل إجلاء الرعايا الأمريكيين والدبلوماسيين الغربيين، وسط سيطرة شبه تامة من قِبل طالبان على جميع مفاصل الحكم في العاصمة كابل.
ووسط تسارُع الأخبار من أفغانستان عن حالة الهرج والمرج التي رافقت انسحاب القوات الأمريكية، واندفاع الآلاف من الأفغان نحو مطار العاصمة للهروب من البلاد، يقرأ “نون بوست” في الأسطر التالية مقاربة الوضع الأفغاني مع العراق، حيث أعلنت الولايات المتحدة أنها ستسحب جميع قواتها القتالية من البلاد بناءً على مخرجات جلسة الحوار الرابعة بين بغداد وواشنطن، التي انعقدت قبل أسابيع.
مقاربة سياسية
تكاد تكون الأوضاع السياسية في البلدَين متقاربة في الأسباب التي أدّت للغزو الأمريكي للبلدَين، إذ عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، شنَّ الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش غزوًا لأفغانستان لمحاربة ما وصفه بـ”الإرهاب”، ثم بعد عامَين على ذلك الغزو، هاجمت الولايات المتحدة العراق للذريعة ذاتها، إضافة إلى ادّعاء امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل.
وبعد 20 عامًا على الغزو الأمريكي لأفغانستان، جاء الانسحاب الأمريكي الذي لم تصمد معه القوات الأفغانية 24 ساعة في العاصمة كابل، لتنهار تلك القوات وتسلِّم مفاتيح العاصمة والقصر الرئاسي لقيادات حركة طالبان.
تتسارع التكهُّنات بمصير العراق، بعد تعهُّد الولايات المتحدة بانسحاب قواتها من البلاد نهاية العام الجاري، إلا أن أستاذ العلوم السياسية محمد عزيز يرى أن الوضع العراقي يختلف جذريًّا عن نظيره الأفغاني، رغم أن البلدَين تعرّضا للغزو الأمريكي في فترة زمنية متقاربة.
ويوضِّح عزيز في حديثه لـ”نون بوست” أن الوضع السياسي العراقي يختلف جذريًّا من حيث تعدُّد الأحزاب السياسية، واشتراكها في العملية السياسية في 4 دورات برلمانية، فضلًا عن أن تواجد الكتل السياسية في منظومة الحكم بالعراق واستفادتها من تواجدها هناك، يجعل من المستحيل أن تتكرر التجربة الأفغانية مع انسحاب قوات الولايات المتحدة.
ها هي واشنطن بعد 20 عامًا من التواجد فيها تفقد الأمل، وتسلِّم أفغانستان لحركة طالبان.
ليس هذا فحسب، إذ يرى عزيز أن الشعب العراقي وتعدُّد أعراقه ووجود إقليم كردستان -شبه المستقل-، يجعل من الصعوبة تكرار المشهد الأفعاني بحذافيره، منوِّهًا إلى أن الانسحاب الأمريكي من العراق قد يقود لإرباك في المشهد العراقي، لكنه يظل بعيدًا عن المشهد الأفغاني، خاصة مع وجود قوى إقليمية فاعلة في دول جوار العراق، كتركيا وإيران اللتين تملكان نفوذًا سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا في البلاد.
من جانبه، يشير الباحث السياسي طارق جوهر إلى أن التجربة تثبت أن محرِّك السياسات الأميركية يتعلق دائمًا بمصالح واشنطن العليا فقط، مضيفًا أنه متى ما انقضت تلك المصالح فإنها تترك حلفاءها بكل بساطة وتتخلى عنهم، وهو ما لاحظناه في العديد من المحطات التاريخية والحديثة للولايات المتحدة، بحسب جوهر.
ويعلِّق: “مثلًا في فيتنام، تخلّت عن حلفائها والمتعاونين معها، وكما حصل حديثًا عام 2019، عندما سحبت قواتها من مناطق واسعة ممتدة من رأس العين إلى تل أبيض في شمال سوريا، وأن اللَّوم لا يقع فقط على واشنطن، بقدر ما تتحمّل السلطات الفاشلة والعاجزة المسؤوليةَ عن تقديم نماذج حكم رشيدة وصالحة في بُلدان مثل أفغانستان والعراق، وبالمحصلة ها هي واشنطن بعد 20 عامًا من التواجد فيها تفقد الأمل، وتسلِّم أفغانستان لحركة طالبان”.
من جانبه، يقول الصحفي أحمد العبيدي في حديثه لـ”نون بوست”، إنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تكرار التجربة الأفغانية في العراق، إذ إن العراق يختلفُ في وضعه الاقتصادي والسياسي عن أفغانستان، ثم أن الولايات المتحدة لديها قدرات عسكرية كبيرة في الدول المحيطة بالعراق باستثناء إيران، وأن إعلان الانسحاب الأمريكي القتالي من العراق نهاية العام الجاري، لا يعني بالضرورة انسحابًا عسكريًّا أمريكيًّا تامًّا من العراق، وهذا مكمن الاختلاف.
مقاربة عسكرية
مع الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001، لم يكن للأخيرة جيش وطني، وكانت حركة طالبان هي المسيطرة على البلاد، إلا أن العراق وعند الغزو الأمريكي له عام 2003، كان يمتلكُ جيشًا نظاميًّا، عمدت الولايات المتحدة لحلّه وإلغاء وجوده بكل أصنافه.
وفي هذا الصدد، يقول الخبير الأمني والعسكري رياض العلي في حديثه لـ”نون بوست”، إن الولايات المتحدة عمدت لتشكيل جيش نظامي في كل من أفغانستان والعراق بعيد الغزو، وأنفقت على هذين الجيشَين عشرات مليارات الدولارات، إلا أنهما لم يكونا بمستوى الجيوش النظامية.
وعن إمكانية تكرار التجربة الأفغانية عراقيًّا، يرى العلي أن العراق ورغم تجربته المريرة عام 2014، عندما انهارت 3 فرق عسكرية في مدينة الموصل، إثر اكتساح مقاتلي “داعش” للمدينة في يونيو/ حزيران 2014 بعد 3 سنوات على الانسحاب الأمريكي، إلا أن هذه التجربة أسهمت بتعزيز قدرات الجيش العراقي بعد تحرير المدن من سيطرة التنظيم.
العراق مقبل على مرحلة غاية في الصعوبة ستحدَّد معالمها خلال الشهرَين القادمَين.
ويتابع العلي في حديثه لـ”نون بوست”، أن احتمالية انهيار القوات العراقية بعد الانسحاب الأمريكي من البلاد نهاية العام الجاري مستحيلة، إذ إنه منذ سقوط ثُلث مساحة العراق بيد مسلحي “داعش”، تحوّل الجيش العراقي إلى مرحلة أكثر احترافية، وباتت لديه المبادرة في الهجوم والعمليات العسكرية الأحادية البعيدة عن دعم الولايات المتحدة.
كما نوّه إلى أن هذا الإطار العملياتي للجيش العراقي، يخالف جذريًّا الواقع الأفغاني المزري، الذي أدى لتسليم مدن أفغانستان واحدة تلو الأخرى دون إطلاق رصاصة واحدة.
وعن مدى قدرة القوات الأمنية العراقية في حماية البلاد من أي فوضى، في حال انسحاب القوات الأمريكية من العراق، يؤكّد الخبير الأمني العراقي حسن العبيدي أن العراق ليس كأفغانستان من حيث قوة الجيش والأجهزة الأمنية، مستدلًّا بأن 90% من العمليات العسكرية في العراق منذ عام 2017 تجري بتخطيط وتنفيذ عراقيَّين، وأن الانسحاب الأمريكي لن يقود لمثل ما أدّت إليه التجربة الأفغانية.
إلا أن العبيدي لم يخفِ في حديثه لـ”نون بوست” أن الانسحاب الأمريكي قد يقود لأوضاع وصفها بـ”السيّئة” داخل العراق، موضِّحًا أن الجماعات المسلحة والميليشيات تحظى بتسليح وتنظيم ودعم إيراني كبير.
وجراء ذلك، هناك تخوّف من أن تُقدِم هذه الفصائل على حرب مع الحكومة العراقية، في حال لم تحظَ الكتل السياسية الموالية لها بعدد كبير من المقاعد البرلمانية في الانتخابات القادمة، وبالتالي قد يؤدّي ذلك لصراع داخلي مسلّح في العراق، قد ينشب بين فصائل مسلحة تختلف مصالحها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية.
ويتابع العبيدي أن العراق مقبل على مرحلة غاية في الصعوبة، ستحدَّد معالمها خلال الشهرَين القادمَين، وتتمثّل هذه المرحلة بإمكانية إجراء الانتخابات التشريعية المبكّرة من عدمها، وانعكاس إجرائها من عدمه على مجمل الأوضاع السياسية والأمنية في العراق.
تبقى جميع الاحتماليات في العراق واردة، خاصة أن العراقيين باتوا يتناقلون في أحاديثهم اليومية مآلات الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وتخوّفهم من عقد الانتخابات المقبلة أو تأجيلها، ما قد يضع العراق في عنق الزجاجة وسط صراع إقليمي آخذ بالتصاعد، ودائمًا ما تنعكس تأثيراته في العراق.