في السنة الجامعية الأولى نصحتنا أستاذة الأدب الجاهلي في جامعة الموصل د. بتول البستاني -رحمها الله-، بأن نكوِّن مكتبات شخصية تكون بمثابة المرجع العلمي لنا كطلبة لغة عربية، واقترحت علينا أن يكون كتاب “شرح المعلقات” للزوزني حجر الأساس لهذه المكتبات.
وبالتأكيد فإن اقتراح هذا الكتاب لم يأتِ اعتباطيًّا، بل هو اختيار نابع من الأهمية المركزية للشعر الجاهلي في علوم العربية المختلفة، فهذا الشعر هو المعين الذي نهلَ منه النُّحاة الشواهد النحوية، وراحوا يستقرؤونه لاستتباط القواعد الكلية لصياغة الكلام العربي.
وعلى النهج ذاته سارَ البلاغيون في دراستهم للشعر الجاهلي، فراحوا يتأمّلون فيه سلاسة المجاز وبلاغة التشبيه وجمال الكناية، ليجعلوا منه المثال الشعري الأعلى، واتّخذه واضعو المعاجم مصدرًا أساسيًّا لأخذ المفردات العربية الفصيحة والبليغة.
ولما كانت للشعر الجاهلي هذه الأهمية الجوهرية في علوم العربية بشكل عام، فقد عُنيَ علماء العربية ومنذ القدم بدراسته وتدوينه وتصنيفه، لكنهم واجهوا إشكالًا كبيرًا تمثّلَ في نقد هذا الشعر ومحاولة تمييز الحقيقي فيه من المزيَّف.
فمن المعلوم أن الشعر الجاهلي كان ينتقل بالرواية الشفاهية لقلّة وسائل الكتابة والتدوين في شبة الجزيرة العربية آنذاك، ونظرًا إلى بُعد الفترة الزمنية بين العصر الذي قيل فيه هذا الشعر (العصر الجاهلي) وعصر التدوين (العصر العباسي)، فإن هذا الشعر المحفوظ في الصدور قد طالَهُ بعض التحريف والتزوير، وهذا ما تنبّه له مدوِّنو الأدب العربي القدامى.
حيث شرعَ مدوِّنو الأدب العربي في عملية نقد واسعة ومنهجية، فوضعوا مصطلحات نقدية لتصنيف الشعر الزائف، وهي الشعر “المنحول والمنتحَل والمصنوع”.
فالشعر المنحول: هو الشعر الذي نسبه الراوي إلى شاعر لم يقله، أي إنه نِسبة الشعر إلى غير صاحبه؛ والشعر المنتحَل: هو أن ينسب أحدهم الشعر لنفسه وهو ليس له؛ والشعر المصنوع: هو أن يقوم الراوي بصنع “كتابة” قصيدة ينسبها إلى شاعر معيّن في عصر سابق له، فصانع الشعر هنا أشبه بكبار المزيِّفين الذين يصنعون اللوحات والقطع الأثرية، ويدّعون أنها قديمة لكي تكتسب قيمة مادية من انتسابها إلى التراث، وأرجع النقّاد العرب القدامى الغاية في تزييف الشعر الجاهلي لأسباب سياسية أو اقتصادية أو قَبَلية.
إذا كانت المسألة قد توقفت عند هذا الحد عند النقّاد العرب القدامى، فإن المستشرقين قد توسّعوا في بحث المسألة وبذلوا جهدًا أكبر.
ولم يكتفِ النقّاد العرب بوضع المصطلحات النقدية للشعر، وإنما راحوا ينقدون كتّاب السِّير من الذين رَووا الأشعار المزيَّفة، ولم يجروا عليها المنهجية النقدية، وفي مقدمتهم محمد بن إسحاق (ت ١٥٤هـ) صاحب “السيرة”، والذي عُرف بإيراده الشعر الذي قيل على لسان الأقوام البائدة كعاد وثمود، وعلى لسان رجال لم يعرَف عنهم قولهم للشعر، فضلًا عن روايته للشعر الذي قيل إن الجن قد نطقوا به.
وقد برّر ابن إسحاق وقوعه في هذه السقطات المنهجية بالقول: “لا علم لي بالشعر أُوتى به فأحمله”، لكن ابن سلّام لا يقتنع بهذا التبرير، ويشرع بحملة نقدية ممنهَجة متتبّعًا هذه الأشعار في سيرة ابن إسحاق، ومبيّنًا مواطن الزيف والتقليد فيها، ويتهكّم ضمنيًّا على قبول ابن إسحاق بهذه الأشعار وروايته لها.
وإذا كانت المسألة قد توقفت عند هذا الحد عند النقّاد العرب القدامى، فإن المستشرقين قد توسّعوا في بحث المسألة وبذلوا جهدًا أكبر، وقد تباينَت آراءهم كما تباينَت غاياتهم ومراميهم من البحث.
وإذا كانت الموضوعية تقتضي الإقرار بوجود دافع علمي بحت عند بعض المستشرقين، فإننا لا يمكن أن نتغافل عن تحامُل بعضهم على الثقافة والحضارة العربية الإسلامية، خاصة عند أولئك الذين عُرفوا بمواقفهم السلبية من العرب خصوصًا والمسلمين عمومًا.
يُعدّ المستشرق الألماني ثيودور نولدكة رائد البحث في هذا المجال، فقد ناقشَ مسائل تعدُّد الروايات واختلاف نصوصها، ونبّه لحذف أو طمس أسماء الأصنام والأوثان في الشعر الجاهلي، وأشار إلى تعمُّد الرواة تحوير وتحريف الشعر الديني الوثني، كما أنه حدَّد الإشكال في الشعر الجاهلي بوجهَين، الأول هو تغيير في النصوص الأصلية، والثاني هو وجود نصوص مزيَّفة بالكامل.
إلا أنه لم يطلق حكمًا عامًّا على الشعر الجاهلي، وإنما دعا الباحثين إلى أن يكملوا طريق البحث في مصادر هذا الشعر، وإن دراسة نولدكة تكاد تكون الأعمق فهمًا للشعر الجاهلي، ولا تخلو من ملاحظات نقدية ذكية.
فنولدكة امتدح ما أسماه “روح الرجولة” التي يفيض بها الشعر الجاهلي، مقارنةً بآداب كثير من الشعوب الآسيوية التي نلمح فيها روح العبودية والاستحذاء، وتبعه المستشرق الألماني الآخر وليم آلورد الذي نشر سنة 1872 بحثًا تناول فيه المسألة، وقدّم ملاحظات قيّمة عن صدق وأصالة وصحّة الشعر الجاهلي من الناحية التاريخية.
وقد أخذت المسألة بُعدًا آخر حينما وصلت إلى الباحث والمستشرق الإنجليزي مرجليوث، الذي أعاد عرض الشكوك وبقوة في صحّة الشعر الجاهلي، ورغم أنه لم يجزم بأن الشعر الجاهلي مزيَّف بالمطلق، إلا أن ما أثاره من قضايا قد أعاد المسألة إلى الواجهة، وقد ردّ عليه بعض المستشرقين منهم الألماني إيريش برونيلش، وفنّد الأُسُس التي استندَ عليها مرجليوث في دعواه.
خفتت هذه الأصوات لاحقًا، وخرج الشعر الجاهلي منها أكثر قوة وصحة وصدقًا.
ولم تتوقف المسألة عند هذا الحد، فقد تبنّى د. طه حسين آراء مرجليوث، وأعاد صياغتها في كتابه “في الشعر الجاهلي” الذي أعاد إصداره لاحقًا باسم “في الأدب الجاهلي”، وقد تبع صدور هذا الكتاب ردود فعل عنيفه كشفَ بعضها مغالطات منهجية وقع فيها طه حسين، خاصة فيما يتعلق بدعواه بالالتزام بمنهج الشك الديكارتي، وذهب بعض الباحثين للقول إن طه حسين قد نقلَ أفكار مرجليوث حرفيًّا، وأن طروحاته ليست إلا نسخة معرَّبة من كتابات مرجليوث.
وقد خفتت هذه الأصوات لاحقًا، وخرج الشعر الجاهلي منها أكثر قوة وصحة وصدقًا، وقد أفادت هذه الحملات النقدية بصقله وتخليصه من الشعر الزائف والمُقلَّد، فبقيَ هذا الشعر علامة فارقة في سيمياء الثقافة العربية والتاريخ العربي.