انتهت أولمبياد طوكيو 2020 الاستثنائية لتوّها، والتي تأجّلت مرارًا بسبب تقاطعها الزمني مع حلول جائحة فيروس كورونا ومتحوراته، وسط شكوك حول احتمال إقامتها من عدمه؛ ولكنها في النهاية أُقيمت، إنقاذًا للجهود اليابانية، وحفاظًا على ديمومة الحياة العادية في العالم، وبالأخصّ بعد تراجُع أهمية خيار الإغلاق التام والمضيّ قدمًا في مسار التلقيح.
ومع كل انتهاء لدورة دولية جامعة، لا سيما إن كانت دورةً أولمبية تُعقد كل 4 أعوام، تُفتح ملفات النقد والتقييم: لماذا تفوّقَ المتفوِّق؟ ما هي العوامل التي ساعدت في تفوقه؟ فردية أم مؤسساتية؟ ولماذا تراجعَ آخرون؟
ومع الإقرار بأنّ هذه الإجابة باتت موكلةً بالأساس، في الآونة الأخيرة، إلى علوم الآلة، التي تقوم بالإحصاء وتحليل البيانات بشكل دقيق وسريع وفعّال في كثير من البيئات العلمية، التي توظِّف العلمي من أجل خدمة الرياضي؛ فإننا نحاول، من خلال هذه المساهمة التحليلية البسيطة، تفسير سبب إخفاق البعثة الأولمبية المصرية في حصد عدد من الميداليات التي تليقُ بدولة بحجم مصر، لعلّ أحدًا يجدُ فيها غايته من القرّاء أو متّخذي القرار.
أرقام خادعة
هناك سؤال مبدئي يطرح نفسه: لماذا نصفُ أداء البعثة الأولمبية المصرية في طوكيو بالإخفاق، في الوقت نفسه الذي تقول فيه النتائج النهائية إن هذه البعثة حقّقت 6 ميداليات، مقسَّمة كالآتي: 4 ميداليات برونزية وميدالية فضية وميدالية ذهبية؟
لم يحفظ ماء وجه تلك البعثة إلا تلك النجاحات الفردية التي حقّقها عدد من اللاعبين المصريين المكافحين في ألعاب محدَّدة.
والإجابة أن هذا الحكم مبنيٌّ بالأساس على عدة عوامل، على رأسها أن أداء البعثة المصرية المؤلَّفة من 137 لاعبًا، كان حتى الرمق الأخير من المسابقات هزيلًا ومحبطًا للغاية، ومحل تندُّر شعبي على مواقع التواصل الاجتماعي، في المسابقات الفردية والجماعية على حد سواء.
ولم يحفظ ماء وجه تلك البعثة إلا تلك النجاحات الفردية التي حقّقها عدد من اللاعبين المصريين المكافحين في ألعاب محددة، مثل أحمد الجندي، الشاب المصري الذي حصلَ على الميدالية الفضية في مسابقات لعبة الخماسي الحديث.
إحدى الألعاب التي حققت فيها البعثة المصرية نتائج مذهلة، إلى حدّ ادّعاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لأول مرة، صلته بها فنيًّا إلى درجة ممارستها قبل 50 عامًا من الآن، وقبل تأسيس الاتحاد المصري في اللعبة؛ هي الكاراتيه، التي كان وجودها في هذه الدورة استثناءً، إذ لم تكن موجودة في الدورات السابقة، ولن تكون موجودة مجددًا في الدورات القادمة، ما يعني أنّ الأمر هنا ليس مؤسساتيًّا.
وبالنظر إلى نتائج البعثة الأولمبية المصرية، في هذه الدورة نفسها (طوكيو 2020)، بالمقارنة مع دول أخرى أقلّ ثقلًا من مصر، ربما تعاني من ظروف صعبة على المستوى السياسي أو الاقتصادي، مثل إيران وكوبا؛ سنجد فارقًا ملحوظًا في النتائج.
فقد حقّقت كوبا، التي حلت في المركز 14 عالميًّا في النتائج الختامية، 7 ميداليات ذهبية، وحصدت إيران، التي تعاني أيضًا من حصار دولي خانق منذ عقدَين على الأقل، 3 ميداليات ذهبية لتحلَّ في المركز 27 عالميًّا، فيما لم تحقِّق القاهرة إلا ذهبية واحدة، لتأتي في المركز 54 عالميًّا، خلف الباهاما و”إسرائيل” وقطر وكينيا.
فساد ممنهَج
قديمًا في عصر حسني مبارك، وصفَ أحد رجال الحزب الوطني، حزب الدولة، الفساد في قطاع المحليات لفظًا شعبيًّا مجازًا عن استشرائه في هذا القطاع، قائلًا: “الفساد في المحليات للرُّكب”، ومن ذاك الوقت صار هذا التعبير مستعارًا في أكثر من حقل، وليس المحليات أو الحياة اليومية فقط.
وبالمثل وبلا مبالغة، يمكن القول إن الفساد في قطاع الرياضة المصري “فساد للرُّكب” كما قال زكريا عزمي.. لنأخذ مثالًا واضحًا على هذا حتى نبتعد عن التعميم والكلام المرسَل: لعبة رفع الأثقال.
من المفترض أن هذه اللعبة، لاعتبارات كثيرة، من بينها كونها لعبةً فردية يسهل الاستثمار فيها، وعدم حاجتها إلى أدوات معقّدة مثل ألعاب أخرى، ووجود تاريخ عريق لمصر فيها، ولاعبين أفذاذ يُتنبأ لهم بمستقبل واعد؛ كانت مصر مرشّحة للحصول على عدة ميداليات فيها لدورة طوكيو 2020.
ولكن ما الذي حدث؟ صدر قرارٌ من الاتحاد الدولي للعبة، قبل أولمبياد طوكيو، بإيقاف النشاط الرياضي في مصر لمدة عامَين، على وقع فضيحة منشّطات، قال اللاعبون إن المسؤول عن توريطهم فيها هم قيادات الاتحاد المصري للعبة، الذين كانوا، بمنتهى الاستخفاف بمستقبل هؤلاء الشباب ولأسباب مادية، يخلطون المنشّطات غير المشروعة بالمكمّلات الغذائية التي تورّد للاعبي الاتحاد.
وبدلًا من أن تقوم الجهات الرياضية المسؤولة بدورها في محاسبة الاتحاد، مثل وزارة الرياضة واللجنة الأولمبية المصرية، فإنها تغاضت عن ذلك، وعيّنت محمود محجوب رئيس الاتحاد المسؤول عن الفضيحة، رئيسًا للجنة المؤقتة أيضًا، والسبب ببساطة كما تقول مصادر في الوسط الرياضي المصري، أنه صديق مقرَّب لرئيس اللجنة الأولمبية هشام حطب.
من منا لم يشاهد أو يعرف كرم جابر، البطل المصري في المصارعة الحرة، الذي نجحَ في الحصول على ميدالية ذهبية تاريخية لمصر في أولمبياد أثينا 2004.
وقد شاهدنا جميعًا على شاشات التلفاز والإنترنت، كيف نجح ابن مصر الموهوب، الذي لعب بالجنسية القطرية، بسبب تهميشه ووالده من الاتحاد نفسه، فارس حسونة، في رفع علم قطر عاليًّا، وحصولها على الذهبية الأولى في تاريخها في رفع الأثقال، وزن 96 كيلوغرامًا، بعد رعايته في أكاديمية “أسباير” ودعمه ماديًّا ومعنويًّا.. فمن يحاسِب هؤلاء المقصرين؟
المصارعة الحرة: الأزمة نفسها
من منّا لم يشاهد أو يعرف كرم جابر، البطل المصري في المصارعة الحرة، الذي نجح في الحصول على ميدالية ذهبية تاريخية لمصر في أولمبياد أثينا 2004، ثم تمّ تتويج جهوده وداعميه بعد 8 أعوام بالحصول على ميدالية أخرى، فضّية، في أولمبياد لندن 2012؟
يقول الخبراء الرياضيون إن مصر، وإن لم تكن تمتلك موهبة فذة في المصارعة الحرة مثل كرم جابر في الوقت الحالي، فإنها تمتلك مشاريع أبطال يمكنهم حصاد ميداليات أولمبية، إذا توافر لهم المناخ المناسب، مثل هيثم فوزي ومحمد متولي وإبراهيم قيشو، وقد منحت الولايات المتحدة مؤخرًا 2 من أبناء مصر في هذه اللعبة جنسيتها، هما حسن حسن ومحمود فوزي.
قبل الأولمبياد، طلبَ اللاعبون المصريون، شأنهم شأن أقرانهم في معظم دول العالم، توفير المتطلَّبات الأساسية لهم، وعلى رأسها مدرِّب كفؤ يرفعُ من مستوياتهم، ورعاة إعلانيين يقومون بتسهيل باقي الأمور، كالمعسكرات والسفر وخلافه.
ولكنّ اللاعبين المصريين فوجئوا بإصرار رئيس الاتحاد على مدرِّب معيَّن، يفتقد إلى أساسيات اللعبة، بل يسبّب لبعضهم إصابات، إلى جانب عدم وجود رعاة أو معسكرات حتى 3 شهور قبل الدورة، ولما سألوا رئيس الاتحاد عصام نوار عن سر التعنُّت والإصرار على هذا المدرِّب، أجابهم نصًّا: “مش هنضحك على بعض، محدش فيكم هيجيب ميدالية في طوكيو، يبقى تدربوا مع أي مدرب وخلاص”.
يقول هيثم فهمي، أحد ممثّلي مصر في طوكيو في هذه اللعبة نصًّا: “لم يلتزم أحد في الاتحاد بالخطة الموضوعة قط، تعرضنا لحرب تكسير عظام من المسؤولين عن اللعبة”.
ويؤكد محمد متولي، الذي كان قاب قوسَين أو أدنى من الحصول على ميدالية في هذه اللعبة في هذه الدورة: “لم يكن هناك أي اهتمام بي، إلا قبل الأولمبياد بأسابيع، أتمنى أن يكون هناك اهتمام وتقدير وأعدكم بميدالية في الدورة القادمة. وصلتني عروض تجنيس لأن معي الجنسية الأمريكية، ولكنني لا أريد اللعب لغير مصر”.
ووفقًا لعدد من المصادر داخل الاتحاد، فإنّ ممارسات رئيس الاتحاد التي تؤدي إلى تطفيش المواهب، لم تقتصر عند حدّ محاولة فرض اسم مدرِّب معيَّن على اللاعبين دون إرادتهم؛ ولكنها امتدت إلى محاولته، أيضًا الدفع بـ 3 لاعبين غير مؤهّلين للأولمبياد، كي يشاركوا في بطولة دولية من المفترض أنها، زمنيًّا وعرفيًّا، تعدّ من احتكاكات الإعداد للأولمبياد.
فوضى الكُرة
لا أحد يعلم بالضبط ما هي المحدِّدات الرئيسية لاتخاذ القرارات في الرياضة المصرية، هل هي المصلحة الوطنية المجرَّدة أم المصالح الشخصية؛ لكنّ الظاهر من خلال المؤشرات والنتائج أن مسؤولي الرياضة في مصر، تحكم قراراتهم اعتباراتٌ أخرى، غير المصلحة العامة.
فمن الألعاب الفردية التي كان يفترض أن تحصل مصر على ميداليات فيها، أو تقدِّم أداءً جيدًا على الأقل، مثل رفع الأثقال والمصارعة الحرة، إلى أحد أبرز الألعاب الجماعية التي كان يفترض أن تبلي فيها البعثة المصرية بلاءً حسنًا، باعتبارها لعبة شعبية عريقة في مصر، وباعتبار المنتخب بطلًا لإفريقيا وممثِّلاً لها: كرة القدم.
عاد المنتخب من طوكيو محمّلًا، إلى جانب الأداء السيّئ والنتائج المحبطة بفضيحة تحرُّش.
من المفترض أن القانون الأولمبي يسمح لكل دولة أن تضمَّ 3 أسماء من الفريق الأول لتدعيم صفوف المنتخب الأولمبي، وبناءً على ذلك فقد كان المتوقع أن يضغط اتحاد الكرة من أجل استقدام كل من محمد صلاح، نجم ليڤربول الإنجليزي وأحد أبرز لاعبي العالم، إلى جانب اسمَين آخرَين، ومصطفى محمد لاعب المنتخب الأولمبي في الأساس الذي يلعب في الدوري التركي، وبالأخص أن الدورة الأولمبية تتزامن مع فترة توقُّف في الدوريات الأوروبية الكبرى.
في أولمبياد لندن 2012 التي شاركت فيها مصر، استعان المنتخب، إلى جانب محمد صلاح الذي كان لاعبًا أولمبيًّا في هذه الدورة قبل 9 أعوام، بـ 3 من أبرز أسماء لاعبي الكرة من المنتخب الأول في هذا التوقيت، هم: محمد أبو تريكة وعماد متعب وأحمد فتحي، خط الوسط والهجوم وخط الدفاع، لتدعيم الفريق الأولمبي، وقد نجح المنتخب في تقديم أداء مبهر، خاصة أمام البرازيل التي خسر أمامها بصعوبة بـ 3 أهداف مقابل هدفَين.
ولكن في هذه الدورة استعانَ المنتخب بأسماء ومراكز غريبة للغاية؛ حارس مرمى ولاعبَي قلب دفاع، وكأن المنتخب وجهازه الفنيّ يقولون للاعبين ضمنًا: “لقد أتينا إلى هنا من أجل الخروج بأقل الخسائر”، ولا نعرف إذا كان ذلك قد تحقق أم لا، بالنظر إلى خوض المنتخب 4 مباريات، لم يسجّل أهدافًا إلا في واحدة منها فقط، أمام أستراليا.
وقد عاد المنتخب من طوكيو محمّلًا، إلى جانب الأداء السيّئ والنتائج المحبطة بفضيحة تحرُّش، بعد قيام أحد لاعبي المنتخب المحسوبين على فريق الإسماعيلي بمضايقة عاملة يابانية تقوم بتنظيف الغرف، وترجِّح مصادر أن هذا اللاعب تحديدًا قام المدير الفني باصطحابه بسبب معاملات مالية بينهما.
خلاصة القول
باستثناء الإنجازات الفردية التي حقّقها بعض أبناء مصر المكافحين في بعض الرياضات، بفضل مواهبهم ودعم أُسرهم، مثل أحمد الجندي الذي حصل على الميدالية الفضية في الساعات الأخيرة في الخماسي الحديث، بينما يرتدي نظارة عادية (دون مُثبّت أثناء الركض وركوب الخيل!)، وأداء منتخب اليد الفذّ رغم عدم حصوله على ميدالية؛ لكان ترتيب البعثة المصرية بعيدًا وسيّئًا للغاية.
توعّد المسؤولون السياسيون في مصر بمحاسبة المقصّرين في مهزلة نتائج بعثة منتخب مصر لكرة القدم في كأس العالم روسيا 2018، ثم اتّضح لاحقًا أن هذه الوعود كانت لذرّ الرماد في العيون.
ليس هناك رؤية واضحة حيال ما إذا كان السبب في هذا التراجع يعود إلى الأسباب المادية أم لا؛ فعند الحديث عن الإنفاق، يقول المسؤولون إنهم ضخّوا أكثر من 260 مليون جنيه على مختلف الألعاب الأولمبية، ثم في سياقات أخرى مثل الحديث عن دوافع قبول اللاعبين المصريين بالتجنيس الخارجي والفشل في حصاد الميداليات، يقولون إن ضعف الإمكانات المادية هو السبب الرئيسي في ذلك.
بعض الرياضات الفردية التي استوفت إنفاق كافة المبالغ المخصَّصة لها، مثل السباحة التي صُرف عليها أكثر من 12 مليون جنيه مصري، وكان ينتظر من أعضائها تحقيق إنجازات في هذه الدورة، خاصة أن مصر تضمّ لاعبين مميَّزين، مثل السبّاحة فريدة عثمان، التي لم تنجح في الحصول على ميداليات، أو حتى تقديم أداء لائق، وهو ما يعزِّز سردية أنّ هناك إخفاقًا عامًّا في البعثة المصرية.
ورغم تقديم نواب برلمانيين مثل النائب هشام الجاهل، طلبات إحاطة لدفع المسؤولين عن الرياضة في مصر لتفسير سبب الإخفاق، ووعد بعض قادة الوزارة بمحاسبة المقصّرين، فإنّه من غير المتوقع أن تُتّخذ إجراءات جادة في هذا المجال، لا سيما في ظلّ حالة النشوة التي تسوقها القيادة السياسية عن أداء البعثة الأولمبية.
قبل 3 أعوام من الآن، توعّد المسؤولون السياسيون في مصر بمحاسبة المقصّرين في مهزلة نتائج بعثة منتخب مصر لكرة القدم في كأس العالم روسيا 2018، ثم اتضح لاحقًا أن هذه الوعود كانت لذرّ الرماد في العيون، فالأسماء المتورِّطة في الفساد ما زالت في مواقعها، والمنتخب من سيّئ إلى أسوأ تحت القيادة المحلية التي تتقاضى ملايين الجنيهات؛ لأنّ “الفساد للرُّكب”.