احتكرت السينما الأمريكية والبريطانية والفرنسية تقريبًا الحديث عن حقبة النازية في ألمانيا، وعن حقبة الحرب العالمية الثانية ككُلّ، واحتاجت ألمانيا إلى وقت طويل بسبب عبء الصمت الذي كان يكبّلها، والشعور بالذنب المضني تجاه ما ارتكبه النازيون من جرائم.
إلا أنه بعد نصف قرن من نهاية الحرب تقريبًا، أصبحت السينما الألمانية قادرة على الكلام عن ماضيها النازي بلا مزايدات سياسية، وبعيدًا عن الأفلام غير الألمانية الساذجة والسطحية.
وفي الوقت الذي أخذت فيه السينما الألمانية بالبدء بالحديث عن الماضي النازي، كان يوازيها في الواقع ظهور حاضر يميني معاصر، يتمثّل في صعود التيار الفاشي والنازيين الجدد مجددًا.
وذلك المناخ السياسي هو الذي مهّدَ انفتاحًا وإبداعًا أكبر لصنّاع السينما في ألمانيا، وأصبح بإمكانهم الحديث عن النازية ومناقشتها من دون استحياء، في محاولة وقائية ضد التيار اليميني الجديد، وحتى لا يستطيع الصعود بخطابات شعبوية مرة أخرى تسيطر على عقول الناس.
في هذا التقرير، الذي نستفتح به ملف “السينما الألمانية” لسنا بصدد التعامل مع قضية السينما الألمانية بتناول حكم النازيين، ولكن نسرد آلية عرضها لتلك الحقبة من التاريخ.. وفي التعامُل مع ذلك الإرث النازي، مرّت السينما الألمانية بالعديد من الأطوار التي علينا أن نسردها أولًا، قبل أن نأتي على ذكر تعاملها مع النازية المعاصرة.
أفلام الحرب
قبل أن تتحدث السينما الألمانية عن النازية من منظور اجتماعي، قدّمت عددًا من الأفلام عن الحرب رغم كونها الطرف المهزوم، وحاولت في تلك الأفلام أن تبتعد قدر المستطاع عن تعظيم شأن فكرة التحشيد الشعبي الذي جمع الجنود حول هتلر، فقدّمت مأساة الجنود الألمان أنفسهم، وبطولاتهم بعيدًا عن الشعارات الجوفاء الرنانة.
نجد هذا متمثِّلًا في أشهر وأهم فيلم ألماني عن الحرب، فيلم “القارب” (Das Boot)، الذي أُنتج عام 1984 وعُرض في السينما، ثم تمّ تقطيعه لضخامة حجمه الكبير ليعرَض كمسلسل تلفزيوني.
فيلم “القارب” هو أشبه بالملحمة الأوديسية، فيلم حابس للأنفاس طيلة 4 ساعات لا تشعر بمرورها بينما تشاهده، يقدّم قصة عن بطولات إحدى الغواصات الألمانية في الحرب العالمية الثانية، وقدرتها على النجاة رغم كل محاولات إغراقها، ورغم المهمات الانتحارية التي تنفّذها، ليصلَ جنودها إلى أرض الوطن في النهاية، ليجدوه مهزومًا، وليموتوا على الأرض، ولكن بعد أن نجحت مهمتهم كاملة في المحيط.
إن ذلك المعنى يوضِّح أنه يخلّد بطولة الجنود في مهمتهم التي كانوا منوطين بتنفيذها، ولكن ذلك لا يغيّر في أقدارهم شيئًا، فلا بطولة في الحرب، وفي النهاية إنهم أمة مهزومة.
لقد عُرض الفيلم في الثمانينيات، بينما كانت قوانين Section 130 لا تزال ألمانيا تعيش تحت وطأة تطبيقها، وتلك القوانين هي قوانين تمّ سنّها أعقاب الحرب العالمية الثانية، تجرِّم تداول أي رموز نازية أو معادية للسامية في التظاهرات أو على التلفاز أو حتى في الأغاني، أي ما يعني طمس هتلر في الذاكرة.
لذلك نرى في الفيلم تجاهُلًا تامًّا للقادة النازيين، وغيابًا لإشارة الصليب المعقوف وصور هتلر والشعارات المميِّزة للجيش الألماني النازي، أي أنهم مجرد جنود ألمان، لدرجة أنك تخال في بعض الأحيان أن تلك حرب غير الحرب العالمية الثانية.
السمة المميزة لأفلام الحرب عن النازية من منظور ألماني، هي محاولة أنسنة الجندي الألماني الذي تمّت شيطنته في أفلام الحرب الهوليوودية.
يعدّ فيلم “ستالينغراد” (عام 1993) واحد أيضًا من أهم أفلام الحرب التي أُنتجت من وجهة نظر ألمانية، والفيلم كما يوضِّح اسمه، عن المعركة الفاصلة بين الجيش الألماني والجيش الأحمر السوفيتي في مدينة ستالينغراد، وهنا يقدِّم الفيلم صورة أخرى عن بطولة الجنود الألمان، تنتهي مأساتهم بالموت متجمّدين وجائعين.
ويتحدث الفيلم عن القيادة النازية في صوت الراوي، ويوضِّح كيف تخلت تلك القيادة عن جنودها، وضحّت بهم في سبيل شعارات جوفاء وخادعة، وأنهم بينما كانوا يظنّون أنهم يموتون من أجل الوطن، كانوا يموتون من أجل الفوهرر، وليسوا سوى قطع شطرنج على رقعته بينما يلعب لعبته الكبيرة في أوروبا.
ويعدّ فيلم “أرض الألغام” (عام 2015) آخر أهم إنتاجات أفلام الحرب الألمانية، وإن كان إنتاجًا مشتركًا مع الدنمارك. يتحدث الفيلم عن مجموعة من الجنود الشباب النازيين الذي أُسروا في الدنمارك عقب هزيمة ألمانيا، ويخضعون لإعادة تأهيل تحت قيادة عقيد دنماركي.
نبحر معهم في رحلة تطهيرهم وتخلُّصهم من الأفكار البائدة، ومحاولة تأسيس أرضية إنسانية واسعة مشترَكة بينهم وبين قائدهم الدنماركي، يتغلّبون من خلالها على ضغائن وعداوات الحرب، وينتهي الفيلم أيضًا نهاية مأساوية حيث يموت الكثير من هؤلاء الشباب نتاجًا للألغام التي زرعوها على طول الشاطئ، وهم يحاولون تفكيكها.
إن السمة المميزة لأفلام الحرب عن النازية من منظور ألماني، والتي عرضناها، هي محاولة أنسنة الجندي الألماني، الذي تمّت شيطنته في أفلام الحرب الهوليوودية والأوروبية من دول المحور، وإلقاء الضوء على الجوانب الإنسانية لذلك الجندي، وكيف كان هو ضحية لقادته.
كان ضحية عصر أوروبي في ذلك الوقت كان مجنونًا بالأفكار الفاشية، وضحية أيضًا قوانين المنتصر المذلّة التي عانت منها ألمانيا في نهايات الحرب العالمية الأولى، وأنتجت جيلًا يسعى للانتقام ولمحو تلك المذلّة، وهذه الأفلام تحاول أن تعيد بريق الجندي الألماني، وإيمان الأمة الألمانية بنفسها وبرائتها.
هتلر على الشاشة
إن تصوير هتلر على الشاشة مرَّ بالعديد من التطورات والقوالب والأنماط، والتي كان أشدها وأكثرها تركيزًا على تصويره هو القالب السايكوباثي الذي طالَ حتى الأفلام الوثائقية عن الحرب.
في عام 2004، استطاع المخرج أوليفير هيرشبغل أن يزلزل السينما الألمانية والأوروبية حين عرض فيلمه “السقوط” عن الأيام الأخيرة في حياة الفوهرر، والذي قدّم فيه شخصية هتلر بحيادية، حيث أعطاها الكمّ الطبيعي من الانفعالات وردود الأفعال التي يتحلى بها أي إنسان في ظرف عصيب.
كما استطاع أن يلغي صورة الشر المطلق التي وصمَت شخصيات هتلر المتعددة في السينما، وقدّم هتلر كشخصية هشة في بعض الأحيان، تشعر بالخيبة وتأنيب الضمير، بل محبّة لوطنها.
عاد هتلر للظهور على الشاشة في تلك السنة من خلال العديد من الأفلام، والتي يركز أغلبها على محاولة اغتياله كفيلم “شتاوفينبرغ”.
لقد سلب الفيلم من الديكتاتور سحره، وقدم أُفُقًا يركّز كل التركيز على المجرم، حين كان هتلر يصرخ ويهدر غضبًا أمام جنرالاته في المخبأ في أيام الحرب الأخيرة، وحين كان يريد أن يجابه العدو بوحدات لم يعد لها وجود أصلًا، وحين كان يهذي عن شعب أثبت أنه غير جدير به، أصبح هتلر عجوزًا مقوّس الظهر، تاه منذ أمد في نظام جنونه الخاوي ولم يترك سوى انطباع بارد ومُنفِر.
أثار الفيلم ضجة كبيرة وجدلًا أخلاقيًّا حول جواز إظهار هتلر في صورة نسبية رمادية، واتُّهم الفيلم أيضًا بمعاداة السامية كالعادة.
وفي العموم يعدّ عام 2004 عامًا خصبًا في تناول الماضي النازي في السينما الألمانية، حيث تمّ تقديم مدرسة أشبال القائد في فيلم NaPolA، والذي يقوم فيه المخرج دينيس غانسل بمناقشة مرحلة كارثية في مجتمع الرايخ الثالث، حيث كانت المؤسسة تقوم بتلقين الشباب المراهق، ومن ثم تخميرهم في مدرسة خاصة ليكونوا وقود المغامرة النازية.
وعاد هتلر للظهور على الشاشة في تلك السنة من خلال العديد من الأفلام، والتي يركز أغلبها على محاولة اغتياله كفيلم “شتاوفينبرغ”، أو مناهضته كفيلم “صوفي شول”، والذي تعدّ ثورته في أنه يعطي صورة شبه ديمقراطية للعصر النازي، كان يمكن للإنسان فيها أن يناهض النظام بحرية.
أثمة نازية حاليًّا؟
يعدّ هذا السؤال من أهم الأسئلة التي تؤرق صنّاع السينما الألمانية حاليًّا، السؤال عن النازية ومسبِّباتها، وهل هي مرتبطة بعصر معيَّن، أم أنها قادرة على أن تولد دائمًا وأبدًا من رحم ظروف يمكن تطبيقها في كل عصر، ومن هم النازيون الجدد، وكيف يتسنّى لنا أن نواجههم.
بالفعل لم تنتهِ النازية الهتلرية في ألمانيا بانتهاء الحرب، أو بانتحار الفوهرر، بل ظلت حية، وظلت تتطوّر حتى تخطت هتلر نفسه، واستطاعت أن تنظِّم نفسها في شكل جديد تمكّنت من خلاله الدخول مجددًا إلى عالم السياسة في ألمانيا، خاصةً بعد سقوط الجدار وتوحيد الدولة مجددًا.
وهناك أيضًا جناح نازي متطرِّف يعمل في الخفاء، وله الأجندة نفسها التي كانت للنازيين الأوائل في معاداة الآخر، وتطرأ تلك القضايا على الساحة الألمانية وتنعكسُ في سينماها كنتيجة طبيعية، إذ الفن هو مرآة للواقع.
فبتحليل ظاهرة النازية والفاشية، هناك العديد من الأفلام الاجتماعية التي تبحث عن جذور الفكرة داخل المجتمع، وكيف أنها قابعة في النفوس، ويمكن لها أن تنفجر وفقًا لمحفِّزات معيّنة، وهناك عديد من الأفلام التي تناقش تلك الظاهرة كفيلم “التجربة” لمخرجه أوليفر هيرشبيغل، وفيلم “الموجة”، والفيلم الأبرز “الخيط الأبيض” لمخرجه مايكل هاينيكي الذي أخرجه عام 2009.
قرر مايكل هاينيكي أن يعود إلى الجذور القديمة التي صنعت الجندي النازي، حيث يقول إن فيلمه صورة لمجتمع ولّد الجيل النازي، هذه القرية التي تدور فيها الأحداث عام 1913، عشية الحرب العالمية الأولى، هي صورة مصغَّرة لألمانيا كلها، التي تعيش في مناخ من القمع اليومي والوحشية الأبوية، التي تنتقل من جيل إلى جيل، حيث أي شرّ سياسي وارد الحدوث.
إن ذلك الفيلم يدفع إلى التساؤل: هل إنسانية الإنسان اتجاه الإنسان متأصّلة، أم أنه يجب تدريسها بعناية؟ إن الفيلم يشكّل امتدادًا لسينما هاينيكي القاتمة السادية، التي تستفزّ المشاهدين وتقسو عليهم، فهاينيكي في أفلامه لا يستحي أن يعرضَ أكثر العلاقات البشرية شذوذًا.
الفيلم ليس عن هل سنصدق هتلر إذا عاد وادّعى شخصٌ أنه ينتحل شخصيته، أم هل سنظل نصدِّق الأفكار التي روّج لها هتلر دائمًا وأبدًا.
يستمد الفيلم عنوانه من الشرائط البيضاء التي يجبرُ القس/ الأب أبناءه على ارتدائها عندما يعتقد أنهم قد عصوه، يُكتب عليها أن اللون الأبيض يذكّر بالبراءة والنقاء، ومن تلك الحيلة يهدفُ القس إلى أن يغرس مخافة الله داخل أنفس الأطفال حتى تكبر معهم.
ولكن ذلك يتحقق من خلال بعض الممارسات السادية أيضًا التي يمارسها القس/ الأب، كمحاكم تفتيش على أبنائه وطلابه، وتهديدات بالموت المبكّر واللعنة الأبدية.
فمثلًا حين ينتزع القس من الطفل مارتن الاعتراف بأنه كان يمارس العادة السرية، يعاقبه بأن ينام ويداه مربوطتَين بجانبَي فراشه، حتى أنه حينما يندلع حريق في مكان قريب من سريره ذات ليلة، يتوسّل مارتن لأخيه الصغير أن يفكَّ رباطه، ولكن الصبي كان يرفض مخافة أبيه الذي أمره ألا يفك أخيه تحت أي ظرف.
إن ذلك القهر والاعتداء على براءة الطفولة، سيجعلان ذلك الجيل المنتهَك أن يشارك في فظائع الفكر النازي، ويطبّقه عن قناعة وإخلاص.
إن رسالة الفيلم واضحة ومؤكدة من تصريحات مخرجه، أو من المعلِّق الصوتي الذي يفتتح الفيلم قائلًا إن قصته قد توضّح بعض الأشياء التي حدثت لاحقًا في بلده، فالفيلم يرى أن كل الأنظمة الأبوية قادرة على تكرار الفاشية وإنتاجها دائمًا وأبدًا.
وهناك أيضًا نوعية من الأفلام، بل المخرجين المهمومين بقضية النازية المعاصرة في المجتمع، على رأس تلك القائمة المخرج التركي بصفته تركيًّا، فاتح أكين، الذي تؤرقه وتخيفه بشدة فكرة عودة الأفكار النازية للسيطرة على المجتمع، وهناك أيضًا أفلام قدّمها المخرج ديفيد ونيندت التي كان أبرزها فيلم “انظروا من عاد” (عام 2015)، الذي يقدم فيه صورة ساخرة كوميدية عن الفوهرر، ولكنها تناقش أزمة خطيرة وهي إحياء هتلر عام 2015.
الفيلم ليس عن هل سنصدق هتلر إذا عاد وادّعى شخصٌ أنه ينتحل شخصيته، أم هل سنظل نصدِّق الأفكار التي روّج لها هتلر دائمًا وأبدًا، حيث يعتمد الفيلم على أسلوب يمازج بين الواقعي والروائي المتخيَّل، ويدلِّل عن أزمة حقيقية في تربة المجتمع الألماني التي بإمكانها أن تطرح ثمرة النازية الفاسدة من جديد.
كما قدّمَ ديفيد فيلمًا من داخل جماعات النازيين الجدد أيضًا، وهو فيلم “المقاتلة” حيث يناقش فيه سيرة إحدى الفتيات من أعضاء النازيين الجدد، وكيف تلقت تعاليمها وعقائدها على يد جدّها النازي القديم، وفيه يقدِّم صورة بانورامية عن تنظيمات النازيين الجدد في المجتمع الألماني، وعن ناقوس الخطر الذي يعلِن عن أزمة ستنفجر فعليًّا في المجتمع الألماني عاجلًا أم آجلًا، إذا لم يتصدَّ لها المجتمع والقانون.