تصاعدت مخاوف الشارع الأفغاني مع عودة حركة طالبان للمشهد مرة أخرى إثر سيطرتها على مقاليد الحكم بعد السقوط المدوي للجيش النظامي وهروب الرئيس ومن قبله انسحاب القوات الأجنبية، فيما فرضت أجواء الولاية الأولى للحركة نفسها مجددًا بعد أكثر من 20 عامًا على إسقاطها.
ومع الساعات الأولى لإحكام حركة طالبان قبضتها على كل أرجاء البلاد حاولت قيادات الحركة عبر تصريحات ومؤتمرات عدة، بث رسائل طمأنة للداخل والخارج على حد سواء، في محاولة لتبديد المخاوف كافة التي زادت وتيرتها مع عودتها للسلطة بعد عقدين من المعارك العسكرية والسياسية التي خاضتها ضد القوات الأمريكية.
تدفع طالبان اليوم ثمن صورتها الذهنية المشوهة والمثيرة للقلق التي طبعتها في ذاكرة المواطن الأفغاني خلال ولاية حكمها الأولى، عبر سياستها المتشددة التي كانت السبب الرئيسي في توسيع الفجوة بينها وبين الشارع، لتجد نفسها بعد كل تلك السنوات مطالبة بتحسين تلك الصورة وإعادة رسمها وفق سرديات مغايرة تتوافق والمستجدات السياسية، الإقليمية والدولية، الحاليّة.
السؤال الذي بات يفرض نفسه اليوم مع التموضع الجديد لطالبان: هل غيرت الحركة فعلًا من إستراتيجيتها القديمة بعيدًا عن التصريحات التي يغلب عليها الطابع الدبلوماسي في تلك المرحلة الضبابية؟ وهل تنجح فعلًا في تقديم وجه جديد لها يكسبها معاركها المستقبلية المتوقعة التي على رأسها طمأنة الداخل وتبريد الساحات الملتهبة والاعتراف الدولي بها كسلطة جديدة للبلاد؟
وجه طالبان الجديد
تحت عنوان “هل تغير عناصر طالبان؟” أشارت صحيفة “لاكروا” الفرنسية إلى الخطر الذي تمثله الحركة الأفغانية بعد سيطرتها على البلاد، مستندة في ذلك إلى الإرث القديم الذي ما زال يخيم على الذاكرة العالمية، وذلك رغم المحاولات التي تبذلها الحركة لإظهار وجه آخر غير الذي اعتاده الشارع قبل عقدين.
الصحيفة كشفت عن ترويج الحركة إلى أن عودتها إلى النظام السياسي الأفغاني ليس مرادفًا لاستيلاء الجماعة المتشددة على السلطة، “لكن لا أحد يعرف ما يدور في رؤوسهم وقلوبهم”، فيما نقلت عن الباحث في جامعة العلوم السياسية بباريس، آدم باشكو، رؤيته أن “طالبان قد تغيرت، فعناصرها لم يعودوا ملالي المقاطعات كما كان الحال في التسعينيات”.
باشكو أضاف أن عناصر الحركة باتوا اليوم أكثر إتقانًا للممارسات الدبلوماسية والعمل السياسي المحترف، كما أدركوا أهمية تقديم أنفسهم كحركة تحترم القانون الدولي وحقوق المرأة، لافتًا إلى أنه رغم ذلك يمكن القول إنهم ما زالوا غير متأكدين من خططهم للمستقبل.
القراءة الأولية للساعات الأولى بعد عودة الحركة للمشهد السياسي مجددًا تشير إلى بعض التغيرات الجوهرية التي طرأت على العقلية الإدارية والأيديولوجية لها، التي كانت بالأمس خطوطًا حمراء لا يمكن المساس بها، وهو ما يعكس – ظاهريًا على الأقل – رغبة كبيرة في تحسين الصورة القديمة.
البعد عن نزعة الانتقام.. المشهد الأول الذي يعكس حجم التغيير في عقلية الحركة ميلها نحو طي صفحة الخلافات مع خصوم الداخل والخارج معًا، وتنحية إستراتيجية الانتقام جانبًا، وهو ما أكده الناطق باسمها ذبيح الله مجاهد خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده في العاصمة كابول حين قال: “اعتبارًا من اليوم نعلن انتهاء عدائنا مع كل من وقف ضدنا في أفغانستان.. لن ننتقم من المتعاونين مع الاحتلال ولا من أفراد النظام السابق وهم شركاؤنا في بناء وطننا”.
المتحدث أكد أن “الحرية والاستقلال حقان مشروعان للشعب الأفغاني”، لافتًا إلى أن طالبان لا تريد تصفية حسابات مع أحد داخل أفغانستان، متابعًا “أصدرنا عفوًا عن كل من وقف ضدنا، ولا نريد استمرار الحرب بل نسعى لإزالة كل أسبابها”.
يتناغم هذا التصريح مع الفروق الكبيرة بين دخول الحركة العاصمة كابل عام 1996 ودخولها اليوم، ففي المرة الأولى كان الانتقام الشعار الأبرز، إذ أعدمت الحركة الرئيس الأفغاني الأسبق محمد نجيب، بدعوى تحالفه مع السوفييت وقتها، الأمر الذي اضطر معه الرئيس – حينها – برهان الدين رباني للهروب ومعه رئيس الحكومة قلب الدين حكمتيار، لكن اليوم لم توجه الحركة رصاصة واحدة صوب أي أحد، بل حاولت جاهدة طمأنة أنصار نظام الرئيس الهارب أشرف غني بالبقاء في منازلهم دون أي تهديدات أو خطر يهددهم.
حقوق المرأة.. كان هذا الملف هو التخوف الأبرز حضورًا على منصات التناول الإعلامي منذ بسط الحركة سيطرتها على المشهد، ولعل ما حدث قبل ربع قرن تقريبًا السبب الرئيسي وراء هذا التخوف، فقد اتخذت الحركة وقتها إجراءات صارمة بحق المرأة ومنها منع التعليم والعمل وتضييق عملية الخروج من منزلها إلا بشروط قاسية.
لكن اليوم الوضع تغير بصورة لافتة، فبعد أقل من 24 ساعة على دخول طالبان القصر الجمهوري تظاهرت سيدات في العاصمة كابل، ورفعن لافتات كتبن عليها 4 كلمات باللغة الإنجليزية “توجد نساء في أفغانستان”، دون أن يعترضهن أحد، كما ظهر – لأول مرة في تليفزيون أفغاني – أحد مسؤولي طالبان ضيفًا في حوار تديره مذيعة أفغانية دون وجه مغطى، وهو أمر مستغرب على الحركة صاحبة التاريخ المشين فيما يتعلق بحقوق المرأة.
يبدو أن سنوات الزخم التي قضتها الحركة في المفاوضات مع الأمريكان ومبعوثي الأمم المتحدة قد أثقلت قدراتها الدبلوماسية، وأسفر هذا التأهيل الدبلوماسي عن نجاحات حققتها مع الجيران
طالبان وعبر متحدثها الرسمي أكدت أنها تتعهد بمنح المرأة حقوقها التي أقرها الإسلام، مضيفًا “المرأة عنصر مهم في أفغانستان، وهناك قانون يُكرس احترامها وصيانة حقوقها، وسيكون هناك حضور نشط ومهم للمرأة. ونحن نطمئن العالم وكل من يساوره القلق بشأن مستقبل النساء في بلادنا بأننا نمنح المرأة حقوقها الكاملة طبقًا للشريعة الإسلامية”.
الأستاذة الجامعية نهى الأفغاني في مقابلة لها مع “الجزيرة” من كابل، أوضحت أن الخوف الحاليّ في صفوف النساء ناتج عن التجربة السابقة مع الحركة، منوهة أن جزءًا كبيرًا من هذا الخوف تلاشى تدريجيًا وحل محله قدر من التفاؤل بسبب رسائل الطمأنة الإيجابية التي بثتها طالبان، لافتة إلى ما قامت به الحركة بعد دخولها القصر الجمهوري، إذ حثت الأولياء على بعث أبنائهم وبناتهم للمدارس، والتقى ممثلون عن الحركة مع مدرسين ومدرسات في هذا الشأن، وهو ما بدت ملامحه مع ذهاب الفتيات للمدارس في اليوم التالي لدخول كابل.
الانفتاح على الإعلام.. كان الإعلام أحد ضحايا السيطرة الطالبانية الأولى قبل عشرين عامًا، فمنعت وسائل الإعلام الحديثة كالتليفزيون والأقمار الصناعية بجانب منع الصور كذلك، فيما تم الاقتصار الإعلامي على إذاعة بيانات وتعليمات الحركة وبث خطب قادتها ومحاضراتهم.
اليوم تسعى الحركة لتقديم وجه مغاير في التعامل مع الإعلام، فالقادة لا يمانعون إجراء أي أحاديث مع أي قناة كانت، فظهر رئيس المكتب السياسي محمد نعيم، في مداخلة مع التليفزيون المصري، فيما أجرت قناة إسرائيلية لقاءً مع المتحدث الرسمي لها، حتى إن أخفى المراسل العبري هوية قناته، إلا أن عدم تشدد المتحدث باسم الحركة في معرفة هويتها يعد تطورًا غير مسبوق في التعامل مع هذا الملف.
وتأكيدًا على هذا التوجه أوضح المتحدث باسم الحركة خلال مؤتمر الأمس قائلًا: “أؤكد أننا سنبقى على صلة مع وسائل الإعلام التي ستعمل بحرية، لكن لن نسمح لأي أحد أن يبث نعرات على أساس العرق أو الدين ونريد أفغانستان موحدة للجميع، ولن نسمح لأي وسيلة إعلامية بمخالفة قيم الشعب الأفغاني أو تعاليم الإسلام”، وتابع “بإمكان وسائل الإعلام الخاصة في أفغانستان أن تواصل عملها بحرية واستقلال”.
فتح قنوات دبلوماسية مع الدول كافة.. هروبًا من الانعزالية التي كانت عليها الحركة خلال ولايتها الأولى، تحاول اليوم الانفتاح بشكل كامل على كل الدول عبر قنوات دبلوماسية مفتوحة دون شروط مسبقة، حتى مع الدول ذات الخصومة السياسية والعداء التاريخي معها.
يبدو أن سنوات الزخم التي قضتها الحركة في المفاوضات مع الأمريكان ومبعوثي الأمم المتحدة أثقلت قدراتها الدبلوماسية، وقد أسفر هذا التأهيل الدبلوماسي عن نجاحات حققتها مع الجيران، روسيا وباكستان في المقام الأول، فقد استطاعت تحييد هاتين القوتين حيال أي تحرك لها على المستوى الداخلي.
الأعوام الثلاث الأخيرة تحديدًا شهدت سيولة دبلوماسية لدى الحركة في التعامل مع العديد من الدول، وهو ما تجسده الزيارات المتتالية لممثلي طالبان لبعض العواصم، بعضها كانت تصف طالبان بـ”الجماعة المحظورة” كروسيا على سبيل المثال.
المتحدث باسم الحركة حاول طمأنة المجتمع الدولي من خلال مغازلته بالتأكيد على أن بلاده لن تُستخدم ضد الآخرين، ولن تكون منصة لتهديد أمن واستقرار أي دولة أجنبية، مؤكدًا احترام كابل الشؤون الداخلية للدول وعدم الزج بنفسها في معارك لا تخصها.
البعد عن سياسات الإقصاء والاستئثار بالسلطة.. كان الانفراد بالسلطة أبرز المآخذ التي تعرضت لها الحركة في ولايتها الأولى، وهو ما أثار مخاوف بقية التيارات السياسية ومكوناتها الشعبية والقبلية والعرقية، الأمر الذي وسع الفجوة بين طالبان والمجتمع الأفغاني.
تسعى الحركة اليوم للاستفادة من دروس الماضي، ولعل بعض المشاهد تعكس تلك الاستفادة منها إرجاء إعلان الإمارة الإسلامية بالبلاد، خشية استفزاز الشيعة والطاجيك على وجه الخصوص، يتزامن ذلك مع تصريحات إيجابية صادرة عن قادتها الساعات الماضية بشأن التشاركية في الحكم والتمثيل الشامل لكل المجتمع الأفغاني، وهو ما يتناغم مع تجنب الطالبانيين – على الأقل في الوقت الراهن – الدخول في معارك جانبية مع بعض القوى المرتبطة بإثنيات داخلية كإيران وطاجسكتان وباكستان.
وفي السياق ذاته أبدت طالبان بعض المرونة حيال الأقليات والأعراق الأخرى، حين أكدت على لسان متحدثها الرسمي: “سنحترم المعتقدات الدينية والقيم الروحية لجميع الأفغان، لكن من حق الشعب الأفغاني أن يكون له قانونه الخاص وعلى العالم أن يحترم قيمنا”.
تبقى تلك المؤشرات عن تخلي طالبان عن وجهها القديم ومحاولة تقديم آخر أكثر إيجابية، مجرد قراءات أولية في ضوء التصريحات الإعلامية وممارسات الحركة خلال الأيام الماضية، لكنها لا ترتقي بعد لدرجة التيقن بوجود تغييرات حقيقي
هيكلة جديدة.. من إستراتيجيات الحركة لتجميل صورتها الداخلية ومغازلة الشارع الأفغاني ضخ دماء جديدة في شريان منظومتها الإدارية، معتمدة على عنصر الشباب في المقام الأول، بعيدًا عن القيادات السنية الكبيرة التقليدية التي ربما لا يتواكب فكرها مع المستجدات الراهنة.
وبعيدًا عن سياسة الانكفاء على قيادات الحركة وفرض جدار عازل بينهم وبين الشعب، فتحت طالبان الباب على مصراعيه بين زعمائها الجدد والشارع، وباتت أسماء القادة الحاليّين والهيكل الإداري الجديد تحت الأضواء، متخلية الحركة بذلك عن كهنوتيتها السابقة.
وتبقى تلك المؤشرات عن تخلي طالبان عن وجهها القديم ومحاولة تقديم آخر أكثر إيجابية، مجرد قراءات أولية في ضوء التصريحات الإعلامية وممارسات الحركة خلال الأيام الماضية، لكنها لا ترتقي بعد لدرجة التيقن بوجود تغييرات حقيقية، خاصة في ظل التحديات المرجح أن تواجهها وسيكون لها ارتداداتها على نظام السلطة وإستراتيجية الحكم، وربما الدفع لردود فعل لا تتناغم ورسائل التطمين تلك.
أخيرًا.. من السابق لأونه تقييم الصورة الجديدة التي تحاول طالبان تصديرها للداخل والخارج، وتبقى الأيام القادمة هي المحك الحقيقي لفلترة تلك المؤشرات والوقوف على دوافعها الحقيقية، وما إذا كانت تعكس استفادة حقيقية من دروس الماضي أم مغازلة دبلوماسية لكسب المزيد من الوقت لفرض السيطرة الكاملة على المشهد تقود أفغانستان معها لعقود طويلة للخلف ربما تشعل المنطقة برمتها.