ستُدهَش حينما تعرف أن قطاع السينما الألمانية في ألمانيا الشرقية كان من أضخم قطاعات الإنتاج السينمائي الأوروبي، وكانت له الريادة في تطوير مجال الرسوم المتحركة، وستُدهَش أيضًا أن ذلك الإرث الضخم لم يتبقَّ منه إلا القليل، وأسماء الممثلين والمخرجين الذين كانوا عظماء لسكّان ألمانيا الشرقية أثناء التقسيم، ربما لا يتذكرهم أحد في جمهورية ألمانيا الموحّدة اليوم.
إن لماضي التقسيم قصةً تروى تقريبًا دائمًا في السينما الألمانية، وهي نظرة المنتصِر كما تُسمّى في علم التاريخ، فالمنتصر في النهاية كانت ألمانيا الغربية ومعسكرها، ولكن قبل أن نروي انعكاس ذلك الماضي الشيوعي في موجة السينما الألمانية الحديثة، علينا أن نتحدث عن DEFA.
DEFA: تاريخ موجز بشدة
كان السابع عشر من مايو/ أيار 1946 هو تاريخ تأسيس شركة DEFA قبل سنوات من إنشاء جمهورية ألمانيا الديمقراطية، كان ذلك اليوم الذي أصدر فيه العقيد سيرجي تولبانوف، مفوَّض الثقافة في الإدارة العسكرية السوفيتية، أول رخصة تصوير بعد 3 أشهر، وتمّ تسجيل DEFA في السجلّ التجاري.
وعلى مدار 40 عامًا من وجوده، أنتج استوديو ألمانيا الشرقية المملوك للدولة أكثر من 700 فيلم روائي طويل، و2250 فيلمًا وثائقيًّا، و2000 فيلم إخباري، و950 فيلم رسومٍ متحركة وإصدارات مدبلجة، وكان من المفترض لأفلام الدعاية تلك كلها أن تدفع الألمان الشرقيين وراء فكرة الاشتراكية، وكانت تدور حول محاربة الفاشية، ووظائف الناس والحياة اليومية في ألمانيا الديمقراطية هي محور التركيز.
ورغم القيود وتدخُّل وزارة الثقافة في أحيان كثيرة، استطاع بعض المخرجين والمؤلفين من تطوير أسلوبهم الفني بعيدًا عن الخط الحزبي الصارم، فقد كان هناك أفلام تحدّت هياكل السلطة، وعرضت بشكل غير مباشر مشاكل الناس ومظالمهم، كفيلم “المهندسون المعماريون” عام 1990، للمخرج بيتر كاهانا.
القصة كلها كانت مؤطَّرة بإطار يمجِّد الاشتراكية، ومصنوعة بمنهج الواقعية الاشتراكية.
تميزت شركة إنتاج DEFA بتمكين المرأة، فقد كانت السيدات هنّ العنصر الغالب على العاملين في القطاع، وبعد مسيرة دامت حتى سقوط الجدار، سيطرت شركة CGE الفرنسية على استوديو DEFA الذي أصبح تابعًا لألمانيا الموحَّدة، التي خصخصَت ما استطاعت من هياكل ألمانيا الشرقية في السابق.
أما الأفلام فكان مصير كثير منها الضياع، وبعضها الآخر قد نجا، ولكنه لم يعرَض حتى الآن لأن قطاع الإنتاج الألماني الحالي يحاولُ إيجاد الطريقة المثلى لأرشفته وترميمه أولًا.
لقد كانت DEFA تنتج أفلامًا كتلك التي تنتَج في أي سينما في العالم، حبّ ورعب، واقعية وخيال علمي، كوميديا ومأساة، وخلافه من الأنواع السينمائية، غير أن القصة كلها كانت مؤطَّرة بإطار يمجِّد الاشتراكية، ومصنوعة بمنهج الواقعية الاشتراكية، إلا أن تاريخ ألمانيا الشرقية قد تمّ الحديث عنه بصورة سلبية في الكثير من الأحيان، قليلًا ما تكون موضوعية.. إنها موجة السينما الجديدة في ألمانيا التي سنستعرضها.
ماضٍ مشين وجائزة أوسكار
كأي ماضٍ يُخشى تذكره لما يأتي به من مصائب، ظلت السينما الألمانية صامتة تقريبًا عن فترة التقسيم طيلة 10 سنوات من سقوط الجدار، وقد بدأت التجربة الجادة الأولى والأجرأ في فيلم “النفق”، الذي تمّ إنتاجه عام 2001.
يتناول الفيلم قصة 28 عامًا من وجود جدار برلين حائلًا بين شرقها وغربها، والعديد من الأنفاق التي تمّ تخطيطها بعدد لا يُحصى، كممرّات للهروب من الشرق إلى الغرب، والفيلم مبني على أحداث حقيقية مروعة، حيث يتناولُ قصة السبّاح هاري ملكيور، الذي عزّزت 4 سنوات من السجن معتقداته الصارمة المناهضة للشيوعية، ما جعله رافضًا الاستمرار في اللعب لبلاده، محاولًا الهروب إلى الغرب، لكن ما يسحبه عميقًا ويجذّره في الشرق علاقته بأهله الذين يحاول أن يهرّبهم معه.
يتمتّع فيلم “النفق” بقبضة عاطفية تجعله أفضل أفلام الهروب من السجن، وهنا تكون القضبان مجازية فقط، باستثناء الجدار الضخم نفسه، لكن الفيلم ذاته يصوِّر بشكل مقنع المصاعب والقيود المدمِّرة التي غيّرت الحياة، وعانى منها سكّان برلين المقسَّمة.
أما فيلم “وداعًا لينين!” الذي تمّ إنتاجه عام 2003، يعدّ من أشهر الأفلام التي تتناول ألمانيا المقسَّمة، ويتميز بأسلوبه الكوميدي، وما ميّزه أيضًا أنه لم يصنَع لمجابهة ماضي ألمانيا الشرقية الشيوعية، وما فيه من قمع وسيطرة أمنية للدولة، ولكنه اهتمَّ بعرض الفجوة والصدمة الثقافية التي تعرّضَ لها المواطنون الألمان بعد سقوط الجدار.
عرض تلك الفجوة من خلال شخصية الأم، الشيوعية اللينينية الكلاسيكية، التي دخلت في غيبوبة حينما رأت ابنها يسقط مغشيًا عليه في إحدى المظاهرات الاحتجاجية التي وسمَت الحياة في أواخر سنين ألمانيا الشرقية، حيث هي أيضًا أغشي عليها نتيجةً للاضطراب بين الولاء للحزب وحبّ الابن.
وبينما تستمر الأم في الغيبوبة أغلب أحداث الفيلم، يأخذنا مخرجه فولفغانغ بيكر من خلال كاميرته الرشيقة، وحوار الفيلم الكوميدي المضحك، ليؤرِّخ عرضًا لحالة التغيُّر السريع الذي سينتاب المجتمع الألماني الشرقي، حين يندمج مع نظيره الغربي في بلد واحد.
ويقدّم الفيلم صورة غير أورويلية عن الأسرة في ألمانيا الشرقية، فبينما أشاع جورج أورويل في روايته الأشهر “1984” صورةً عن العلاقات الأسرية والحب في مجتمع شيوعي بأنها من المحرّمات، وأنها فقط في سبيل الحزب؛ يقدّم لنا الفيلم عرضًا لمستوى من التكاتُف الأسري العاطفي بالغ الرقة والعذوبة.
استطاع فيلم “حياة الآخرين” أن يحصد جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي للمرة الثالثة في تاريخ ألمانيا.
يعدّ فيلم “حياة الآخرين” لمخرجه فلوريان هينكل، الذي تمّ إنتاجه عام 2006، الفيلم الأشهر في تناول ألمانيا الشرقية، والفيلم الذي جذبَ صنّاع السينما إلى تلك القضية ومناقشتها، حتى تمّت مناقشتها في هوليوود ذاتها في فيلم “ممرّ من الجواسيس” لتوم هانكس.
استطاع فيلم “حياة الآخرين” أن يحصد جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي للمرة الثالثة في تاريخ ألمانيا، وذلك بسبب جودته المثالية على مستوى القصة والتمثيل والإخراج.
لا يهتم الفيلم كثيرًا بعرض الأحداث السياسية وتطوراتها داخل ألمانيا الشرقية، ولكنه يتناول حياة الظابط غيرد فيسلر، الذي تعدّ مهمته كظابط استخبارات في الجهاز الشتازي الدموي الشهير في ألمانيا الشرقية، مندمجًا في حياة الآخرين، بل إن حياة الآخرين هي حياته.
ويعرض الفيلم الصراع النفسي الذي يمرُّ به رجل بيروقراطي مجرد ترس في منظومة مثل غيرد فيسلر، حيث تعتبَر قضية الممثلة كريستا ماريا وزوجها الكاتب جورج دريمان نقطة تحول في حياته بينما يراقبهما، فقد تطورت بينه وبين كريستا ماريا علاقة حب من طرفه فقط، حتى أن كريستا لا تلتقي به إلا في مشهدَين طيلة الفيلم.
ومن خلال تجسيد الممثل أولريش موه الرائع لهذا الدور، الذي يجسِّد تفاهة الشر ونسبيته في شخصية غيرد فيسلر، استطاع أن يقود الفيلم بكل سهولة إلى منصات التتويج بالأوسكار.
تطبيع الموضوع السينمائي
تعد الأفلام الثلاثة السابقة التي عرضناها من أهم الأفلام التي أسّست وطبعت تناول موضوع ألمانيا الشرقية في السينما الألمانية، ومن بعدها ظهرت العديد من الأفلام والمسلسلات الألمانية تناقش تلك الحقبة، بل الأفلام الأميركية أيضًا، وكان من أبرز تلك الأفلام هو فيلم “باربارا” الذي أنتج عام 2012.
تدور أحداث الفيلم داخل ألمانيا الشرقية قبل عقد من سقوط الجدار، ويعبّر الفيلم عن نمط حياة ساد في السنوات الأخيرة قبل السقوط، من استمرارية عين الحكومة الاستبدادية التي تراقب كل شيء، والجو الاضطهادي الذي شكّلت به مناخ الحياة في ألمانيا الشرقية، إلى جانب مشاكل اقتصادية كندرة السلع، وإصابة ما يُسمّى بالدولة العمالية بالشلل.
وما نتج عن ذلك من تحول المُثُل الاشتراكية، التي تأسّست عليها الدولة، إلى جنون العظمة المنتشر في كل مكان، حيث قد يصبح جارك أو زميلك في العمل مخبرًا، والخوف ليس من أن يقوم الشتازي باعتقالك، ولكنهم قد يستخدمون معلوماتهم عنك لتدمير حياتك الشخصية والمهنية.
يعدّ الأذكياء في عالم فيلم “باربارا” هم أولئك الذين احتفظوا بنسختَين من أنفسهم، نسخة معروضة للعالم والمجتمع، ونسخة مستِترة تترقّب ساعة الحرية للإفصاح عن ذاتها المكبوتة، فيمتلئ الفيلم بالكثير من الشخصيات المعقّدة في ظروف اجتماعية وسياسية راسخة.
بينما يهرب بعض الطلاب إلى ألمانيا الغربية لاستكمال تعليمهم، بعد طردهم كعقاب لما فعلوه من الصمت كفعل ثوري، يستمرُّ الآخر في الدراسة داخل ألمانيا الشرقية وتحدّي نظامها وتحدّي أساتذته.
ولا يتغافل الفيلم عن التفاعُل مع ألمانيا الغربية، فهو يقوم بانتقاد الألمان الغربيين الذين سارعوا إلى استغلال جيرانهم، واستغلال رجال ألمانيا الغربية لنساء ألمانيا الشرقية جنسيًّا، ما يترك أي شخص عالقًا بين هذين العالمَين، ويقوم الفيلم بالتساؤل عن ماهية الحدود، ويستكشف الميلودراما البشرية في ظل سياقات مشحونة سياسيًّا.
وآخر إنتاجات السينما الألمانية عن موضوع ألمانيا الشرقية يتمثل في فيلم “الثورة الصامتة”، الذي تمّ إنتاجه عام 2018، ويناقش الموضوع هذه المرة قضية جديدة في مجتمع ألمانيا الشرقية، وهي قضية الحراك الطلابي، حين يسمع بعض الطلاب عن سحق الدبابات السوفيتية للمتظاهرين في المجر عام 1956، يقررون أن يحتجّوا على هذا بطريقتهم من خلال الصمت لدقيقتَين، الأمر الذي يمثِّل للحكومة تحديًا لهيكل المجتمع.
وبينما يهرب بعض الطلاب إلى ألمانيا الغربية لاستكمال تعليمهم، بعد طردهم كعقاب لما فعلوه من الصمت كفعل ثوري، يستمرُّ الآخر في الدراسة داخل ألمانيا الشرقية، وتحدّي نظامها وتحدّي أساتذته، والفيلم قائم على قصة حقيقية.