تصادف هذه الأيام في غزة موسم الفلفل الأحمر “التشيلي”، الطبق الحاضر في غالبية موائد الغزّيين المشهورين بحبهم للطعام الحار، حيث يفضّلون إضافة الفلفل إلى الأطعمة المختلفة، سواء كأحد مكوِّنات الوجبة، أو كطبقٍ إضافي يضفي لسعةً يفضّلونها على الأطباق. ويعتبَر موسم الفلفل فرصة لغالبية العائلات لتخزينه، من خلال الطحن ومن ثم إضافة الملح عليه ليبقى صالحًا طيلة العام.
حبٌّ قديم
حتى وقت قريب كانت هناك نكتة شعبية معروفة انتشرت بعد توقيع اتفاقية أوسلو، وبدء المرحلة الأولى المعروفة باتِّفاق غزة-أريحا عام 1994، تقول إن شعار السلطة الفلسطينية سيتكوّن من قرنَي فلفل وموزة، في إشارة إلى موز أريحا وفلفل غزة.
وعن سر حب الغزّي للفلفل، وإذا ما كان ذلك تاريخيًّا، تواصلت “نون بوست” مع المؤرِّخ الفلسطيني سليم المبيض، الذي قال إن الفلسطيني يحب الفلفل منذ أن بدأ بمعرفة النبتة، مشيرًا المؤرِّخ السبعيني إلى أنه ومنذ الصغر، يشاهد الناس تترك الفلفل الأخضر إلى أن يصبح أحمر، ومن ثم تطحنه في طقوس استمرت حتى يومنا هذا.
ويتوقع المبيض أن الفلفل هو من جعل طبع الغزّي حادًّا كردّ فعل وتأثير للفلفل الحار، ويستذكر أن هناك أناسًا من شدة حبها للفلفل كانت تخوض تحديات قائمة على حكّ الوجه والعيون بقرون الفلفل.
الباحث والمختصّ في تاريخ المطبخ الفلسطيني الشيف سفيان مصطفى، المقيم في بريطانيا، يؤكّد على كلام المؤرِّخ المبيض بأن من يأكل الفلفل ويستمتع بالألم المسبِّب له، يجب أن يكون شخصًا عنيدًا وقويًّا لأن ألم اللسان من أقسى أنواع الألم. ووفق مصطفى، فإن الفلفل المعروف في فلسطين المحتلة هو الأسود الذي كان يُزرع فيها، أما فلفل الشطّة (التشيلي) فهو حديثٌ على العالم كله.
وتشير دراسات تاريخية إلى أن النبتة وصلت لفلسطين المحتلة، وغزة على وجه التحديد، عن طريق القوافل التجارية القادمة من الهند، كون البلد منطقة تجارية وطريقاً للقوافل العالمية، حيث تبين أن طريق التوابل كانت تبدأ من الهند، وكان التجّار يتداولون بها إلى أن تصل إلى الموانئ والمرافئ البحرية أو عبر الطرق البرّية، فيما كان التجّار العرب معروفين بهذه التجارة، وكان ميناء غزة يتّخذ مكانًا محوريًّا في طُرُق القوافل التجارية في العالم القديم.
سبب استخدامه
يذكر الباحث في الأطعمة سفيان مصطفى لـ”نون بوست” أن بعض النظريات التاريخية تقول إن الفقراء هم من يكثرون منها للتغطية على تغيُّر طعم اللحمة بسبب قدمها، مستدركًا أن فلسطين موطن حضارات وليست فقيرة، إلا أن بعض النظريات ترجِعُ أكل الطعام الحار للشعوب الفقيرة، لأن معه تفقد الحوائج طعمها نتيجة الألم، فيُغنيها عن اشتهاء اللحم مثلًا.
وبيّن أن فلسطين تتعامل مع الفلفل الأحمر بالطحن ومن ثم التمليح وبعدها يغمَر بزيت الزيتون، موضّحًا أن الطريقة ذاتها توجد عند الهنود مع إضافة بعض البهارات، لذا فإن فكرة الطحن متعارف عليها لدى الكثير من الشعوب بمسميات مختلفة.
حكاية الفلفل قديمة بدأت منذ “أن وعيت” على الدنيا، تقول الحاجة السبعينية أم أسامة ياسين، مشيرةً إلى أن عائلتها منذ القدم تتفنّن في صنع أصناف متعدِّدة من الفلفل مع حلول موسمه، فيكون مخلّلًا ومجفّفًا ومطحونًا.
تتابع أم أسامة لـ”نون بوست”: “في مثل هذه الأيام الحارة كانت أمي تنثر حباته في باحة منزلنا لتجفيفه، واستخدامه كحب كامل في الطعام”.
ووفق الحاجّة أم أسامة، فغالبية سكّان القطاع المحاصر يفضّلون الطعام حارًّا، ويحبون تناول الفلفل الأحمر، بجانب غالبية الأكلات، فإذا لم يدخل في مكونات الطبخة، فإنه يوضع طبقًا ثانويًّا بجانبها.
أطباق لا تخلو من الفلفل
للفلفل 3 أنواع، هي: البلدي والسلطان والرومي، وتبلغ كمية استهلاك الفرد الواحد سنويًّا من الفلفل نحو 11.5 كيلوغرامًا، في حين يبلغ استهلاك القطاع 23 ألف طن سنويًّا، وفقًا لدائرة الخضار والزهور في وزارة الزراعة، ويبرز قطاع غزة كمنطقة تجيد زراعة الفلفل، وهو محصول أساسي لا ينقطع إنتاجه طوال العام.
وعلى الرغم من تعدُّد أنواع الفلفل، فإن الأحمر المخروطي الشكل، الذي يشتهر بطعمه الحار والحاد، هو أكثر الأصناف التي يغرَم بها الغزّيون. أما عن الفوائد الصحية للفلفل الأحمر، فتشير العديد من الدراسات إلى احتواء الفلفل على نسبة كبيرة من فيتامين سي والمعادن والألياف، وهو من الأغذية الضرورية لمرضى القلب ولتنشيط الدورة الدموية.
وأفادت وزارة الاقتصاد الوطني في قطاع غزة المحاصر، أن ما استُورد واستُهلك عام 2020 من فلفل الشطّة في القطاع، بلغ 33 طنًّا.
ويقبِلُ الغزّيون على زراعة الفلفل بأنواع متعددة من ناحية الحجم والشكل واللون والطعم، وكذلك درجة حرقته، بالإضافة إلى تصنيعه بأشكال مختلفة كالفلفل المهروس (الأحمر)، أو المخلَّل، أو الأسود المطحون، ويدخل الفلفل في الكثير من الأطباق سواء كان أحمر أم أخضر أم معمولًا كشطّة.
من هذه الأطباق: المفتول، والسلطة الغزّية المكوَّنة من البصل والبندورة وكثير من الفلفل وزيت الزيتون، كذلك السمّاقية التي هي أكلة غزّية شهيرة تعدّ في الأفراح والمناسبات، وقلاية البندورة المكوَّنة مع حبات معدودة من الطماطم المقلي مع كمية كبيرة من الفلفل الأخضر الحار.
حبُّ الغزّيين للفلفل دفعَ المزارعين للإقبال على زراعته، كونه نبتة سهلة ولا تحتاج إلى الكثير من الرعاية.
ويبقى الفلفل مهمًّا بالنسبة إلى سكّان غزة كأهمية الزيت والزعتر، فإن لم يحضر الأحمر نجد الأخضر موجودًا مع الطبخات المأكولة بالخبز كالبامية والملوخية، وكذلك التتبيلات في أطباق الفول والحمص.