تتجه العلاقات الجزائرية المغربية يومًا بعد آخر إلى مزيد من التصعيد، خاصة بعد دخول الاحتلال الإسرائيلي كلاعب جديد في المنطقة المغاربية، وهو ما رأت فيه الجزائر تهديدًا لأمنها من طرف جارتها المغربية، التي قررت بشأنها إعادة النظر في علاقاتها معها خلال اجتماع المجلس الأعلى للأمن برئاسة الرئيس عبد المجيد تبون.
ورغم أن العلاقات بين البلدَين كانت على الدوام تعرِفُ تقلُّبات وتوترات لا تنتهي، إلا أنها لم تصلْ إلى درجة أن تقرِّر الجزائر إعادة النظر فيها، وهي التي كانت تحاول في كل مرة عدم الردّ على الدعاية المغربية، فما الذي تغيّر حتى أقدمت الجزائر على قرار كهذا؟
إعادة نظر
أعلنت الرئاسة الجزائرية أن الرئيس عبد المجيد تبون، باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، ووزير الدفاع الوطني، قد ترأّس الأربعاء اجتماعًا استثنائيًّا للمجلس الأعلى للأمن، والذي كانت من بين محاوره “الأعمال العدائية المتواصلة من طرف المغرب وحليفه الكيان الصهيوني ضدّ الجزائر”.
ومن العادة ألّا تذكُر السلطات الجزائرية الاحتلال الإسرائيلي بالاسم، بل تشير إليه بمصطلحات دالة عليه، لكن هذه المرة تمّت تسميته مباشرة في بيان رسمي.
ودرس المجلس الأعلى للأمن الذي يجتمع دوريًّا الأربعاء، لكنه حمل هذه المرة صفة الاستثنائية، “تقييم الوضع العام للبلاد عقب الأحداث الأليمة الأخيرة”، والمتمثلة في قتل الشاب جمال بن إسماعيل بولاية تيزي وزو من قبل عناصر ينتمون إلى حركة الماك، التي تصنِّفها السلطات جماعة إرهابية.
وحسب بيان الرئاسة، فإن التحقيقات “أثبتت ضلوع الحركتَين الإرهابيتَين الماك ورشاد في إشعال الحرائق التي عرفتها البلاد، وكذا تورُّطهما في اغتيال المرحوم جمال بن إسماعيل”.
وأودت الحرائق التي شهدتها الجزائر خلال الأسبوعيَن الماضيَّين، إلى وفاة 69 شخصًا من بينهم 28 عسكريًّا، إضافة إلى خسائر مادية وغابية كبيرة.
وقرر المجلس الأعلى للأمن، وهو أكبر سلطة أمنية في البلاد، “تكثيف المصالح الأمنية لجهودها، من أجل إلقاء القبض على باقي المتورِّطين في الجريمتَين، وكل المنتمين للحركتَين الإرهابيتَين، اللتين تهددان الأمن العام والوحدة الوطنية، إلى غاية استئصالهما جذريًّا، لا سيما الماك التي تتلقّى الدعم والمساعدة من أطراف أجنبية، خاصة المغرب والكيان الصهيوني، حيث تطلبت الأفعال العدائية المتكررة من طرف المغرب ضدّ الجزائر، إعادة النظر في العلاقات بين البلدَين وتكثيف المراقبة الأمنية على الحدود الغربية“.
وتتهم الجزائر المغرب بدعم حركة استقلال منطقة القبائل “الماك”، التي يقيمُ رئيسها فرحات مهني بفرنسا، وله علاقات مع قيادات في “إسرائيل” والمغرب لالتآمر على الجزائر.
تقول السلطات الجزائرية إن فتح الحدود ممكن، لكن بمعالجة أسباب الإغلاق المتمثلة في الاعتذار عمّا بدر تجاه الجزائر ومواطنيها، الذين رحِّلوا وقتها فورًا بطريقة غير إنسانية.
ويُفهم من قرار تكثيف المراقبة الأمنية على الحدود مع المغرب، أن الجزائر تتوقع إما هروبًا لعناصر الماك نحو الرباط، أو تلقّي هذه العناصر دعمًا خلال هذه الفترة قادمًا من حدودها الغربية، لأنه منذ أغلقت الحدود بين البلدَين، لم تتخذ السلطات الجزائرية قرارًا مثل هذا.
وأغلقت الجزائر حدودها الممتدة لمسافة 1559 كيلومترًا مع المغرب من البحر المتوسط إلى الصحراء الغربية عام 1994، عندما اتّخذت الرباط قرارًا فجائيًّا بفرض تأشيرات دخول على الجزائريين، في أعقاب هجوم مسلَّح في مدينة مراكش المغربية، قالت فيه الرباط إن منفّذيه قدموا من الجزائر، فكان الردّ الجزائري بإغلاق الحدود حتى اليوم، رغم دعوة نظام الملك محمد السادس مرات لإعادة فتحها.
وتقول السلطات الجزائرية إن فتح الحدود ممكن، لكن بمعالجة أسباب الغلق المتمثلة في الاعتذار عمّا بدر تجاه الجزائر ومواطنيها، الذين رحّلوا وقتها فورًا بطريقة غير إنسانية من المغرب، باعتبارهم لم يكونوا يحوزون على تأشيرات.
توتُّر متوالٍ
لا أحد كان ينتظر أن تذهب السلطات الجزائرية في ردّها إلى قرار إعادة النظر في علاقاتها مع المغرب، والتي لم يحدِّد بيان الرئاسة كيفيتها التنفيذية، إلا أن الأحداث المتوالية كانت تُظهِر أن العلاقات بين البلدَين المغاربيَّين تمرُّ بأصعب مراحلها، خاصة بعد أن استدعت الجزائر في 18 يوليو/ تموز الماضي سفيرها بالرباط للتشاور.
وجاء هذا الاستدعاء على خلفية عدم تلقّيها توضيحات من الرباط، بشأن ما قام به السفير المغربي في نيويورك، عمر هلال، الذي وزّع خلال اجتماع حركة عدم الانحياز الذي عُقد يومَي 13 و14 يوليو/ تموز، مذكرةً حول ما وصفه بـ”حق تقرير المصير لشعب القبائل” في الجزائر، معلنًا لأول مرة دعم الرباط لحركة الماك المصنَّفة في الجزائر منظمة إرهابية.
وقالت الخارجية الجزائرية وقتها: “لقد أشار البيان الصادر عن وزارة الشؤون الخارجية يوم 16 يوليو/ تموز 2021، إلى ضرورة توضيح المملكة المغربية لموقفها النهائي من الوضع البالغ الخطورة الناجم عن التصريحات المرفوضة لسفيرها بنيويورك”.
وأضاف البيان: “نظرًا لغياب أي صدى إيجابي ومناسب من قبل الجانب المغربي، فقد تقرّرَ استدعاء سفير الجزائر بالرباط فورًا للتشاور. كما لا يُستبعد اتخاذ إجراءات أخرى، حسب التطور الذي تشهده القضية”.
ويتأكد اليوم أن الإجراءات الأخرى التي تحدّثت عنها الخارجية الجزائرية، كانت تعني اتخاذ قرار إعادة النظر في العلاقات مع الرباط.
وفي الفاتح من أغسطس/ آب الجاري، دعا العاهل المغربي محمد السادس في خطابه السنوي احتفالًا بذكرى جلوسه على العرش، الجزائر “لتفعيل الحوار من أجل تطوير العلاقات المشترَكة بين البلدَين، والعمل على فتح الحدود بينهما”.
وقال محمد السادس: “أدعو فخامة الرئيس الجزائري للعمل سوية، في أقرب وقت يراه مناسبًا، على تطوير العلاقات الأخوية التي بناها شعبانا عبر سنوات من الكفاح المشترَك”.
وأضاف محمد السادس أنه يؤكد “لأشقائنا في الجزائر بأن الشر والمشاكل لن تأتيكم أبدًا من المغرب، نعتبرُ أن أمن الجزائر واستقرارها وطمأنينة شعبها من أمن المغرب واستقراره”، داعيًا إلى ما وصفه بـ”تغليب منطق الحكمة والمصالح العليا، من أجل تجاوز هذا الوضع المؤسف، الذي يضيّع طاقات بلدينا”.
أعلنت الرباط استعدادها لتقديم المساعدة للجزائر في إخماد هذه الحرائق بإرسال طائرات إطفاء، إلا أن السلطات الجزائرية لم تبدِ اهتمامًا بالعرض المغربي.
غير أن خطاب الملك المغربي لم يتطرّق مطلقًا لما قام به سفيره بالرباط بإعلانه دعم حركة الماك الإرهابية، ولم يردَّ على الاستفسارات الجزائرية، ما زاد من غضب جارته الشرقية التي اعتبرت خطابه لم يقدِّم أي جديد.
وجاء أول رد جزائري على دعوة محمد السادس من قبل الرئيس تبون في لقاء تلفزيوني، قال فيه إن بلاده لم تتلقَّ استجابة من المغرب بخصوص التوضيحات التي طلبتها من الرباط حول ما قام به السفير المغربي في الأمم المتحدة، مبيّنًا أن المشكل الحالي هو الأهم، لأن السفير المغربي أدلى بتصريحات خطيرة جدًّا جعلت الجزائر تسحب سفيرها من الرباط.
وبعد يوم من ردّ الرئيس الجزائري على دعوة محمد السادس، اندلعت في الجزائر عشرات الحرائق بالجزائر في أكثر من 15 ولاية في وقت متزامن، والتي بيّنت التحقيقات الأمنية أن حركة الماك المدعومة من المغرب كانت وراء إشعالها.
وأعلنت الرباط استعدادها لتقديم المساعدة للجزائر في إخماد هذه الحرائق بإرسال طائرات إطفاء، إلا أن السلطات الجزائرية لم تبدِ اهتمامًا بالعرض المغربي، ما جعلها تكون محور حملة إعلامية متواصلة من قبل الإعلام المغربي.
لاعب جديد
رغم التوتر القائم بين البلدَين، والعائد لسنوات، والذي أحد أسبابه قضية الصحراء الغربية بسبب دعم الجزائر التي تعدّ ملاحظًا رفقة موريتانيا في هذا الملف لجبهة البوليساريو، ظلَّ التناوش بين البلدَين محصورًا بينهما.
فحتى القوى الدولية الكبرى، ومنها فرنسا، كانت دومًا تحاول أن تبقى على مسافة واحدة من الطرفَين رغم قربها من الرباط، وألّا تسمح بأن تميل الكفة لأي بلد، إلا أن ذلك تغيّرَ العام الماضي بدخول لاعب جديد تمثّل في الاحتلال الإسرائيلي، الذي لا تقيم الجزائر معه أي علاقات ولا تعترف به كدولة.
ففي 10 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أعلنَ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب اتفاق المغرب والاحتلال الإسرائيلي على تطبيع العلاقات، مقابل اعتراف واشنطن بسيادة الرباط على الصحراء الغربية المتنازَع عليها مع جبهة البوليساريو، والمدرَجة في الأمم المتحدة ضمن قضايا تصفية الاستعمار.
وبعد يومَين من هذا القرار، اعتبرت الجزائر على لسان وزيرها الأول السابق عبد العزيز جراد، أنها المستهدفة الأولى من التطبيع المغربي الصهيوني.
وقال جراد: “الجزائر مستهدَفة وأن هناك قضايا خطيرة في محيطنا الجهوي تريد ضرب استقرار المنطقة، وها هي الدلائل اليوم عندما نرى في كل الفضاء المغاربي والإفريقي الدائر حول الجزائر هناك مخاطر وعدم استقرار وحروبًا”. مبيّنًا أن “هناك إرادة أجنبية حقيقية اليوم لوصول الكيان الصهيوني قرب حدودنا، ويتعيّن على الطبقة السياسية والثقافية العمل على استقرار البلاد”.
وقبل ذلك، كان الرئيس تبون قد قال في سبتمبر/ أيلول 2020: “أنا أرى أن هناك نوعًا من الهرولة نحو التطبيع، ونحن لن نشارك فيها ولن نباركها، والقضية الفلسطينية تبقى مقدَّسة بالنسبة إلينا وإلى الشعب الجزائري برمّته”.
وضمن حملة التطبيع، أعلنت عدة دول عربية، هي الإمارات والبحرين والأردن، فتح سفارات لها في مدينة العيون التي تراها الجزائر مدينة تابعة للصحراء الغربية، ومحتلَّة من المغرب.
وللأسف أثبتت الأيام أن تطبيع الرباط مع تل أبيب يستهدف بالدرجة الأولى الجزائر، فقد كشفت التسريبات المتعلِّقة بمشروع “بيغاسوس” الصهيوني للتجسُّس، أن المغرب من الدول التي اقتنته، وتجسّست بفضله على مواطنين جزائريين باختراق هواتفهم، من بينهم رئيس أركان الجيش الفريق السعيد شنقريحة، و3 وزراء خارجية هم الوزير الحالي رمضان العمامرة وسلفه صبري بوقدوم، ووزير الخارجية الأسبق عبد القادر مساهل.
ونفت الرباط هذه المعلومات التي كشفتها منظمات ومؤسسات عالمية ذات مصداقية، إلا أن الصحفي المغربي علي المرابط أكّد ذلك، وبيّن في مقال نشره في موقع “ميدل إيست آي” أن أجهزة المخابرات المغربية لم تتصرّف دون موافقة القصر الملكي في قضية “بيغاسوس” الغامضة.
تقود الجزائر عملًا دبلوماسيًّا لطرد “إسرائيل” من الاتحاد الإفريقي، بعد أن قُبلت كمراقب في التكتل القارّي.
وحسب علي المرابط، فإنه “يستحيل” أن يقرّر رئيس المديرية العامة للأمن القومي المغربي عبد اللطيف حموشي بمفرده، التنصُّت على فيلق من الشخصيات من جميع المشارب والجنسيات، باستخدام برنامج التجسُّس “بيغاسوس” الذي صنعته الشركة الصهيونية NSO.
وفتحت الجزائر عبر نيابة محكمة سيدي أمحمد بالعاصمة، تحقيقًا ابتدائيًّا حول عمليات تجسُّس تعرضت لها الجزائر باستخدام برنامج “بيغاسوس”.
وقالت وزارة الخارجية إن الجزائر تُبدي “القلق العميق بعد الكشف (..) عن قيام سلطات بعض الدول، وعلى وجه الخصوص المملكة المغربية، باستخدام واسع النطاق لبرنامج التجسُّس المسمّى “بيغاسوس” ضد مسؤولين ومواطنين جزائريين”.
ولم تتوقف الاستعانة المغربية بـ”إسرائيل” لمهاجمة الجزائر بالتجسُّس فقط، إنما لأول مرة سمحت بأن تكون أراضيها منبرًا لاتهامات صهيونية تستهدف الجزائر.
فبينما كانت الرباط تعرض على جارتها الشرقية مساعدتها في إخماد الحرائق، كانت تستقبل وزير خارجية الكيان الصهيوني يائير لابيد، الذي قال: “نحن نتشارك مع المغرب بعض القلق بشأن دور دولة الجزائر في المنطقة، التي باتت أكثر قربًا من إيران، وهي تقوم حاليًّا بشن حملة ضد قبول “إسرائيل” في الاتحاد الإفريقي بصفة مراقب”. وتقود الجزائر عملًا دبلوماسيًّا لطرد “إسرائيل” من الاتحاد الإفريقي، بعد أن قُبلت كمراقب في التكتل القارّي.
واعتبرت الجزائر أن تصريحات لابيد “تمّت بتوجيه ناصر بوريطة، بصفته وزيرًا لخارجية المملكة المغربية”، مبيّنة أن هذه الخرجة تعكس “الرغبة المكتومة لدى هذا الأخير (بوريطة) في جرّ حليفه الشرق أوسطي الجديد في مغامرة خطيرة موجَّهة ضد الجزائر وقِيَمها ومواقفها المبدئية”.
وتستهجنُ الجزائر، التي ترفع شعار “مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”، أي تعاون مع الاحتلال الإسرائيلي، وتتعامل بحساسية كبيرة مع أي بلد يقيم علاقات مع تل أبيب. وفي انتظار اتّضاح الشكل الذي ستتّخذه الجزائر بشأن إعادة النظر في علاقاتها مع الرباط، والذي سيتم الإعلان عنه قريبًا، ينتظَر أن يكون للتعاون الاقتصادي بين البلدَين حيّزًا كبيرًا منه. وبدايته ستكون عدم توقيع الجزائر في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل مجددًا على اتفاق أنبوب الغاز الجزائري المارّ من المغرب نحو إسبانيا، والتي تستفيد الرباط بموجبه من ملايين الدولارات، إضافة إلى أن الصراع بين البلدَين في الهيئات القارّية والإقليمية والدولية قد يشهد تصاعدًا غير مسبوق، في حال لم تبدِ المغرب تجاوبًا مع التحفظات الجزائرية.