لا تزال حالة الارتباك والصدمة، جراء سيطرة حركة طالبان على المشهد السياسي في أفغانستان بتلك الكيفية المثيرة للجدل، تخيم على أجواء المجتمع الدولي الذي يعاني من انقسامات حادة وتباين في المواقف والتوجهات حيال ما يحدث منذ 15 من أغسطس/آب الماضي وحتى اليوم.
الحركة التي عادت للسلطة بعد عشرين عامًا من الإقصاء تحولت إلى وجبة دائمة الحضور على موائد التناول الإعلامي والسياسي في أرجاء العالم كافة، شرقًا وغربًا، لما تعكسه تلك العودة من دلالات مهمة وتبعث به من رسائل مؤثرة سيكون لها ارتداداتها القوية على الخريطة الدولية ككل وليس آسيا فقط كما يظن البعض.
منذ بدأت طالبان معركة استرداد السلطة في مايو/آيار الماضي، عقب إعلان انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان، وتخوض الحركة العديد من المعارك الجانبية الأخرى، سياسيًا وأمنيًا واجتماعيًا، في طريق إحكام قبضتها على منافذ الحكم بشتى أنواعه، بعضها على المستوى الداخلي والآخر خارجيًا.
ومن أبرز المعارك الفاصلة في مسيرة استعادة الحكم مرة أخرى للحركة الأفغانية معركة الاعتراف الدولي، التي ربما تكون التحدي الأكثر شراسة بعد معركة طمأنة الداخل – التي استطاعت فيه بث رسائل طمأنة نسبيًا وفق عدد من المؤشرات الأولية – فهل تنجح الحركة في كسب تلك المعركة؟
تحذيرات من العزلة
الصورة الذهنية للحركة الطالبانية والمتأصلة في الذاكرة المحلية والدولية منذ ولايتها الأولى عام 1996 تقف حجر عثرة أمام أي محاولات لنزع الاعتراف الدولي بها، ورغم الجهود المبذولة لطمأنة الجميع عبر تصريحات دبلوماسية ورسائل أولية، فإن السمعة السيئة لا تزال تطارد طالبان بصورة لافتة.
مع الأيام الأولى لإحكام الحركة سيطرتها على العديد من الأراضي الأفغانية، قبيل دخول العاصمة كابل، وتحديدًا يوم 12 من أغسطس/آب الحاليّ، حذر الاتحاد الأوروبي طالبان من أنها ستواجه عزلة دولية إذا استولت على السلطة من خلال العنف.
وفي بيان له قال منسق السياسة الخارجية في الاتحاد، جوزيب بوريل “إذا تم الاستيلاء على السلطة بالقوة وإعادة تأسيس إمارة إسلامية، فإن طالبان ستواجه عدم الاعتراف والعزلة ونقص الدعم الدولي واحتمال استمرار النزاع وعدم الاستقرار الذي طال أمده في أفغانستان”.
البيان أشار إلى اعتزام “الاتحاد الأوروبي مواصلة شراكته ودعمه للشعب الأفغاني، لكن الدعم سيكون مشروطًا بتسوية سلمية وشاملة، واحترام الحقوق الأساسية لجميع الأفغان، بمن فيهم النساء والشباب والأقليات”، مشددًا على أنه “من الضروري الحفاظ على المكاسب الكبيرة التي حققتها النساء والفتيات خلال العقدين الماضيين بما فيها الوصول إلى التعليم”، داعيًا إلى “الوقف الفوري للعنف الدائر واستئناف محادثات السلام مع الحكومة في كابل”.
انتقلت الدول الغربية من خطاب التحذير من العزلة حال لجوء طالبان للعنف خلال معاركها الأولى نحو السيطرة ميدانيًا، إلى خطاب الاعتراف المشروط بعد أن أحكمت قبضتها على كابل
وبعد دخول العاصمة بيوم واحد فقط وصف وزير الدفاع البريطاني بين والايس، ما حدث بأنه “فشل للمجتمع الدولي الذي لم يفهم أن الأمور لا تُحلّ في ليلة وضحاها”، مؤكدًا في الوقت ذاته أن الالتزام البريطاني في أفغانستان الذي كلّف 457 جنديًا بريطانيًا حياتهم خلال 20 عامًا من التدخل “لم يذهب سدى”.
الوزير البريطاني لفت إلى أن الوقت الآن ليس الوقت المناسب للاعتراف بالحركة كحكومة أفغانية رسمية، لافتًا إلى أن هناك الكثير من الأمور التي يجب القيام بها قبل اتخاذ هذه القرارات، وهو الرأي ذاته الذي أكده رئيس الحكومة بوريس جونسون، الذي حذر الدول الغربية من الاعتراف بطالبان قبل الوصول إلى اتفاق مسبق، مضيفًا في تصريحات له “من الأهمية بمكان أن تعمل الدول الغربية معًا لتوضيح من يقود أفغانستان، سواء طالبان أم أي شخص آخر، إنها لا يمكن أن تصبح أرضًا خصبةً للإرهاب” .
يذكر أن بريطانيا تأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث القوى الأجنبية التي تكبدت أكبر الخسائر البشرية والمادية جراء المشاركة في الحرب الأفغانية طيلة السنوات الـ20 الماضية، فقد أنفقت قرابة 31 مليار دولار منذ المشاركة في تلك الحرب بما يعادل 1.6 مليار دولار عن كل سنة، وفق الخطاب المقدم من وزارة الدفاع للبرلمان البريطاني.
شروط مسبقة للاعتراف
انتقلت الدول الغربية من خطاب التحذير من العزلة حال لجوء طالبان للعنف في أثناء سيطرتها على الوضع في أفغانستان، إلى خطاب الاعتراف المشروط، إذ وضعت عددًا من الشروط المسبقة التي يجب على الحركة الالتزام بها كبادرة حسن نوايا قبيل الحصول على الاعتراف، وذلك بعد أن أحكمت الحركة قبضتها الكاملة على المشهد.
وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، خلال مقابلة مع شبكة “بي إف إم تي في” الإخبارية الفرنسية، أمس الأربعاء 18/8/2021، استعرض 5 شروط أولية على الحركة أن تتقيد بها حتى يحظى نظامها باعتراف المجتمع الدولي، مضيفًا “أعلم أن طالبان تبذل جهودًا كثيرةً في محاولة للحصول على اعتراف دولي، لكن لا يكفي إصدار تصريحات نقرأها هنا وهناك بشأن احترام حقوق المرأة، فالمطلوب هو أفعال”.
أول تلك الشروط “أن يسمح بخروج الأفغان الذين يريدون مغادرة هذا البلد لأنهم خائفون، ثم عليه أن يحول دون أن يصبح بلده ملاذًا للإرهاب. يجب عليه أن يثبت ذلك بشكل ملموس للغاية”، الثاني: “أن تسمح بوصول المساعدات الإنسانية إلى الأراضي الأفغانية،” فيما جاء الشرط الثالث متعلقًا باحترام كل الحقوق بصفة عامة، فيما خصص حقوق المرأة تحديدًا كشرط رابع، وتابع “إنهم يصرحون بذلك لكن يجب أن يفعلوه”.
أما الشرط الخامس والأخير الذي استعرضه الوزير الفرنسي للاعتراف بالحركة الأفغانية كسلطة جديدة للبلاد فكان ضرورة تشكيل حكومة انتقالية في أسرع وقت، مشيرًا أن عدم التقيد بتلك الشروط سيجعل من الاعتراف الدولي بطالبان أمرًا مستبعدًا.
الخطاب الأول للحركة الذي تلاه المتحدث باسمها أول أمس حاول قدر الإمكان التأكيد على وجود وجه جديد لطالبان، اختلافات جذرية في الفكر والأيديولوجيا
إرهاصات اعتراف أولي
في الوقت الذي عززت فيه الدول الغربية مخاوفها من صعود طالبان، أبدت دول الجوار لا سيما الرباعي: الصين وروسيا والهند وباكستان، استعدادها لفتح قنوات اتصال دبلوماسية مع الحركة، كخطوة أولى نحو الاعتراف الرسمي بها، خاصة أن العلاقة بين طالبان وتلك الدول شهدت انفراجات سياسية خلال الآونة الأخيرة، رغم توترها أحيانًا، وصلت إلى تصنيفها كـ”جماعة محظورة” من بعض العواصم.
الصين التي تتقاسم حدودًا مع أفغانستان تمتد على 76 كيلومترًا، أبدت وعلى لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية، هوا شونيينغ، أن بكين “تحترم حق الشعب الأفغاني في تقرير مصيره ومستقبله” كاشفة أن قادة طالبان “عبروا مرات عدة عن أملهم في تطوير علاقات طيبة مع الصين”.
المتحدثة باسم الخارجية الصينية أشارت إلى أن سفارة بلادها في كابل “تواصل العمل بشكل طبيعي” داعية السلطة الجديدة في البلاد، في إشارة إلى حركة طالبان، ضمان أمن وسلامة مواطنيها في البلاد، علمًا بأنها أجلت أكثر من 200 من رعاياها من أفغانستان مطلع يوليو/تموز الماضي.
كما أعربت عن تطلع بلادها “لوفاء طالبان بالتزاماتها بشأن ضمان انتقال سلس للوضع في أفغانستان، وكبح جميع أنواع الإرهاب والأعمال الإجرامية، وإبعاد الشعب الأفغاني عن الحروب، وإعادة بناء وطنه الجميل”، منوهة أن بكين حافظت على اتصالاتها مع الحركة على أساس الاحترام الكامل للسيادة الوطنية الأفغانية وإرادة جميع الفصائل في البلاد، وذلك في إطار ردها على تساؤل عما إذا كانت الصين على اتصال مع طالبان وتعترف بنظام الحركة.
وعلى الجانب الروسي، فقد شهدت الفترة الماضية تبادل زيارات مع قادة الحركة الأفغانية، والتوصل إلى تفاهمات بشأن السيطرة على الوضع أمنيًا، وتجنب توتير الأجواء بين البلدين، فيما أشار موفد الكرملين إلى أفغانستان زامير كابولوف أن بلاده ستقرر ما إذا كانت ستعترف بالسلطات الأفغانية الجديدة بناء على أفعالها، وتابع “سنراقب عن كثب إلى أي مدى سيكون نهجهم لإدارة البلد مسؤولًا(…) وستستخلص السلطات الروسية من ذلك الاستنتاجات اللازمة”، بحسب تصريحاته لإذاعة “صدى موسكو” المحلية.
الموقف لا يختلف كثيرًا على المسار الباكستاني والهندي والإيراني، فرغم التوترات التي شهدتها العلاقات بين الطرفين خلال الفترة الماضية، هناك تقاطعات مشتركة في تلك البقعة الساخنة، تفرض على الجميع التحرك وفق المصالح العليا للبلاد، في ضوء التحديات الراهنة، وهو ما تترجمه تصريحات مسؤولي تلك الدول والجهود الدبلوماسية المبذولة للتوصل إلى تفاهمات بشأن بعض المسائل الحساسة التي تثير المخاوف من استعادة طالبان للحكم مرة أخرى.
هل تنجح الحركة في كسب المعركة؟
رغم الجهود التي تبذلها الحركة لغسل سمعتها المشوهة قديمًا، فإنها ليست كافية لإقناع المجتمع الدولي بالاعتراف بها لا سيما في ظل حالة التهييج المستمر طيلة السنوات الماضية ضد كل ما هو إسلامي، حتى إن اختلفت التجارب والأفكار والمسميات.
الخطاب الأول للحركة الذي تلاه المتحدث باسمها أول أمس حاول قدر الإمكان التأكيد على وجود وجه جديد لطالبان، اختلافات جذرية في الفكر والأيديولوجيا ومن ثم تغير واضح في إستراتيجية الحكم وقواعد بناء السلطة الجديدة، الخطاب كشف استفادة طالبان 2021 من دروس ماضي طالبان 1996.
القراءة الأولية للتصريحات والممارسات الطالبانية بعد السيطرة على العاصمة كابل تشير إلى بعض التغيرات الجوهرية التي طرأت على خريطة أفكار الحركة، التي كانت بالأمس خطوطًا حمراء لا يمكن المساس بها، وهو ما يعكس – ظاهريًا على الأقل – رغبة كبيرة في تحسين الصورة القديمة.
الرسالة الأبرز تطرقت إلى انفتاح الحركة على دول الجوار والمجتمع الدولي، وطمأنة الآخر بعدم فتح البلاد أمام أي محاولات تخريبية من شأنها تهديد أمن واستقرار دول المنطقة، بل تجاوزت طالبان ذلك لتؤكد إنهاء نزعة الانتقام لديها من الأطراف التي حاربتها في السابق التي كانت داعمة للقوات الأمريكية في بلادها.
الكرة الآن باتت في ملعب طالبان، التي عليها أن تغسل سمعتها القديمة بإجراءات سريعة تجمل صورتها وتجبر المجتمع الدولي على الاعتراف بها
لكن في الوقت ذاته لم يكشف الخطاب قناعات الحركة وقوانينها الخاصة التي ستبنى عليها نظامها الجديد، مكتفيًا برسائل الطمأنة النظرية وأنها تطالب بالتعامل معها وفق معايير القوانين الدولية، وأن لها الحق في إقرار قوانينها التي تتوافق وخصوصيتها، والالتزام بعاداتها وتقاليدها مثل الدول الغربية والعربية، لكن دون تفاصيل تشرح هذا الإجمال الذي يفتح المجال أمام تأويلات عدة.
الكرة الآن باتت في ملعب طالبان، التي عليها أن تغسل سمعتها القديمة بإجراءات سريعة تجمل صورتها وتجبر المجتمع الدولي على الاعتراف بها، لا سيما أن هناك حالة قبول نسبي لتطورات الوضع الميداني في أفغانستان، وهو ما قد يعطي أريحية نسبية للتحرك دون أي مخاوف سريعة، خاصة أنها نجحت في تحييد دول الجوار، وهم التهديد الأبرز الذي كان يعول عليه المعارضون لاستعادة الحركة سلطتها مرة أخرى.
تحاول طالبان التقاط الأنفاس حاليًّا تمهيدًا للتفكير فيما هو قادم، وعليه التزمت التجميد المؤقت للعديد من المسائل، على رأسها إعلان الإماراة الإسلامية وتشكيل الحكومة وملامح النظام الجديد، لحين استجلاء الأوضاع وتقييم الخريطة الدولية، لكن الوقت ربما لن يكون في صالح الحركة حال فشلت في طمأنة الجميع بإجراءات عاجلة، تجنبًا للولوج في مستنقعات التوتر والعنف أحيانًا خاصة في ظل تربص البعض بما حققته من مكاسب حتى اليوم.
وفي الأخير يبقى السؤال: هل تستطيع طالبان تقديم تنازلات ما لكسب ثقة المجتمع الدولي رغم ما يمكن أن يترتب على ذلك من حدوث قلاقل داخل أركان الحركة لا سيما من تياراتها الأصولية؟ هل تستطيع تحقيق التوازن بين تلك المعادلتين بحيث تقنع الآخر مع الإبقاء على لحمتها الداخلية؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة التي بلا شك ستكون فترة تقييم حقيقي لقدرة طالبان الجدد على فرض أنفسهم كسلطة معترف بها.