وثقت صحيفة “واشنطن بوست” في سلسلة تقارير تتكون من 6 أجزاء بعنوان “الحرب مع الحقيقة“، وترجمها “نون بوست”، تمادي الإدارة الأمريكية وقياداتها العسكرية في قول الأكاذيب وتضليل الرأي العام طوال الحملة العسكرية التي استمرت 18 سنة في أفغانستان، وذلك عبر اختلاق الأدلة وتحريف الإحصائيات وقمع الانتقادات اللاذعة والشكوك حول الحرب، لجعل الولايات المتحدة تبدو وكأنها تكسب الحرب بينما لم يكن الأمر كذلك على أرض الواقع.
وتاليًا نص الجزء الأول من سلسلة “الحرب مع الحقيقة”
تكشف مجموعة الوثائق الحكومية السرية التي حصلت عليها صحيفة “واشنطن بوست” أن كبار المسؤولين الأمريكيين فشلوا في قول الحقيقة بشأن الحرب في أفغانستان طوال الحملة العسكرية التي استمرت 18 سنة، فقد قدموا تصريحات متفائلة كانوا يعرفون أنها كاذبة وأخفوا أدلة واضحة حول استحالة الفوز في الحرب.
تعود هذه الوثائق إلى مشروع فيدرالي يفحص الإخفاقات الجذرية لأطول نزاع مسلح في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. وهي تتكون أكثر من ألفي صفحة من ملاحظات لم تُنشر من قبل لمقابلات مع أشخاص لعبوا دورًا مباشرا في الحرب، بدءًا من الجنرالات والدبلوماسيين وصولا إلى عمال الإغاثة والمسؤولين الأفغان.
حاولت الحكومة الأمريكية إخفاء هويات الغالبية العظمى من الأشخاص الذين أجرت معهم مقابلات من أجل المشروع، وتكتمت على جميع ملاحظاتهم تقريبًا. وقد مُنحت صحيفة “واشنطن بوست” حق نشر هذه الوثائق بموجب قانون حرية المعلومات بعد معركة قانونية استمرت ثلاث سنوات.
خلال المقابلات، انتقد أكثر من 400 شخص من المطلعين على الموضوع بشكل لاذع ما حدث في أفغانستان وكيف غرقت الولايات المتحدة في ما يقرب من عقدين من الحرب. وفي ظل غياب الحديث العلني عنها، كشفت المقابلات عن الشكاوى المكبوتة والإحباطات والاعترافات إلى جانب التشكيك والخيانة والغدر.
في المقابلات التي أجرتها الحكومة في سنة 2015، قال اللفتنانت جنرال دوغلاس لوت، الذي خدم كقيصر الحرب الأفغانية في البيت الأبيض في عهد بوش وأوباما: “لم يكن لدينا فهم أساسي لأفغانستان – لم نكن نعرف ما الذي كنا نفعله؟ وما الذي نحاول أن نفعله هنا؟ لم يكن لدينا أدنى فكرة عما كنا نقوم به“. وأضاف لوت، محملا الانهيار البيروقراطي بين الكونغرس والبنتاغون ووزارة الخارجية مسؤولية وفاة الجنود الأمريكيين: “لو أدرك الشعب الأمريكي حجم هذا العجز… لقد قُتل حوالي 2400 شخص. من سيقول إن هذا كان عبثًا؟”.
منذ سنة 2001، نُشر أكثر من 775 ألف جندي أمريكي في أفغانستان، خدم العديد منهم في هذه المنطقة عدة مرات. ووفقا للأرقام الصادرة عن وزارة الدفاع، توفي حوالي 2300 جندي هناك بينما أصيب 20.589 أثناء المعارك.
لم تجرِ الحكومة الأمريكية مراجعة شاملة لما أنفقته من أموال على الحرب في أفغانستان، ولكن التكاليف كانت مهولة
تُبرز المقابلات من خلال مجموعة واسعة من الأصوات الإخفاقات الأساسية للحرب التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا، وتؤكد كيف أن ثلاثة رؤساء – جورج دبليو بوش وباراك أوباما ودونالد ترامب – وقادتهم العسكريين لم يتمكنوا من الوفاء بوعودهم بالفوز بالحرب في أفغانستان.
في التصريحات التي أدلى بها معظمهم على افتراض أن ملاحظاتهم لن تُنشر للعلن، أقرّ المسؤولون الأمريكيون بأن استراتيجياتهم القتالية كانت معيبة بشكل قاتل وأن واشنطن أهدرت أموالا طائلة في محاولة جعل أفغانستان دولة حديثة. تسلط المقابلات الضوء أيضًا على المحاولات الفاشلة للحكومة الأمريكية الحد من الفساد المتفشي في هياكل الدولة، وتكوين جيش أفغاني وجهاز شرطة مختص، ووضع حد لتجارة الأفيون المزدهرة في أفغانستان.
لم تجرِ الحكومة الأمريكية مراجعة شاملة لما أنفقته من أموال على الحرب في أفغانستان، ولكن التكاليف كانت مهولة. منذ سنة 2001، أنفقت وزارة الدفاع ووزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أو خصصت ما بين 934 و978 مليار دولار، وذلك وفقا لتقديرات أخذت بعين الاعتبار معدل التضخم قدمتها نيتا كروفورد، أستاذة العلوم السياسية والمديرة المشاركة لـ “مشروع تكاليف الحرب” في جامعة براون. ولا تشمل هذه الأرقام الأموال التي أنفقتها وكالات أخرى، مثل وكالة المخابرات المركزية ووزارة شؤون المحاربين القدامى، المسؤولة عن الرعاية الطبية لقدماء المحاربين الجرحى.
أفاد جيفري إيغرز، وهو موظف متقاعد في قوة العمليات الخاصة في البحرية الأمريكية وأحد موظفي البيت الأبيض في عهدي بوش وأوباما، في المقابلات الحكومية: “ما الذي حصلنا عليه مقابل هذا الدعم البالغ قيمته تريليون دولار؟ هل كان ذلك يستحق إنفاق تريليون دولار؟”، مضيفًا “بعد مقتل أسامة بن لادن، قلت إن أسامة ربما ربما كان يضحك ساخرا على ما أنفقناه على أفغانستان“.
ما ورد في هذه الوثائق يتناقض مع مجموعة واسعة من التصريحات العلنية الصادرة عن رؤساء الولايات المتحدة والقادة العسكريين والدبلوماسيين الذين أكدوا للأمريكيين سنة تلو الأخرى أنهم يحرزون تقدما في أفغانستان وأن الحرب تستحق القتال.
تحدث الكثيرون ممن أُجريت معهم مقابلات عن الجهود الصريحة والمتواصلة التي تبذلها الحكومة الأمريكية لتضليل الجمهور عمدًا. وقالوا إنه من الشائع في المقرات العسكرية في كابول – وفي البيت الأبيض – تحريف الإحصائيات لجعل الولايات المتحدة تبدو وكأنها تكسب الحرب بينما لم يكن الأمر كذلك على أرض الواقع.
حسب ما صرح به في المقابلات الحكومية، أشار الكولونيل بالجيش بوب كراولي، الذي عمل مستشارا رفيع المستوى لمكافحة التمرد ما سنتي 2013 و2014، إلى أنه “تم تغيير كل نقطة بيانات لتقديم أفضل صورة ممكنة. فعلى سبيل المثال، كانت الدراسات الاستقصائية غير موثوقة بالكامل ولكنها عززت فكرة أن كل ما نقوم به كان صحيحا وأصبحنا مجرد نظام لا يعمل سوى على ضمان استمراريته“.
اعترف رئيس الوكالة الفيدرالية التي أجرت المقابلات، جون سوبكو، لصحيفة “واشنطن بوست” بأن الوثائق تُظهر أن “الشعب الأمريكي كان مخدوعا على الدوام”. وتعتبر المقابلات نتيجة ثانوية لمشروع تقوده وكالة سوبكو، وهو مكتب المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان. وقد أنشأ الكونغرس هذه الهيئة المعروفة باسم “سيغار” في سنة 2008 للتحقيق في الخسائر وعمليات الاحتيال في منطقة الحرب.
في سنة 2014، وبتوجيه من سوبكو، انحرفت هيئة “سيغار” عن مهمتها الأساسية المتمثلة في إجراء عمليات تدقيق وأطلقت مشروعًا جانبيًا تحت اسم “الدروس المستفادة” تبلغ تكلفته 11 مليون دولار، كان هدفه تشخيص إخفاقات السياسة في أفغانستان حتى لا تكرر الولايات المتحدة الأخطاء نفسها في المرة القادمة التي تغزو فيها بلدا أو تحاول إعادة بناء دولة ممزقة.
أجرى فريق مشروع “الدروس المستفادة” مقابلات مع أكثر من 600 مسؤول يتمتعون بتجربة مباشرة في الحرب. كان معظمهم من الأمريكيين، لكن المحللين التابعين لهيئة “سيغار” سافروا أيضًا إلى لندن وبروكسل وبرلين لإجراء مقابلات مع مسؤولين من دول حلف الناتو. كما أجروا مقابلات مع حوالي 20 مسؤولا أفغانيا وناقشوا برامج إعادة الإعمار والتنمية.
بالاعتماد جزئيا على المقابلات إلى جانب السجلات والإحصاءات الحكومية الأخرى، نشرت هيئة “سيغار” سبعة تقارير عن مشروع “الدروس المستفادة” منذ سنة 2016 تسلط الضوء على المشاكل في أفغانستان وتوصي بإجراء تغييرات لتحقيق الاستقرار في البلاد.
لكن هذه التقارير التي كُتبت بنثر بيروقراطي كثيف وركزت على بحر من اختصارات المبادرات الحكومية، لم تأت على ذكر الانتقادات القاسية والأكثر صراحة التي وردت في هذه المقابلات. وجاء في مقدمة تقرير صدر في شهر أيار/ مايو من سنة 2018 “وجدنا أن استراتيجية تحقيق الاستقرار والبرامج المستخدمة لتحقيقها لم تكن مصممة على النحو المناسب وفقا للسياق الأفغاني، ونادرا ما كانت النجاحات في تحقيق الاستقرار في المقاطعات الأفغانية تدوم لفترة أطول من الوجود المادي لقوات التحالف والمدنيين”.
حذفت التقارير أسماء أكثر من 90 بالمئة من الأشخاص الذين أُجريت معهم مقابلات من أجل المشروع. وفي حين وافق عدد قليل من المسؤولين على التحدث بشكل رسمي إلى هيئة “سيغار”، قالت الوكالة إنها وعدت بعدم الكشف عن هوية أي شخص آخر قابلته تفاديا لحدوث جدل حول المسائل السياسية الحساسة.
بموجب قانون حرية المعلومات الأمريكي، بدأت صحيفة “واشنطن بوست” في البحث عن سجلات مقابلات مشروع “الدروس المستفادة” في شهر آب/ أغسطس 2016. وقد رفضت هيئة “سيغار” مدّ الصحيفة بالسجلات بتعلة أن الوثائق سرية وأن الشعب ليس لديه الحق في الاطلاع عليها.
على إثر ذلك، اضطرت صحيفة “واشنطن بوست” إلى رفع دعوى قضائية ضد هيئة “سيغار” لدى المحكمة الاتحادية – مرتين – لإجبارها على رفع السرية عن الوثائق. وفي نهاية المطاف، كشفت الهيئة عن أكثر من ألفي صفحة من الملاحظات والنصوص غير المنشورة من 428 مقابلة، بالإضافة إلى العديد من التسجيلات الصوتية.
تحدد الوثائق هوية 62 شخصًا ممن أُجريت معهم مقابلات غير أن “سيغار” حجبت أسماء 366 شخصًا آخرين. وزعمت الهيئة في المذكرات القانونية أنه ينبغي اعتبار هؤلاء الأفراد مُخبرين وعملاء وقد يتعرضون للإذلال أو المضايقة أو يكونون ضحية الأعمال الانتقامية أو الأذى الجسدي إذا ما تم الكشف عن أسمائهم.
من خلال الإحالة المرجعية إلى التواريخ وتفاصيل أخرى من الوثائق، حدّدت صحيفة “واشنطن بوست” بشكل مستقل هوية 33 شخصًا آخرين أجريت معهم مقابلات بما في ذلك العديد من السفراء السابقين والجنرالات وموظفين في البيت الأبيض.
طلبت الصحيفة من قاضٍ فيدرالي إجبار هيئة “سيغار” على الكشف عن أسماء الأشخاص الآخرين الذين أُجريت معهم مقابلة بحجة أن الشعب له الحق في معرفة هوية المسؤولين الذين انتقدوا الحرب، مؤكدةً أن الحكومة قد ضللت الشعب الأمريكي. وجادلت الصحيفة أيضًا بأن المسؤولين ليسوا مخبرين أو عملاء لأن المقابلات معهم لم تكن جزءًا من تحقيق.
لا يزال قرار القاضية إيمي بيرمان جاكسون بالمحكمة الجزئية الأمريكية في واشنطن معلقًا منذ أواخر أيلول/ سبتمبر. وبدلًا من انتظار الحكم النهائي، نشرت صحيفة “واشنطن بوست” الوثائق لإبلاغ الشعب في الوقت الذي كانت فيه إدارة ترامب تتفاوض مع طالبان وتنظر في ما إذا كانت ستسحب 13 ألف جندي أمريكي من أفغانستان. وقد حاولت “واشنطن بوست” الاتصال بكل شخص اكتشفت أنه أجرى مقابلة مع هيئة “سيغار” من أجل الحصول على تعليق. وتم تجميع ردودهم في مقال مستقل.
صرّح المفتش العام سوبكو لصحيفة “واشنطن بوست” بأنه لم يقمع الانتقادات اللاذعة والشكوك حول الحرب التي أثارها المسؤولون في مقابلات مشروع “الدروس المستفادة”. وقال إن مكتبه استغرق ثلاث سنوات لإصدار السجلات لأن لديه عددا قليلا من الموظفين ولأن الوكالات الفيدرالية الأخرى اضطرت إلى مراجعة الوثائق لمنع الكشف عن الأسرار الحكومية. وأوضح: “لم نرغب في إخفائها. نحن نؤمن بشدة بالانفتاح والشفافية، لكن يتعين علينا اتباع القانون. مقارنة بأي مفتش عام، ربما كنت الأكثر استعدادًا لمشاركة المعلومات”
إن سجلات المقابلات أولية وغير منقحة ولم يقم فريق مشروع “الدروس المستفادة” التابع لهيئة “سيغار” بتجميعها في قصة موحدة. ولكن هذه السجلات مليئة بالأحكام الصارمة من الأشخاص الذين شكلوا أو نفذوا السياسة الأمريكية في أفغانستان.
أفاد الدبلوماسي الأمريكي السابق رفيع المستوى والمبعوث الخاص لأفغانستان في عهد بوش وأوباما، جيمس دوبينز، في المقابلات الحكومية: “نحن لا نغزو الدول الفقيرة لنجعلها غنية. نحن لا نغزو البلدان المستبدة لجعلها ديمقراطية. نحن نغزو البلدان التي يشتد فيها العنف لجعلها سلمية وقد فشلنا بشكل واضح في أفغانستان“.
من أجل تعزيز مقابلات مشروع “الدروس المستفادة”، حصلت “صحيفة “واشنطن بوست” على مئات الصفحات من المذكرات السرية السابقة حول الحرب الأفغانية التي أملاها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بين سنتي 2001 و2006. تعدّ المذكرات التي أطلق عليها رامسفيلد وموظفوه اسم “رقاقات الثلج”، بمثابة تعليمات موجزة أو تعليقات كان رئيس البنتاغون يمليها على أتباعه، وفي كثير من الأحيان يمليها عدة مرات في اليوم.
وأعلن رامسفيلد عن عدد مختار من مذكرات “رقاقات الثلج” الخاصة به في سنة 2011، ونشرها على الإنترنت بالاقتران مع مذكراته بعنوان “معروف وغير معروف”. لكن معظم مجموعته من مذكرات “رقاقات الثلج” – التي تتكون من حوالي 59 ألف صفحة – ظلت سرية.
في سنة 2017، ردا على الدعوى القضائية المتعلقة بقانون حرية المعلومات الأمريكي التي رفعها أرشيف الأمن القومي – وهو معهد أبحاث غير ربحي مقره جامعة جورج واشنطن – بدأت وزارة الدفاع في مراجعة وإصدار ما تبقى من مذكرات “رقاقات الثلج” التابعة لرامسفيلد بالتعاقب. وقد شارك المعهد الأرشيف مع صحيفة “واشنطن بوست”.
تشكل المقابلات مع “سيغار” ومذكرات رامسفيلد المتعلقة بأفغانستان تاريخًا سريًا للحرب وتقييما لا هوادة فيه لصراع دام 18 سنة. وتنذر العديد من مذكرات “رقاقات الثلج”، التي صيغت بأسلوب رامسفيلد الفظّ، بمشاكل لا تزال تطارد الجيش الأمريكي بعد أكثر من عقد من الزمان.
كتب رامسفيلد في مذكرة إلى العديد من الجنرالات وكبار المساعدين: “قد أكون غير صبور. في الحقيقة أنا أعلم أنني لا أطيق صبرًا. لن نسحب الجيش الأمريكي من أفغانستان أبدا ما لم نتأكد من أن هناك شيئا يحدث من شأنه أن يحقق الاستقرار الذي سيكون ضروريًا للمغادرة”. واستنجد قائلا “ساعدونا”.
يعود تاريخ المذكرة إلى 17 نيسان/ أبريل 2002، أي بعد ستة أشهر من بدء الحرب.
من خلال وصفهم الصريح لكيفية توريط الولايات المتحدة نفسها في حرب بعيدة، فضلا عن إصرار الحكومة إخفاء الحقيقة عن الناس، تشبه مقابلات الدروس المستفادة على نطاق واسع أوراق البنتاغون، التي تشمل تاريخ حرب الفيتنام شديد السرية الذي تملكه وزارة الدفاع.
عندما تم تسريبها في سنة 1971، أثارت أوراق البنتاغون ضجة كبيرة من خلال الكشف عن أن الحكومة ضللت الشعب منذ فترة طويلة بشأن كيفية تورط الولايات المتحدة في حرب الفيتنام. استندت الدراسة المؤلفة من 7000 صفحة إلى 47 مجلدًا، واستندت بالكامل إلى وثائق حكومية داخلية على غرار البرقيات الدبلوماسية ومذكرات صنع القرار وتقارير المخابرات. للحفاظ على سريتها، أصدر وزير الدفاع روبرت ماكنمارا أمرا يمنع المؤلفين من إجراء مقابلات مع أي شخص.
أكدت وزارة الخارجية مثلا أن الكشف عن أجزاء من مقابلات معينة قد يعرّض المفاوضات مع طالبان لإنهاء الحرب للخطر
لم يواجه مشروع مكتب المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان (سيغار)، الدروس المستفادة، أي قيود من هذا القبيل. أجرى الموظفون المقابلات بين سنتي 2014 و2018، وكانت معظمها مع المسؤولين الذين خدموا خلال عهد بوش وأوباما. تمت كتابة حوالي 30 سجلا من سجلات المقابلات، كلمة بكلمة، أما الباقي فكان عبارة عن ملخصات مطبوعة للمحادثات: صفحات من الملاحظات والاقتباسات من أشخاص لديهم وجهات نظر مختلفة حول الصراع، من مراكز المراقبة في المقاطعات إلى دوائر السلطة العليا.
كانت بعض المقابلات قصيرة بشكل غير مفهوم، فعلى سبيل المثال، يتكون سجل المقابلة مع جون ألين، جنرال مشاة البحرية الذي قاد القوات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي في أفغانستان من 2011 إلى 2013، من خمس فقرات. في المقابل، كانت سجلات المقابلات مع الشخصيات المؤثرة الأخرى أطول من ذلك، حيث أجرى السفير الأمريكي السابق ريان كروكر، مقابلتين أسفرتا عن كتابة 95 صفحة.
على عكس أوراق البنتاغون، لم تُصنّف أي من وثائق مشروع الدروس المستفادة في الأصل على أنها أسرار حكومية. وبمجرد أن ضغطت صحيفة “واشنطن بوست” على الحكومة لنشر هذه الوثائق للعلن، تدخلت وكالات فيدرالية أخرى وصنفت بعض المواد على أنها سرية.
أكدت وزارة الخارجية مثلا أن الكشف عن أجزاء من مقابلات معينة قد يعرّض المفاوضات مع طالبان لإنهاء الحرب للخطر. كما صنفت وزارة الدفاع وإدارة مكافحة المخدرات بعض مقتطفات المقابلات على أنها سرية. تحتوي مقابلات الدروس المستفادة على القليل من المعلومات حول العمليات العسكرية، لكنها تشمل عديد الانتقادات التي تدحض الرواية الرسمية للحرب، منذ أيامها الأولى وحتى بداية إدارة ترامب. ومن بين هذه الانتقادات أن الغزو الأمريكي لأفغانستان كان له هدف واضح ومعلن، وهو الانتقام من القاعدة ومنع تكرار هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001.
مع ذلك، تُظهر المقابلات أنه مع استمرار الحرب استمرت الأهداف والمهمة في التغيّر، بينما ترسخ الافتقار إلى الثقة في استراتيجية الولايات المتحدة داخل البنتاغون والبيت الأبيض ووزارة الخارجية. بقيت الخلافات الجوهرية دون حلّ، فقد أراد بعض المسؤولين الأمريكيين استغلال الحرب لتحويل أفغانستان إلى دولة ديمقراطية؛ وأراد آخرون تغيير الثقافة الأفغانية والنهوض بحقوق المرأة؛ بينما ما زال البعض الآخر يريد إعادة رسم خارطة النفوذ الإقليمي بين باكستان والهند وإيران وروسيا.
قال مسؤول أمريكي مجهول لمحاورين حكوميين في سنة 2015: “مع استراتيجية أف-باك، كان هناك مفاجأة للجميع. بحلول الوقت الذي تنهي فيه العمل عليها، ستجد الكثير من الأولويات والتطلعات، كما لو لم تكن هناك استراتيجية على الإطلاق”. كما تكشف مقابلات الدروس المستفادة أيضًا كيف كافح القادة العسكريون الأمريكيون لتوضيح هوية الأطراف الذين كانوا يقاتلونهم ناهيك عن السبب.
هل القاعدة هي العدو أم طالبان؟ هل باكستان صديقة أم خصم؟ ماذا عن تنظيم الدولة والمجموعة الضخمة من الجهاديين الأجانب، ناهيك عن أمراء الحرب الذين يتقاضون رواتب من وكالة المخابرات المركزية؟ وفقا للوثائق، لم تستقر الحكومة الأمريكية أبدا على إجابة واضحة. نتيجة لذلك، لم تكن القوات الأمريكية في كثير من الأحيان قادرة على التمييز بين الصديق والعدو في ميدان الحرب.
قال مستشار سابق من فريق القوات الخاصة بالجيش، لم يذكر اسمه، للمحاورين الحكوميين في سنة 2017: “لقد كانوا يعتقدون أنني سأحضر إليهم خريطة تكشف لهم أين يعيش الأخيار والأشرار. لقد استغرق الأمر عدة محادثات حتى يفهموا أنه ليس لدي هذه المعلومات. في البداية، ظلوا يسألون: من هم الأشرار، وأين يتواجدون؟”.
لم تكن الأمور أكثر وضوحًا بالنسبة للبنتاغون أيضًا. وقد اشتكى رامسفيلد في 8 أيلول/ سبتمبر 2003، قائلا: “ليس لدي رؤية واضحة حول هوية الأشرار. نحن ضعيفون بشكل مؤسف في الذكاء البشري”.
باعتبارهم قادة أركان، قدّم كل من بوش وأوباما وترامب الوعود ذاتها، وهو أنهم سيتجنبون الوقوع في فخ “بناء الدولة” في أفغانستان. لكن الرؤساء الثلاثة فشلوا فشلا ذريعا، حيث خصصت الولايات المتحدة أكثر من 133 مليار دولار لبناء أفغانستان، أكثر مما أنفقته لإحياء أوروبا الغربية بأكملها بخطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية – مع الأخذ بعين الاعتبار معدل التضخم.
أغرقت الولايات المتحدة الدولة الهشة بمساعدات أكثر بكثير مما يمكنها استيعابه. خلال ذروة القتال من 2009 إلى 2012
تظهر مقابلات الدروس المستفادة أن مشروع بناء الدولة الضخم قد كان مشوها منذ البداية. حاول المسؤولون الأمريكيون إنشاء حكومة ديمقراطية من الصفر في كابول على غرار حكومتهم في واشنطن. كان هذا المفهوم غريبًا على الأفغان الذين اعتادوا على القبلية والملكية والشيوعية والشريعة الإسلامية.
صرّح مسؤول سابق في وزارة الخارجية لم يتم الكشف عن هويته للمحاورين الحكوميين في سنة 2015: “تمثّلت سياستنا في إنشاء حكومة مركزية قوية وهي فكرة حمقاء لأن أفغانستان لم تشهد حكومة مركزية قوية في السابق. يتطلب إنشاء حكومة مركزية إطارا زمنيا يقدر بـ 100 سنة، لكن لم يكن لدينا هذا المتسع من الوقت”.
في غضون ذلك، أغرقت الولايات المتحدة الدولة الهشة بمساعدات أكثر بكثير مما يمكنها استيعابه. خلال ذروة القتال من 2009 إلى 2012، اعتقد المشرّعون والقادة العسكريون الأمريكيون أنه كلما أنفقوا المزيد على المدارس والجسور والقنوات ومشاريع الأشغال المدنية الأخرى، ستتحسن الحالة الأمنية بشكل أسرع. وقد صرّح عمال الإغاثة للمحاورين الحكوميين بأن هذا الأمر انطوى على سوء تقدير فادح، وكان أشبه بضخ الكيروسين على نار توشك على الإنطفاء فقط للحفاظ على الشعلة.
يعتقد أحد المسؤولين التنفيذيين في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، الذي لم يذكر اسمه، أن 90 بالمئة مما أنفقوه كان مبالغا فيه: “لقد فقدنا موضوعيتنا. لقد قُدّم إلينا المال، وطُلب منا إنفاقه، ففعلنا ذلك دون أي مغزى“. وقد ألقى العديد من عمال الإغاثة باللوم على الكونغرس فيما اعتبروه اندفاعًا طائشًا للإنفاق.
أخبر متعاقد مجهول الهوية المحاورين الحكوميين أنه كان يُتوقع منه أن يخصص 3 ملايين دولار يوميا لتمويل مشاريع في منطقة أفغانية واحدة بحجم مقاطعة أمريكية تقريبا. سأل هذا المتعاقد ذات مرة أحد أعضاء الكونغرس الذين زاروه عما إذا كان بإمكان المشرّع إنفاق هذا القدر من المال بشكل مسؤول في وطنه: “قال لي ‘طبعا لا. هذا ما ألزمتنا بإنفاقه، وأنا أفعل ذلك من أجل المجتمعات التي تعيش في أكواخ من الطين وبلا نوافذ“.
أدى تدفق المساعدات من واشنطن في أفغانستان إلى ارتفاع غير مسبوق في مستويات الفساد. أصر المسؤولون الأمريكيون علنا على أنهم لا يتسامحون مع الكسب غير المشروع، لكنهم اعترفوا خلال مقابلات الدروس المستفادة بأن الحكومة الأمريكية غضّت الطرف عن نهب أصحاب النفوذ الأفغان، وهم حلفاء واشنطن، الأموال مع الإفلات من العقاب.
قال كريستوفر كوليندا، الكولونيل بالجيش الذي خدم في أفغانستان عدة مرات وقدم المشورة لثلاثة جنرالات أمريكيين مسؤولين عن الحرب، إن الحكومة الأفغانية بقيادة الرئيس حامد كرزاي قد “تحولت إلى نظام حكم كليبتوقراطي” بحلول سنة 2006، مشيرا إلى أن المسؤولين الأمريكيين فشلوا في التعرف على التهديد المميت الذي يشكله على استراتيجيتهم.
أفاد كوليندا للمحاورين الحكوميين: “أود استخدام تشبيه السرطان؛ إن الفساد البسيط يشبه سرطان الجلد حيث أن هناك طرق للتعامل معه وستكون بخير على الأرجح، لكن الفساد داخل الوزارات أكثر تفشيا بكثير مثل سرطان القولون، ومع أنه نوع أسوأ من السرطان، إلا أنك ستكون بخير إذا أدركته في الوقت المناسب. أما نظام الكليبتوقراطية فهو يشبه سرطان الدماغ، وهو نوع قاتل”.
صرّح المسؤولون الأمريكيون للمحاورين بأن السماح للفساد بالتفاقم ساهم في تدمير الشرعية الشعبية للحكومة الأفغانية المتذبذبة التي كانوا يقاتلون من أجل دعمها. وفي ظل اعتماد القضاة ورؤساء الشرطة والبيروقراطيين على الابتزاز والرشوة، تخلى العديد من الأفغان عن الديمقراطية ولجأوا إلى طالبان لفرض النظام.
قال كروكر، الذي شغل منصب كبير الدبلوماسيين الأمريكيين في كابول في سنة 2002 ومرة أخرى من 2011 إلى 2012، لمحاوري الحكومة: “ربما كان أكبر مشروع لنا، للأسف وعن غير قصد، يتمثّل في تطوير الفساد الجماعي”. وأضاف كروكر: “بمجرد أن يصل الوضع إلى المستوى الذي رأيته، خلال تواجدي هناك، يصبح الأمر صعبا بشكل لا يصدق ويستحيل الإصلاح تماما في الوقت ذاته”.
سنة بعد سنة، صرّح الجنرالات الأمريكيون علنا بأنهم يحرزون تقدما ثابتا في المحور المركزي لاستراتيجيتهم: وهو تدريب جيش أفغاني قوي وقوة شرطة وطنية يمكنها الدفاع عن البلاد دون مساعدة أجنبية. وخلال مقابلات الدروس المستفادة، وصف المدربون العسكريون الأمريكيون قوات الأمن الأفغانية بأنها غير كفؤة وغير متحفزة ومليئة بالفارين من الخدمة. كما اتهموا القادة الأفغان بتحصيل الرواتب، التي يقدمها دافعو الضرائب الأمريكيون، لعشرات الآلاف من “الجنود الأشباح”.
لم يعرب أي شخص عن ثقته في أن الجيش والشرطة الأفغانية يمكن أن يصدوا طالبان، ناهيك عن هزيمتها بمفردهم. وقد قُتل أكثر من 60 ألف عنصر من قوات الأمن الأفغانية، وهو معدل ضحايا وصفه القادة الأمريكيون بأنه غير مستدام.
قال جندي أمريكي مجهول الهوية إن فرق القوات الخاصة “كرهت” الشرطة الأفغانية التي درّبتها وعملت معها، واصفًا إياهم بأنهم “فظيعون وفي الحضيض في بلد في الحضيض”. قدّر ضابط في الجيش الأمريكي أن ثلث مجندي الشرطة كانوا من “مدمني المخدرات أو من أتباع طالبان“. وقد وصفهم جندي آخر بأنهم “السارقون الحمقى” الذين نهبوا الكثير من الوقود من القواعد الأمريكية لدرجة أن رائحتهم أصبحت تعبق برائحة البنزين على الدوام.
قال مسؤول كبير في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لم يتم ذكر اسمه لمحاورين حكوميين: “إنه لمن الجنون التفكير في أنه بإمكاننا بناء الجيش بهذه السرعة وبهذه الجودة“. في هذه الأثناء، ومع تبدد آمال الولايات المتحدة في تكوين قوات الأمن الأفغانية، أصبحت أفغانستان المصدر الرئيسي في العالم لآفة متنامية وهي الأفيون.
أنفقت الولايات المتحدة حوالي تسعة مليارات دولار لمكافحة هذه المشكلة على مدى السنوات الـ 18 الماضية، لكن المزارعين الأفغان باتوا يزرعون الأفيون أكثر من أي وقت مضى. في السنة الماضية، كانت أفغانستان مسؤولة عن 82 بالمئة من إنتاج الأفيون العالمي، وذلك وفقا لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة.
خلال مقابلات مشروع الدروس المستفادة، قال المسؤولون السابقون إن كل ما فعلوه تقريبا لتقييد زراعة الأفيون أدى إلى نتائج عكسية. قال دوغلاس لوت، قيصر الحرب الأفغانية في البيت الأبيض من 2007 إلى 2013: “ذكرنا أن هدفنا هو إقامة اقتصاد سوق مزدهر. كنت أعتقد أنه يجب علينا أن نذكر بالتحديد تجارة مخدرات مزدهرة – ذلك أنها الجزء الوحيد من السوق الذي يعمل”.
منذ البداية، لم تعرف واشنطن أبدا كيفية دمج الحرب على المخدرات في حربها ضد القاعدة. بحلول سنة 2006، خشي المسؤولون الأمريكيون من أن تجار المخدرات قد أصبحوا أقوى من الحكومة الأفغانية وأن الأموال المتأتية من تجارة المخدرات كانت تدعم التمرد.
لم تكن هناك وكالة أو دولة بمفردها مسؤولة عن استراتيجية مكافحة المخدرات في أفغانستان طوال الحرب، وقد تداخلت صلاحيات وزارة الخارجية ووكالة مكافحة المخدرات والجيش الأمريكي وقوات الناتو والحكومة الأفغانية.
وقد صرح مسؤول بريطاني سابق رفض الكشف عن هويته خلال مقابلة صحفية: “لقد كان الوضع فوضويا دون وجود أي حلول”.
وفقًا للمقابلات التي أجرتها واشنطن بوست، كانت الجهود مشتتة بين مختلف الأطراف. في البداية، كان البريطانيون يدفعون لمزارعي الخشخاش الأفغان مقابل إتلاف محاصيلهم، وهو ما شجعهم على زراعة المزيد في الموسم التالي للحصول على المال. في وقت لاحق، قضت الحكومة الأمريكية على حقول الخشخاش دون تعويضات، الأمر الذي أثار سخط المزارعين وشجعهم على دعم حركة طالبان.
في هذا السياق، قال أحد المسؤولين الأمريكيين: “كان من المحزن رؤية الكثير من الناس يتصرفون بهذا الغباء”.
كان شبح فيتنام يحوم في أفغانستان منذ البداية. في 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2001، بعد أيام قليلة من بدء الولايات المتحدة حربها على طالبان، سأل أحد الصحفيين الرئيس بوش: “هل يمكنك أن تتجنب الانجرار إلى مستنقع شبيه بفيتنام في أفغانستان؟” أجاب بوش بثقة: “لقد تعلمنا بعض الدروس المهمة للغاية في فيتنام”. وأضاف: “كثيرًا ما يسألني الناس،” إلى متى سيستمر هذا؟ “ستستمر جبهة القتال طالما أن الأمر يتطلب تقديم تنظيم القاعدة إلى العدالة. قد يحدث هذا غدًا أو بعد شهر من الآن، وقد يستغرق الأمر سنة أو سنتين، لكننا سننتصر”.
في تلك الأيام الأولى، سخر قادة أمريكيون من فكرة أن كابوس فيتنام يتكرر في أفغانستان. قال وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد مازحا في مؤتمر صحفي يوم 27 تشرين الأول/ نوفمبر 2001: “جميعنا معا الآن في المستنقع!”. لكن طوال الحرب الأفغانية، تظهر الوثائق أن المسؤولين العسكريين الأمريكيين لجؤوا إلى تكتيك قديم يعود لحرب فيتنام وهو التلاعب بالرأي العام.
في المؤتمرات الصحفية والمناسبات العامة الأخرى، اتبع المسؤولون نفس الاستراتيجيات طوال 18 عامًا. بغض النظر عن مسار الحرب وتطوراتها، فإنهم يؤكدون دائما أنهم يحرزون تقدما.
على سبيل المثال، تُظهر بعض الوثائق التي نشرها رامسفيلد ضمن مذكراته أنه تلقى سلسلة من التحذيرات من أفغانستان سنة 2006. وبعد عودته من مهمة لتقصي الحقائق، أكد باري مكافري، وهو جنرال متقاعد، أن طالبان حققت عودة حاسمة وأن الولايات المتحدة “ستواجه بعض المفاجآت غير السارة في الأشهر الـ 24 القادمة”.
كتب مكافري في شهر حزيران/ يونيو 2006: “الحكومة الأفغانية مذعورة من احتمال خروجنا من أفغانستان في السنوات القليلة المقبلة، وترك المسؤولية لحلف الناتو، وترى أن الوضع سينهار برمته مرة أخرى وستعود حالة الفوضى”.
بعد شهرين، قدم مارين سترميكي، مستشار رامسفيلد، تقريرًا سريًا مكونًا من 40 صفحة يحمل مزيدا من الأخبار السيئة. جاء في ذلك التقرير: ” يتنامى الاستياء الشعبي ضد الحكومة الأفغانية بسبب فسادها وعدم كفاءتها. كما أن نفوذ حركة طالبان يزداد بفضل الدعم الذي تتلقاه من باكستان حليفة الولايات المتحدة”.
لكن بمباركة رامسفيلد، دفن البنتاغون تلك التحذيرات القاتمة وأخبر الشعب الأمريكي بقصة مختلفة تماما.
في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2006، ظهرت في مذكرات رامسفيلد وثيقة بعنوان “أفغانستان: بعد خمس سنوات”. سلطت الوثيقة المفعمة بالتفاؤل الضوء على عدد من الأرقام والإحصائيات، بدءًا من عدد النساء الأفغانيات المدربات على “تربية الدواجن” (أكثر من 19 ألف امرأة) إلى “متوسط السرعة في معظم الطرق” (زيادة بنسبة 300 بالمئة).
كما جاء في الوثيقة: “بعد خمس سنوات، هناك العديد من الأخبار السارة. أصبح من المألوف في بعض الدوائر وصف حرب أفغانستان بالحرب المنسية، أو القول بأن الولايات المتحدة فقدت التركيز على هذه الحرب، لكن الحقائق تكذب هذه الخرافات”.
وكتب رامسفيلد في مذكرة: “هذه الورقة هي وثيقة ممتازة. كيف ينبغي أن نستخدمها؟ هل يجب أن تكون مقالا؟ افتتاحية؟ نشرة أخبار؟ إيجاز صحفي؟ أو كل ذلك؟ أعتقد أنه ينبغي إيصالها إلى الكثير من الناس”.
بعد أن تحقق موظفوه مما ورد فيها. وزّعوا نسخة على المراسلين ونشروها على مواقع البنتاغون. منذ ذلك الحين، دأب الجنرالات الأمريكيون دائمًا على التبشير بأن الحرب في أفغانستان تتقدم بشكل جيد، بغض النظر عما يحدث في الواقع في ساحة المعركة.
صرّح اللواء جيفري شلوسر، قائد الفرقة 101 المحمولة جوا، للصحفيين خلال شهر أيلول/ سبتمبر 2008، حتى عندما كان هو وقادة أمريكيون آخرون في كابول يطلبون بشكل عاجل تعزيزات لمواجهة الموجة المتصاعدة لمقاتلي طالبان: “إننا نحقق بعض التقدم المطرد”.
بعد ذلك بسنتين، ومع زيادة حصيلة الضحايا في صفوف القوات الأمريكية وحلف الناتو، عقد اللفتنانت جنرال ديفيد رودريغيز مؤتمرًا صحفيا في كابول قال فيه: “في البداية، نحن نحقق تقدمًا مدروسًا بشكل مطرد”.
في آذار/ مارس 2011، خلال جلسات الاستماع في الكونغرس، شكك المشرعون في تصريحات الجنرال ديفيد بترايوس، قائد القوات الأمريكية وحلف الناتو في أفغانستان، وبمدى نجاح استراتيجية الولايات المتحدة. في ذلك الوقت، ردّ بترايوس أنه “شهد خلال الثمانية الماضية تقدمًا هائلا، بشكل غير سهل”.
بعد سنة واحدة، خلال زيارة لأفغانستان، تمسك وزير الدفاع ليون بانيتا بالسيناريو ذاته – علما بأنه نجا شخصيا من هجوم انتحاري. وأوضح بانيتا للصحفيين “كما أشرت في السابق، أعتقد أن الحملة حققت تقدما كبيرا”.
في يوليو/ تموز 2016، بعد تصاعد هجمات طالبان على المدن الكبرى، كرر الجنرال جون دبليو نيكولسون جونيور، قائد القوات الأمريكية في أفغانستان في ذلك الوقت، الكلمات ذاتها حيث قال للصحفيين “نشهد بعض التقدم”.
خلال حرب الفيتنام، اعتمد القادة العسكريون الأمريكيون على مقاييس مريبة لإقناع الأمريكيين بأنهم في طريقهم نحو الانتصار. فعلى سبيل المثال، سلّط البنتاغون الضوء على “عدد القتلى” أو عدد مقاتلي العدو الذين قتلوا، وضخّم الأرقام كمقياس للنجاح.
في أفغانستان، مع استثناءات عرضية، تجنّب الجيش الأمريكي بشكل عام الإعلان عن أعداد القتلى. لكن المقابلات المتعلقة مشروع المستفادة تضمنت العديد من الاعترافات بأن الحكومة روجت بشكل روتيني للإحصاءات التي يعرف المسؤولون أنها مشوهة أو زائفة أو خاطئة تمامًا.
صرّح شخص عُرّف على أنه مسؤول رفيع المستوى في مجلس الأمن القومي أن هناك ضغطًا مستمرًا من البيت الأبيض وأوباما والبنتاغون لتقديم أرقام تظهر أن قرار الترفيع في عدد القوات ما بين 2009 و2011 كان ناجحا، على الرغم من وجود أدلة قاطعة تنفي ذلك.
صرح نفس المسؤول رفيع المستوى في مجلس الأمن القومي للمحاورين الحكوميين في سنة 2016: “كان من المستحيل إنشاء مقاييس جيدة. لقد حاولنا استخدام البيانات المتعلقة بالقوات المدربة ومستويات العنف والسيطرة على الأراضي، لكن لم يرسم أي من هذه المقاييس صورة دقيقة للوضع، مؤكدا أن التلاعب بالمقاييس استمر طوال مدة الحرب”.
أشار المسؤول رفيع المستوى في مجلس الأمن القومي إلى أنه حتى عندما بدت أعداد الضحايا والأرقام الأخرى سيئة، استخف البيت الأبيض والبنتاغون بها. كما وقع تصوير التفجيرات الانتحارية في كابول على أنها علامة على يأس طالبان، وأن المتمردين كانوا أضعف من أن ينخرطوا في قتال مباشر. وفي الوقت نفسه، وقع الاستشهاد بارتفاع عدد القتلى في صفوف القوات الأمريكية على أنه دليل على أن القوات الأمريكية كانت تقاتل العدو بكل ما أوتيت من قوة.
أكد المسؤول نفسه: “كانت تلك تفسيراتهم. فعلى سبيل المثال، عندما يزداد عدد الهجمات كانوا يقولون إن هذا يعود إلى وجود المزيد من الأهداف التي يمكنهم استهدافها، لذا كان ارتفاع موجة الهجمات يعد مؤشرًا خاطئا على عدم الاستقرار. ثم حتى بعد ثلاثة أشهر، كانت السلطات الأمريكية تفسر تزايد الهجمات بأن طالبان باتت يائسة، وهو ما يعد مؤشرا على أننا ننتصر”.
في سياق متصل، أضاف هذا المسؤول رفيع المستوى في مجلس الأمن القومي: “لقد استمر هذا الأمر لسببين، أولا لجعل كل شخص معني بالحرب يشعر بالرضا والتفاؤل؛ وثانيا لجعل الأمر يبدو وكأن القوات ومواردها لها تأثير قوي على البلاد. وبالتالي، من شأن انسحابها أن يجعل وضع البلاد يتدهور”.
في تقارير ميدانية أخرى أرسلت إلى القيادة اتخذ الضباط العسكريين والدبلوماسيين النهج ذاته. بغض النظر عن الظروف على أرض الواقع، كانوا دائما يزعمون أنهم يحرزون تقدمًا. في هذا الصدد، أوضح مايكل فلين، الجنرال المتقاعد بالجيش من فئة ثلاث نجوم، للمحاوين الحكوميين في سنة 2015: “ بدءا من السفراء وصولا إلى أسفل هرم السلطة، يقولون جميعًا إننا نبلي حسنا. إذا كنا نقوم بمثل هذا العمل الرائع، فلماذا يبدو الأمر وكأننا نُهزم؟”.
حسب فلين، الذي خدم خلال مناسبات عدة في أفغانستان كضابط مخابرات، فإنه منذ الوصول إلى أفغانستان وقع تكليف قادة اللواء والكتيبة بالجيش الأمريكي بنفس المهمة الأساسية: حماية السكان وهزيمة العدو. وأشار فلين، الذي عمل لاحقًا لفترة وجيزة مستشارًا للأمن القومي لترامب، وفقد وظيفته في فضيحة وأدين بالكذب على مكتب التحقيقات الفدرالي: “مهما كانت المدة التي خدمها الجنود، تسعة أشهر أو ستة أشهر، فقد كلفوا بهذه المهمة ونفذوها”. وأردف قائلا: “عندما يغادرون يقولون جميعا إنهم نجحوا في إنجاز المهمة ولايمكن أن تجد ولو قائدا واحدا في أفغانستان يقول إنه فشل في المهمة المكلف بها. على هذا النحو، يجد القائد التالي الأوضاع محبطة، وهكذا يتوالى القادة على أفغانستان ويبقى الوضع سيئا للغاية”.
أخبر بوب كرولي، العقيد المتقاعد بالجيش الذي عمل مستشارًا لمكافحة التمرد في أفغانستان في سنتي 2013 و2014، المحاورين الحكوميين بأن “الحقيقة نادرا ما تكون موضع ترحيب” في المقر العسكري في كابول. وأوضح قائلا: “كان يقع التكتم في كثير من الأحيان عن الأخبار السيئة لكن كان هناك المزيد من الحرية لمشاركة الأخبار السيئة إذا كانت غير مهمة – مثل دهس الأطفال باستخدام المركبات المدرعة – لأن هذه الأشياء يمكن تغييرها من خلال توجيهات السياسة. ولكن عندما حاولنا التعبير عن مخاوف استراتيجية أكبر بشأن إمكانيات الحكومة الأفغانية أو فسادها، كان من الواضح أن هذه المواضيع غير مرحب بها”.
صرّح جون جاروفانو، الخبير الاستراتيجي بالكلية الحربية البحرية الذي قدم المشورة لقوات المارينز في مقاطعة هلمند في سنة 2011، أن المسؤولين العسكريين الميدانيين كرسوا قدرًا هائلاً من الموارد لإعداد مخططات مرمّزة بالألوان تشير إلى إحراز نتائج إيجابية.
أوضح جاروفانو للمحاورين الحكوميين: “لقد كانت لديهم آلة باهظة الثمن بالفعل تطبع القطع الكبيرة من الورق كما هو الحال في المطبعة. كان هناك ما ينبه إلى أنها ليست بيانات علمية في الواقع، أو أنه لا يوجد نهج علمي وراء ذلك”. لكن جاروفانو أكد أنه لم يجرؤ أحد على التساؤل عما إذا كانت الرسوم البيانية والأرقام ذات مصداقية أو ذات مغزى حيث أنه “لم تكن هناك رغبة في الإجابة على أسئلة مثل ما الذي يفسر هذا العدد من المدارس المبنية؟ كيف ساعدك ذلك في تحقيق هدفك؟ أو كيف تُظهر هذا كدليل على النجاح وليس مجرد دليل على جهد أو دليل على مجرد القيام بعمل جيد؟”.
صرح مسؤولون رفيعو المستوى آخرون أنهم يولون أهمية كبيرة لإحصاء واحد على وجه الخصوص، وإن كان نادرًا ما تحب الحكومة الأمريكية مناقشته علنًا. أوضح الدبلوماسي الأمريكي دوبينز أمام لجنة في مجلس الشيوخ في سنة 2009: “أعتقد أن المعيار الرئيسي الذي اقترحته هو عدد الأفغان الذين يُقتلون”. إذا ارتفع الرقم فنحن نخسر، وإذا انخفض فنحن نفوز، إنه أمر بسيط”.
حسب تقديرات الأمم المتحدة، فإن 3804 مدنيا أفغانيا قتلوا السنة الماضية في الحرب. ويعتبر هذا العدد أكبر حصيلة للقتلى خلال عام واحد منذ أن بدأت الأمم المتحدة في تتبع الخسائر قبل عقد من الزمان.
المصدر: واشنطن بوست