بدأت قضية “الاحتضان” لأطفالٍ مجهولي النَّسَب، رغم جدليتها، وانحصارها في نظرة المجتمع القاسية، في البزوغ مؤخرًا دون رهبة، من خلال تجارب ناجحة لأمهات وجدن “الكفالة” طريقًا يحقق رغباتهن في تجربة الأمومة.
“أمهات بالاحتضان” يخضن الدروب بحثًا عن أحلامهن في تبنّي أرواح صغيرة توقًا لمنادتهن بـ”ماما”، وعكازًا حينما يأكل الشيب أعمارهن، لكل واحدة منهن قصة تختلف في دوافعها عن الأخرى، إلا أن شيئًا واحدًا يربطهم في عقدٍ مرصّع بالإنسانية والإيمان بقدسية الحياة مهما كان الثمن، لتنال أغلبهن تضامن المحيطين ويكسرن تابوهات المجتمع.
“قلبي اتخطف”
كان في يومه الأول في دار الأيتام، عينان سودوان تلاحقانها، لا تتذكر رشا كيف تغيرت كل خططها، وتحول حلمها من طفلة تشبهها إلى كفالة مصطفى، تقول رشا مكي، أمّ وناشطة في مجال الكفالة، لـ”نون بوست”.
وتكمل: “حلمت بكفالة طفلة سمراء، قريبة الشبه مني ومن ملامح زوجي، أول طفلة شاهدتها بالدار لم يتحرك إحساسي نحوها، عدتُ في اليوم التالي وكان بانتظاري طفلة جديدة إلا أنها لا تشبهني، لوهلة فقدت الأمل في تحقيق أمنيتي، قبل المغادرة استوقفتني نظرات طفل كان في سريره، مفتح عيونه أوي وبيبصلي جامد، قلبي اتخطف، وعرفت أن هو ده ابني”.
الخطوة التي اتخذتها رشا، بعدما سعت على مدار 20 عامًا في إنجاب أطفال ما بين الأدوية والتلقيح الصناعي، كانت كفيلة بحدوث تغييرات جذرية في حياتها، الرضاعة الطبيعية لطفلها الجديد كانت أولى قراراتها، من خلال بضع حقن هرمونية وكيلوغرامات من وزنها.
توضِّح قائلة: “عندي شغف كبير أن أعيش تجربة الأمومة كاملة، ذهبت لطبيب مختص، وبدأت جلسات إرضاع صناعي، ولمّا أخدنا مصطفى البيت، حياتي اكتملت أخيرًا، عندي أكبر نعمة تمنيتها من الله، زاد وزني وبدت مشاعر الخوف والقلق على صغيري ومستقبله تراودني، أنا سعيدة بتجربة الأمومة البديلة، الكفالة ليست سهلة لكنها تستحق، طوال الوقت أنظر إلى طفلي مصطفى وأبتسم وأسأل نفسي عن الشيء الجميل الذي قدمته للحياة، لكي أوهب بهذا الطفل الرائع”.
كأنني أحتضن شيئًا مني
أما جيهان عيسى التي تعمل في مجال طب الأطفال، فلم تحظَ بمولود رغم مرور 9 سنوات على زواجها، وكحال أي سيدة تسعى للإنجاب، لجأت إلى طُرُق متعددة دون أن تفقد أملها.
تلك الصدفة أثناء عملها في رعاية الحالات من الأطفال المرضى، حين طُلب منها تولّي الكشف عن رضّع قدموا من سوريا بالتعاون مع مؤسسات خيرية تعنى برعاية الأيتام في الأردن، غيّرت حياتها تمامًا.
الرضاعة تحرِّم ما تحرِّمه الولادة.
في التفاصيل، تسرد جيهان لـ”نون بوست” أن في طليعة هؤلاء الصغار كان يحيى، يعاني من فقر الدم نتيجة سوء التغذية والاهتمام، بعينَين بنيتَين واسعتَين، “نظراته البريئة لم أتمالك مشاعري وقتها أمامها، احتضنته وكأنني أحتضن شيئًا مني، ارتجفت يداي وتسارعت نبضات قلبي، شعور غريب انتابني، انتهى يوم غير عادي بالنسبة إليّ غيّر مسار حياتي”.
“لم يكن الزوج حتى ذاك الوقت شديد الحماس، لكنّ حلمًا غيّر حياته”، تضيف: “عرضت الأمر على زوجي، كان متردد خشية من ظهور أهله بعد تعلقي، صلينا الاستخارة، وأحسبها “رؤية” في منامه، قررنا احتضان هذا الطفل وفقًا للشريعة الإسلامية، قمت بإرضاعه، ساعدتني صديقاتي الطبيبات من خلال محفّزات هرمونية وبعض الأدوية”.
عن موقف الأقارب، تؤكّد جيهان دعم الجميع لهما حين رأوا إصرارهما وحجم قناعتهما بالخطوة، مستندين أيضًا إلى القيمة الدينية والإنسانية للاحتضان، “ولا أنكر وجود بعض الأفكار السلبية لديهم حول أصل الطفل ومستقبله، في حال عَلمَ بقصته”.
“يحيى وهبنا حياة مبهجة، تغيّرت رائحة البيت وغرفتي، أصبحت أمًّا كما كنت أتمنى، أنظِّم أوقاتي بما يناسبه ويلائم احتياجاته، تزيّنَ المنزل بألعاب الأطفال ومأكولاتهم، وأصبحت زياراتنا للأهل لها رونق، كما وضعت لتاريخ انضمامه لأسرتي يوم ميلاد لي وله، لا أتخيّل عمري دونه، بكري وفرحتي الأولى حتى إن رزقت بأطفال غيره”، تختم قولها.
لكن لماذا يلجأن للإرضاع؟ “الرضاعة تحرِّم ما تحرِّمه الولادة”، كانت تلك العبارة جوهر ردّ دار الإفتاء بالأزهر، حول تحريم الطفل الذي يتم كفالته على أبوَيه وإخوته، واشترطت حصول الطفل على 5 رضعات مشبعات في سنّ الرضاعة الطبيعية، أي قبل بلوغه عامَين.
أكبر الهواجس
يعدّ توقيت إخبار الطفل بحقيقة قصته، أخطر الهواجس التي تطارد الأُسر الكافلة، يلجأ بعضهم إلى سرد القصص التربوية، وبعضهم الآخر ينتظرون عند بلوغ أطفالهم سنّ النضج، رغم أن آثار الخيار الثاني أكثر تعقيدًا.
عند بلوغ تلك المرحلة، يجب أن يكون الأهل جاهزين لاستقبال أسئلة طفلهم، فلا يصدّونه ولا يتفادون إجابته، وأن يقرّوا بعدم معرفتهم ببعض المعلومات بلا كذب ولا مداراة.
تقول الشابة اليافعة كوثر (19 عامًا)، مقيمة في فلسطين، إن التبنّي منحها حياة كريمة وآمنة، بالمقارنة مع هؤلاء الأطفال المشرّدين في الشوارع ممن لم يجدوا عائلة ترعاهم وتهتم بتربيتهم، مثلما احتضنتها أسرتها المكوَّنة من أشقاء آخرين”.
والدها المتبني أخبرها الحقيقة من خلال القصص، خاصة “بعدما بدأتُ ملاحظة الفرق بين اسمي بالأوراق الرسمية وأصدقائي بالمدرسة، لكنه يقول للناس وللأصدقاء إنني ابنة صديقه الشهيد، ما خفّفَ عني النظرات الجارحة”.
أقدّمه لأي شخص على أنه ابني بالتبني حتى أصبح يعتاد على ذلك، وعندما كبر قليلًا بدأ يفهم الأمر وبدأتُ أروي له مزيدًا من التفاصيل.
تضيف كوثر: “يلازمني قبل النوم تخيلات كثيرة لشكل أمي ووالدي، أنظر إلى النساء في الشارع وأتساءل إن كانت إحداهنّ أمي. أبحث في تفاصيل وجه كل امرأة تمرّ بجانبي، عسى أن تكون تفاصيلها تشبهني. كم تمنّيت لو أنها هي التي وضعتني في دار الأيتام، لكنت عرفتها اليوم”.
وبالعودة إلى تجربة رشا مع مصطفى، تشير إلى أنها حرصت من أول يوم تبنّت فيه مصطفى أن تكون صريحة وتحدّثه عن الكثير من قصص التبنّي وقراءة الكتب ورواية قصته، وتتابع: “أقدمه لأي شخص على أنه ابني بالتبنّي حتى أصبح يعتاد على ذلك، وعندما كبر قليلًا بدأ يفهم الأمر وبدأتُ أروي له مزيد من التفاصيل، وبالتالي لم أكذب عليه يومًا أو أخفي عنه الحقيقة، وهذا ما يجب على الأهالي القيام به”.
“يلا كفالة”
من خلال مؤسسة تديرها رشا، التي تتنقل بين مصر ومكان إقامتها في الولايات المتحدة الأميركية، تضمُّ عددًا من الأمهات، تتوحّد جهودهن عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، لتغيير الوصم المجتمعي وزيادة الوعي، والمساهمة في القضاء على أشكال التمييز بحق الأطفال المكفولين في المدارس أو النوادي الرياضية.
وتقدّم “يلا كفالة” ناديًا افتراضيًّا لدعم الأسر الكافلة، حيث تمّ تأسيس مجموعة مغلقة لمناقشة ومتابعة حالات الكفالة، والمساهمة في الدعم النفسي والاجتماعي، الذي تحتاجه الأسر الكافلة والطفل المكفول في بداية العلاقة بينهما.
كذلك الراغبون في الكفالة من الولايات المتحدة الأميركية، قدمت لهم رشا مكي، عبر موقع “يلا كفالة”، بيانًا كاملًا عمّا يحتاجونه لإتمام إجراءات الكفالة والسفر بمرافقة الطفل، بما يكفل له الأمان والاستقرار.
تتفق قوانين عدة دول عربية على رفض مصطلح التبنّي، انطلاقًا من الشريعة الإسلامية التي تبيح كفالة الأيتام (الإنفاق عليهم)، وترفض تبنّيهم ومنحهم الحقوق الكاملة للطفل البيولوجي، وأهمها حق حمل اسم الأب وحق الميراث، لمخالفة ذلك قاعدة شرعية تنطلق من الآية القرآنية “ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله”.
تؤمن الأمهات الحاضنات إيمانًا عظيمًا بأن هؤلاء الأطفال مكانهم البيوت وليس الملاجئ، ويستحقون ما يستحق كل طفل يتنفس على الأرض.
كما ينقسم مجهولو النَّسَب إلى ثلاثة: الذين فقدوا أهلهم في الحروب والمجاعات؛ والذين ضاعوا من ذويهم تحت القصف وأثناء النزوح؛ والذين تم التخلّي عنهم فتُركوا داخل المستشفيات بعد الولادة مباشرة، أو عُثر عليهم في أماكن عامة نتيجة علاقات غير شرعية.
حددت إحصاءات رسمية عدد الأطفال الذين تمّ التخلي عنهم في المغرب بأكثر من 30 ألف طفل، وفي مصر نحو 10500 ألف، وكذلك في ليبيا واليمن والعراق وسوريا في تزايد مستمر، حسب تقارير “اليونيسف”.
تؤمن تلك الأمهات الحاضنات إيمانًا عظيمًا بأن هؤلاء الأطفال مكانهم البيوت وليس الملاجئ، ويستحقون كما يستحق كل طفل يتنفس على الأرض بيوتًا آمنة وأجواء عائلية دافئة، تمنحهم على الدوام الكثير من الحب والدعم والتعليم الجيد، دون النظر إلى هويتهم، ساعيات لذلك في العمل على زيادة الوعي المجتمعي وتشجيع القادرين منهم على الكفالة.