عرفت السياسة الخارجية لتركيا في السنوات الأخيرة تحولات كبرى، حيث توجّهت أنقرة نحو شرق المتوسط وشمال إفريقيا وشرقها، ووسّعت وجودها في العراق وسوريا، وها هي الآن تتوجّه نحو منطقة الساحل والصحراء الإفريقية التي تعتبَر إلى وقت قريب امتدادًا تاريخيًّا لفرنسا، في مسعى منها إلى تحقيق أهداف اقتصادية وعسكرية.
التمدُّد نحو الساحل
تنامى التأثير التركي بشكل ملحوظ في القارة الإفريقية خلال العقد ونصف العقد السابقَين، وباتت عدة دول إفريقية في مرمى أنظار الأتراك، وجزءًا من دائرة نفوذ تركيا، بعد أن ركّزت أنقرة على توسيع رقعة نفوذها لتعزيز أهدافها على المستويَّين الاقتصادي والعسكري، تمهيدًا للاضطلاع بدور أكبر في القارة السمراء.
في السنوات الأخيرة، برزت مساعي أنقرة في تعزيز العلاقات مع عواصم الساحل، خاصة بعد تسمية أنقرة سنة 2005 “عام إفريقيا”، إذ أقامت تركيا روابط سياسية واقتصادية عبر دول المنطقة، كجزء من أجندة لتوسيع انتشارها في جميع أنحاء العالم.
هذا التمشّي بدأه رجب طيب أردوغان، في البداية كرئيس للوزراء حتى عام 2014 ومنذ ذلك الحين حتى الآن كرئيس، حيث أقام علاقات قوية مع قادة منطقة الساحل والصحراء الإفريقية، وفي إطار نشاطها الدبلوماسي افتتحت تركيا في السنوات الأخيرة سفارات لها في دول المنطقة الخمس.
إلى جانب ذلك، كثّف المسؤولون الأتراك من زياراتهم لدول الساحل والصحراء، وفي مقدمتهم الرئيس أردوغان الذي زار مالي والنيجر وموريتانيا، في حين زار رئيس تشاد السابق إدريس ديبي ورئيس بوركينا فاسو أنقرة لتعزيز التعاون بين الطرفَين.
القوة الناعمة
اعتمدت تركيا على القوة الناعمة لتعزيز مكانتها في المنطقة، فإلى جانب فتح السفارات وتبادُل الزيارات، استمالت أنقرة النُّخب الدينية، ففي مالي مثلًا شيّدت مسجدًا في حي راقٍ من العاصمة للمجلس الإسلامي الأعلى في مالي، أقوى جمعية دينية في البلاد، كما أعادت أنقرة تأهيل مسجد آخر في مسقط رأس الرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا.
قدمت تركيا المساعدة لدول المنطقة في مجالات الرعاية الصحية والمياه والتعليم.
كما قدّمت تركيا المساعدة لدول المنطقة في مجالات الرعاية الصحية والمياه والتعليم، حيث قامت ببناء مستشفيات في باماكو (تمّ الانتهاء منها عام 2018) ونيامي (عام 2019)، وأرسلت عيادات متنقّلة إلى بلدات إقليمية في مالي مثل كوليكورو وسيكاسو.
وافتتحت العديد من المشاريع مثل المدارس الابتدائية والثانوية والفنية، ودار أيتام، وحدائق الصداقة، وآبار مياه، والزراعة الحديثة، وتوفِّر المؤسسات التركية الحكومية والأهلية رعاية صحية مجانية، وتوزِّع الطعام على شعب المنطقة.
وتلعب عدة مؤسسات تركية، على غرار الوكالة التركية للتعاون الدولي والتنمية “تيكا”، وإدارة الكوارث والطوارئ “أفاد”، ومعهد يونس إمره ووقف معارف؛ دورًا بارزًا في تنمية الوجود التركي في إفريقيا، إذ تدخلت هذه المؤسسات لتحسين وصول سكان الريف إلى التعليم الديني والمياه.
خلال أزمة كورونا الأخيرة، تدفّقت المساعدات التركية بأشكالها المختلفة لدول المنطقة، على سبيل المثال تمّ شحن مجموعة واسعة من المعدات الطبية، بما في ذلك 50 ألف قناع جراحي و30 ألف قناع من نوع “إن 95” و2000 نظارة واقية، بالإضافة إلى مساعدات إغاثية وغذائية للنيجر وتشاد وموريتانيا.
كما انخرطت الشركات التركية في معاضدة مجهودات الدولة في تعزيز مكانتها في دول الساحل والصحراء، حيث وقّعت شركة كاليون التركية مع حكومة مالي سنة 2019 على عقدٍ لإنشاء نظام نقل حضري في عاصمة البلاد، كما شهدت السنة نفسها افتتاح مطار ديوري حماني الدولي في العاصمة النيجر نيامي، بعد تجديده من قبل شركة تركية.
تعاون عسكري
فضلًا عن القوة الناعمة، اعتمدت تركيا على التعاون العسكري لدعم نفوذها في منطقة الساحل والصحراء، فخلال زيارته إلى موريتانيا في مارس/ آذار 2018، تعهّد الرئيس أردوغان بتقديم 5 ملايين دولار كمساعدة مالية لجهود مكافحة الإرهاب في مجموعة الدول الخمس.
ومجموعة دول الساحل، هي تجمُّع إقليمي للتنسيق والتعاون، يضمّ دول: موريتانيا، وبوركينا فاسو، ومالي، وتشاد، والنيجر، تأسَّس عام 2014، ويهدف إلى مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية، وفق ما يعرّف التجمّع نفسه.
في 26 يوليو/ تموز 2018، وقّعت تركيا اتفاقية تعاون عسكري مع النيجر -وهي الدولة الرئيسية في منطقة الساحل الإفريقي وأيضًا الجارة الجنوبية لليبيا-، وتنصّ الاتفاقية المذكورة على إنشاء القوات المسلحة التركية قاعدة عسكرية في النيجر، وستباشر بتدريب جيش النيجر.
تتَّهم فرنسا في دولة مالي مثلًا بسرقة خيرات البلاد والتحكم في قرار دولتهم السيادي، ما انعكس على صورة باريس هناك.
وتأمل أنقرة في تدعيم نفوذها من خلال تقديم جميع أشكال الدعم المادي واللوجستي لجيوش دول المنطقة، التي تأمل في الارتقاء بقدراتها العسكرية، وتمكينها من الاضطلاع بمهامّ حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة.
منافسة النفوذ الفرنسي
تعتبَر منطقة الساحل امتدادًا تاريخيًّا لفرنسا، إلا أن النفوذ الفرنسي في هذه الدول الإفريقية بدأ ينحسر شيئًا فشيئًا لصالح قوى إقليمية أخرى، على غرار تركيا التي تتمدد هناك بسرعة كبيرة، إذ يرى فيها سكّان تلك المنطقة أنها أقرب إليهم لرابط الدين، وأيضًا لعدم استعمالها الجيش ومظلة الإرهاب للدخول هناك.
تراجُع هذا النفوذ يعود لعدة أسباب، فشعوب المنطقة أصبحوا يمقتون باريس باعتبارها دولة استعمارية قديمة، ففرنسا تحضر ظاهريًّا في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب والحدّ من الهجرة غير النظامية، لكنها في الواقع تعمل على استغلال ثروات المنطقة.
وتتَّهم فرنسا في دولة مالي مثلًا بسرقة خيرات البلاد والتحكم في قرار دولتهم السيادي، ما انعكس على صورتها هناك، ففي فبراير/ شباط 2013، استقبل المئات من السكّان المحليين في مدينة تمبوكتو الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في المطار بدفء، رافعين لافتة كبيرة عليها عبارات شكر لفرنسا وزعيمها، لكن بعد 8 سنوات من ذلك الاستقبال، شهدت مدن وقرى مالي مظاهرات شعبية كبيرة رفضًا للوجود الفرنسي هناك.
خشية فرنسا ليس من هذه المظاهرات فقط، بل من التمدد الاستراتيجي التركي في منطقة الساحل المحسوبة تقليديًّا ضمن “فلك” نفوذ باريس، وسبق أن اتّهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تصريح لمجلة “جون أفريك”، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، تركيا بالسعي “إلى تعزيز المشاعر المعادية لفرنسا في إفريقيا”.
ويحظى النشاط التركي في منطقة الساحل بترحيب كبير من شعوب المنطقة التي تجمعهم معها قواسم مشتركة أكثر من فرنسا، فأنقرة لا تفرض شروطًا عليهم لتقديم يد المساعدة لهم، ولا تنهب ثرواتهم ولا تتحكم في قرارهم السيادي كما تعمل فرنسا منذ عقود.
استغلت أنقرة حاجة دول المنطقة إلى تنويع التحالفات، وإلى وسيط أكثر نشاطًا في حلّ النزاعات، حتى تتمدّد أكثر هناك، ما يزيد من مخاوف فرنسا وخشيتها، خاصة أنها خسرت أغلب حروبها مع تركيا في الفترة الأخيرة، كما حصل في ملفات شرق البحر المتوسط وليبيا.
تنظر باريس إلى تطوير تركيا علاقاتها مع دول الساحل بعين الريبة، خاصة في ظلِّ فشل عملياتها العسكرية في المنطقة في القضاء على الحركات المسلحة هناك، حيث قادت فرنسا عملية سيرفال (عام 2013) التي انتقدتها تركيا في حينه، وفشلت في كسب التأييد الشعبي.