ترجمة وتحرير نون بوست
وثقت صحيفة “واشنطن بوست” في سلسلة تقارير تتكون من 6 أجزاء بعنوان “الحرب مع الحقيقة“، وترجمها “نون بوست”، تمادي الإدارة الأمريكية وقياداتها العسكرية في قول الأكاذيب وتضليل الرأي العام طوال الحملة العسكرية التي استمرت 18 سنة في أفغانستان، وذلك عبر اختلاق الأدلة وتحريف الإحصائيات وقمع الانتقادات اللاذعة والشكوك حول الحرب، لجعل الولايات المتحدة تبدو وكأنها تكسب الحرب بينما لم يكن الأمر كذلك على أرض الواقع.
إليك نص الجزء الثالث من هذه السلسلة:
لقد قطع كل من جورج دبليو بوش وباراك أوباما ودونالد ترامب الوعد نفسه ألا وهو أن الولايات المتحدة لن تبتلي نفسها بعبء “بناء الدولة” في أفغانستان. ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2001، وبعد وقت قصير من إصدار أمر للقوات الأمريكية بغزو البلاد، قال بوش إنه سيدفع الأمم المتحدة “لتولي ما يسمى ببناء الدولة”. وبعد ثماني سنوات، أصر أوباما على أن حكومته لن تنخرط في “مشروع بناء دولة” مطول. وبعد ثماني سنوات من ذلك، قطع ترامب عهدًا مشابهًا مفاده: “نحن لن ننخرط في مهمة بناء الدولة من جديد”. لكن عملية بناء الدولة هي بالضبط ما حاولت الولايات المتحدة القيام به في أفغانستان التي مزقتها الحرب – وقد فعلت ذلك على نطاق هائل.
منذ سنة 2001، أنفقت واشنطن في سبيل بناء الدولة في أفغانستان مبالغ فاقت أي بلد آخر، حيث خصصت 133 مليار دولار موزّعة على جهود إعادة الإعمار وبرامج المساعدات وتدريب قوات الأمن الأفغانية. بتعديل هذه القيمة وفقًا للتضخم، فإن ذلك يفوق ما أنفقته الولايات المتحدة في أوروبا الغربية في إطار مشروع مارشال عقب الحرب العالمية الثانية.
على عكس مشروع مارشال، فإن مشروع بناء الدولة الباهظ في أفغانستان قد انحرف عن مساره منذ البداية، وازدادت الأمور سوءًا مع استمرار الحرب، وذلك وفقًا لما أشارت إليه مجموعة من المقابلات الحكومية السرية مع الدبلوماسيين والمسؤولين العسكريين وعمال الإغاثة الذين لعبوا دورًا مباشرًا في الصراع.
قال المشاركون في المقابلات إنه بدلاً من تحقيق الاستقرار والسلام، قامت الولايات المتحدة عن غير قصد ببناء حكومة أفغانية فاسدة ومفككة لا تزال تعتمد على القوة العسكرية الأمريكية من أجل ضمان بقائها. وأملا في عدم انهيارها، قال المسؤولون الأمريكيون إنها ستحتاج إلى مليارات الدولارات الإضافية من المساعدات سنويًا على مدى عقود.
تحدث الأفراد الذين تمت مقابلتهم بصراحة تامة ظنًا منهم أن معظم تصريحاتهم لن تُنشر على الملأ، حيث قالوا إن واشنطن حاولت بحماقة إعادة ابتكار أفغانستان على صورتها من خلال فرض ديمقراطية مركزية واقتصاد السوق الحر على مجتمع قبلي غير مناسب لكلا النظامين.
أشاروا إلى أن الكونغرس والبيت الأبيض جعلوا الأمور أسوأ بإغراقهم البلد المعدم بأموال أكثر بكثير مما يمكن أن يستوعبه. وخلال فترة ولاية أوباما الأولى، بلغ الأمر ذروته بزيادة عدد القوات الأمريكية في منطقة الحرب إلى 100 ألف. وفي هذه المقابلات الحكومية، قال ديفيد مارسدن، المسؤول السابق في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية: “خلال فترة ذروة مضاعفة أعداد القوات، كانت هناك موارد بشرية ومالية هائلة تذهب إلى أفغانستان. كان هذا الأمر أشبه بسكب الكثير من الماء من خلال قمع: إذا حاولت صبه بسرعة كبيرة، سينتهي الأمر بفيضان الماء وإغراق القمع تمامًا. لقد كنا نحن نغرق البلاد”.
فتيات من قرية غومايبايان ماهناو الشمالية الشرقية يشاهدن عمال الأمم المتحدة وهم يفرغون بطاقات الاقتراع قبيل الانتخابات الرئاسية في تشرين الأول/ أكتوبر 2004.
تخرّج الدفعة الأولى من ضابطات الجيش في كابول اأفغانية في سنة 2010.
وفقًا لبعض المقاييس، تحسنت الحياة في أفغانستان بشكل ملحوظ منذ سنة 2001، حيث انخفضت معدلات وفيات الأطفال، وارتفع عدد الأطفال الملتحقين بالمدرسة بشكل كبير، وتضاعف حجم الاقتصاد الأفغاني خمس مرات تقريبًا. أما من نواح عديدة أخرى، تمخّضت عن مشروع بناء الدولة الأمريكي نتائج عكسية لدرجة دفعت المدافعين عن المساعدات الخارجية للتساؤل عما إذا كان بإمكان أفغانستان من الناحية النظرية أن تكون أفضل حالًا دون أي مساعدة من الولايات المتحدة على الإطلاق، وذلك حسب سجلات المقابلات.
قال مايكل كالين، الخبير الاقتصادي بجامعة كاليفورنيا في سان دييغو والمتخصص في القطاع العام الأفغاني، خلال مقابلات الحكومة: “في الحقيقة، إن نذير الشؤم واضح الآن. لقد أنفقنا الكثير من المال ولم يثمر عن ذلك أي شيء يذكر“. ألقى كالين وآخرون غيره باللوم على جملة من الأخطاء التي ارتكبت مرارًا وتكرارًا على مدار 18 سنة – منها التخطيط العشوائي والسياسات المضللة والخلافات البيروقراطية. وأكد كثيرون أن الاستراتيجية الشاملة لبناء الدولة قد قُوضت بشكل أكبر بسبب الغطرسة وقلة الصبر والجهل والاعتقاد بأن المال قادر على إصلاح أي شيء.
أضافوا أن الكثير من الأموال انتهى بها المطاف في جيوب المتعاقدين أو المسؤولين الأفغان الفاسدين، في حين كانت المدارس والعيادات والطرق التي تمولها الولايات المتحدة في حالة سيئة، هذا إن بنيت أصلا. من ناحية أخرى، قال البعض إن النتيجة كانت متوقعة مشيرين إلى سجل الولايات المتحدة للتدخلات العسكرية في دول أخرى – العراق وسوريا وليبيا واليمن وهايتي والصومال – على مدى ربع القرن الماضي.
أوضح ستيفن هادلي، الذي عمل مستشارًا للأمن القومي في البيت الأبيض في عهد بوش، خلال مقابلات الحكومة: “ليس لدينا نموذج ناجح لتحقيق الاستقرار ما بعد الصراع. في كل مرة ننخرط بها في واحدة من هذه الصراعات، فإننا نلعب لعبة حظ. ليس لدي أي ثقة بأننا سنبلي بلاءً أفضل إذا حاولنا ذلك مرة أخرى“.
لقد تم توثيق المشكلات التي تعاني منها العديد من برامج إعادة الإعمار في أفغانستان على نحو جيد، لكن سجلات المقابلات التي حصلت عليها صحيفة “واشنطن بوست” تحتوي على روايات جديدة من المطلعين بخصوص كل ما سار بشكل خاطئ.
في مقابلته، قال دوغلاس لوت، وهو جنرال بالجيش خدم كقيصر حرب أفغانستان في البيت الأبيض ما بين 2007 وحتى 2013، إنه “من حين لآخر، لا بأس بأن نفرط بالإنفاق. نحن دولة غنية، ويمكننا ضخ الأموال في حفرة دون أن يفلس البنك. لكن هل هذا يعني أن علينا فعل ذلك؟ ألا يمكننا أن نكون أكثر عقلانية حيال هذا الأمر؟“.
في تصريحات رددها مسؤولون آخرون لعبوا دورا أساسيا في الحرب، قال لوت إن الولايات المتحدة أغدقت الأموال على مشاريع السدود والطرق السريعة لمجرد “إثبات قدرتنا على فعل ذلك” فقط، مدركين تمامًا أن الأفغان، الذي يصنفون من بين أفقر الناس وأقلهم تعليماً في العالم، لن يستطيعوا أبدا إدامة مثل هذه المشاريع الضخمة للبنية التحتية.
أضاف لوت أن “أحد الأمثلة الصارخة على ذلك هو حفل قص شريط الافتتاح، الذي كان مكتملا بمقص عملاق، حضرته مع قائد شرطة منطقة في مقاطعة منبوذة“. وقد ذكر لوت كيف أشرف سلاح المهندسين التابع للجيش الأمريكي على تصميم وبناء مقر للشرطة يتميز بواجهة زجاجية وقاعة رئيسية ضخمة قائلا: “لم يتمكن قائد الشرطة حتى من فتح الباب. لم يسبق له أن رأى مقبض باب كهذا. بالنسبة لي، فإن ذلك يلخص التجربة برمتها في أفغانستان“.
منذ بدء الحرب، لطالما ناقش المسؤولون الأمريكيون – وشجبوا – تكلفة إعادة بناء أفغانستان. في سنة 2008، مع تراكم تقارير الاحتيال والإنفاق المفرط، أنشأ الكونغرس وكالة مراقبة لمتابعة الأموال. ومنذ ذلك الحين، أجرى مكتب المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان (سيغار) ما يزيد عن ألف عملية مراجعة وتدقيق، وكشف عن مشاريع مهدرة، وسلّط الضوء على ملياريّ دولار كان من المحتمل توفيرها.
في سنة 2014، أطلقت هيئة سيغار مشروعًا خاصًا قيمته 11 مليون دولار – بعنوان “الدروس المستفادة” – لتحليل فشل السياسات في أفغانستان، حيث أجرى موظفو الوكالة مقابلات مع أكثر من 600 شخص ممن لهم تجربة مباشرة مع الحرب. وتحت عنوان المشروع، نشر مكتب سيغار تقريران ركزا على بناء الدولة، لكنهما كانا غارقين في الرطانة وحذفا أكثر التصريحات أهمية من المقابلات.
استنتج تقرير صدر في نيسان/ أبريل 2018 عن تنمية القطاع الخاص الأفغاني أن “تقديم الحكومة الأمريكية للدعم المالي المباشر أدى في بعض الأحيان إلى إنشاء مؤسسات معالة ومثبطات للأفغان للاقتراض من المؤسسات المالية القائمة على السوق. علاوة على ذلك، غالبًا ما أثر التنسيق القاصر داخل وفيما بين الوكالات المدنية والعسكرية التابعة للحكومة الأمريكية بشكل سلبي على نتائج البرامج”.
في واحدة من مئات المقابلات التي أجراها مشروع “الدروس المستفادة” التي حصلت عليها “واشنطن بوست”، زعم روبرت فين، الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة في أفغانستان من سنة 2002 إلى 2003، أن مسؤولي إدارة بوش رفضوا تحذيراته المبكرة من أنهم بحاجة إلى بذل المزيد من الجهد لتحقيق الاستقرار في أفغانستان.
حيال هذا الشأن، قال فين إن “هذه مشكلة منهجية في حكومتنا. لا يسعنا التفكير في مستقبل أبعد من الانتخابات القادمة. عندما ذهبنا إلى أفغانستان، كان الجميع يتحدثون عن قضاء سنة أو سنتين هناك، لكني قلت لهم إننا سنكون محظوظين إذا خرجنا منها خلال 20 سنة”.
من بين الرؤساء الثلاثة، لربما كان بوش آخر من يتوقع انخراطه في بناء الدولة. وعندما قام بأول حملة انتخابية لمنصب الرئاسة، سخر بوش من إدارة كلينتون لالتزامها بـ “ممارسات بناء دولة” غير شعبية في الصومال وهايتي. وقال خلال مناظرة مع المرشح الديمقراطي آل جور في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من سنة 2000: “لا أعتقد أنه يجب استخدام قواتنا في ما يسمى ببناء الأمة. بل أعتقد أنه ينبغي علينا استخدام قواتنا للقتال والفوز بالحرب”.
بعد مرور سنة، أمر بوش القوات الأمريكية بغزو أفغانستان. وانتصرت القوات في ساحة المعركة بسرعة. واستغرق التعامل مع التداعيات وقتا أطول مما كان متوقعا. فلا توجد أمة بحاجة إلى بناء أكثر من أفغانستان، فهي فقيرة للغاية ومستنزفة من الحروب المستمرة منذ سنة 1979، عندما احتلها الاتحاد السوفيتي.
قلة من الأفغان يعرفون الكثير عن العالم الخارجي، فقد كانت الغالبية العظمى منهم من الأميين. وقد حظرت حركة طالبان، وهي حركة دينية متعصبة، العديد من السمات المميزة للحضارة الحديثة بما في ذلك التلفزيون والآلات الموسيقية والمساواة في الحقوق للمرأة.
حسب ما أفاد به جوردان سلمان، الذي قضى عدة سنوات في أفغانستان يعمل لصالح الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، خلال المقابلات الحكومية: “كنا نتعامل مع أجزاء من مجتمع يعتقد أن الملك لا يزال في السلطة، ولم يعرفوا أبدا أن الروس قد دخلوا البلاد، أو أن الأمريكيين كانوا هناك. لم يستخدموا حتى العملة، بل كانوا يقايضون الأشياء. كنا نجلب أشياء من القرن الحادي والعشرين إلى مجتمع يعيش في فترة زمنية مختلفة“.
أولاد يلعبون كرة القدم في سنة 2005 في مسبح فارغ من الحقبة السوفيتية دمرته الحرب في كابول.
إدراكا منها لخطاب حملة بوش، حاولت إدارته في البداية تجنب تحمل مسؤولية إعادة إعمار أفغانستان، وذلك وفقا لأشخاص أُجريت معهم مقابلات في إطار مشروع “الدروس المستفادة”. في المقابل، حاولت الإدارة إقناع الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي ودول أخرى بتولي زمام هذه المهمة الإنسانية وإعادة بناء الدولة. ووافقت الولايات المتحدة على المساعدة في تدريب جيش أفغاني جديد لكنها سعت لإبقائه محدود العدد، لأن البنتاغون ووزارة الخارجية لم يرغبا في تحمل التكاليف على المدى الطويل.
مع ذلك، قال المسؤولون الذين أُجريت معهم مقابلات في إطار مشروع “الدروس المستفادة” إن إدارة بوش أدركت في النهاية أن من واجبها مساعدة أفغانستان في بناء اقتصاد جديد من الصفر. وعلى الرغم من أن أفغانستان لم تكن لديها خبرة بالأسواق الحرة، إلا أن الولايات المتحدة ضغطت على الأفغان لتبني أسلوب الرأسمالية الأمريكية.
لكن العديد من المسؤولين الأمريكيين أخبروا المحاورين الحكوميين أنه سرعان ما أصبح جليا أن الأشخاص الذين سيشكلون الطبقة الحاكمة الأفغانية كانوا أكثر استعدادا لتغيير استراتيجياتهم.
ذكر السفير السابق فين أن “هؤلاء الناس تلقوا تعليمهم في المدرسة الشيوعية“. وأشار إلى أن المخاوف الأفغانية المشتركة كانت تتمثل في أنه “إذا سمحت للرأسمالية بالصعود، فإن هذه الشركات الخاصة ستواكب الوضع وتحقق أرباحًا“.
أورد ريتشارد كريمر، كبير مسؤولي البرامج السابق لأفغانستان في الصندوق الوطني للديمقراطية، لمحاوري الحكومة إن البيروقراطيين الأفغان “يؤيدون النهج الاشتراكي أو الشيوعي لأن هذه هي الطريقة التي تذكروا بها الأشياء في آخر مرة عمل فيها النظام“. فقد حكم الشيوعيون أفغانستان من سنة 1978 حتى سنة 1992.
لكن كريمر يعقد أن المسؤولين الأمريكيين يتميزون بنفس الفكر المحدود: “كانت لدينا جميع النوايا الحسنة بيد أننا كنا متغطرسين كثيرا. وقد أدى الالتزام العقائدي بمبادئ السوق الحرة إلى عجزنا عن تبني نهج دقيق ومتوازن إزاء ما تحتاجه أفغانستان“.
عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد، قال آخرون إن الولايات المتحدة تعاملت في كثير من الأحيان مع أفغانستان باعتبارها دراسة قضية نظرية وكان ينبغي لها أن تطبق المزيد من المنطق السليم بدلا من ذلك. لهذا السبب، أصر المانحون على إنفاق جزء كبير من المساعدات على قطاع التعليم، على الرغم من أن أفغانستان – بلد مزارعي الكفاف – توفر مواطن شغل لعدد قليل من خريجي الجامعات.
قال ضابط من القوات الخاصة في المقابلات الحكومية: “كنا نبني المدارس الجديدة بجوار المدارس الخالية، ولم يكن ذلك منطقيا“، مشيرا إلى أن السكان الأفغان المحليين أوضحوا “أنهم لا يريدون المدارس حقا. وقالوا إنهم يريدون أن يترعرع أطفالهم على تربية الماعز“.
طلاب في جلال أباد شرقي أفغانستان في سنة 2012
علاوة على ذلك، أصر المسؤولون الأمريكيون والأوروبيون على أن تتبنى أفغانستان التجارة الحرة، على الرغم من أنه ليس لديها أي شيء تقريبا للتصدير. حيال هذا الشأن، قال مسؤول أفغاني في مقابلة أجريت معه في إطار مشروع “الدروس المستفادة” في شهر آذار/ مارس سنة 2017: “ما الذي يمكننا بيعه؟ بضع حبات من العنب هنا أو شيء من هذا القبيل”.
ذكر المستشار السابق للأمم المتحدة ووزارة الخارجية، بارنيت روبين، إن السياسات الاقتصادية التي ربما كانت ستساعد أفغانستان على تجاوز عتبة الفقر ببطء، على غرار مراقبة الأسعار والإعانات الحكومية، لم يتم أخذها بعين الاعتبار من طرف المسؤولين الأمريكيين الذين اعتبروها غير متوافقة مع الرأسمالية.
حسب ما أفاد به روبن، الأستاذ بجامعة نيويورك والأكاديمي البارز في شؤون أفغانستان، في المقابلات الحكومية: “إن فكرة وجود أسواق تعمل بشكل مثالي في البلدان النامية دون تلقي الدعم تعتبر محض خيال ووهم. فكل بلد متأخر التنمية أصبح كذلك بسبب انتقاء الحكومة للفائزين“.
لم يتطلب الأمر عالِما سياسيا من رابطة اللبلاب ليستنتج أن أفغانستان بحاجة إلى نظام حكم أفضل. فقد كانت البلاد ممزقة من قبل القبائل المتنازعة وأمراء الحرب الحاقدين، كما كان لها تاريخ متقلب من الانقلابات والاغتيالات والحروب الأهلية.
أقنعت إدارة بوش الأفغان بتبني الحل المتمثل في مبادرة “صُنع في أمريكا” – ديمقراطية دستورية مع رئيس منتخب عن طريق التصويت الشعبي. وفي العديد من النواحي، كانت الحكومة الجديدة المنتخبة تشبه نسخة العالم الثالث لواشنطن. فقد تركزت السلطة في العاصمة كابول ونشأت بيروقراطية فيدرالية في جميع الاتجاهات زُرعت بالدولارات وجحافل المستشارين الغربيين. وفي ظل الوصاية الأمريكية، انفتح المسؤولون الأفغان على مفاهيم وأدوات جديدة: عروض تقديمية عبر “باوربوينت”، ورسالة المنظمة، واجتماعات أصحاب المصلحة، وحتى أجندات المواعيد.
مع ذلك، كانت هناك اختلافات مصيرية. بموجب الدستور الجديد، يتمتع الرئيس الأفغاني بصلاحيات أكبر بكثير من البرلمان والقضاء، كما يحق له تعيين جميع حكام المحافظات. باختصار، تفرد الرئيس بالسلطة. وفي الواقع، يتعارض نظام الحكم الصارم المصمم من قبل الولايات المتحدة مع التقاليد الأفغانية، المتمثلة في مزيج من السلطة اللامركزية والعادات القبلية. ولكن مع هزيمة أفغانستان وانهيارها، أصبح الأمريكيون صناع القرار هناك.
قال مسؤول في الاتحاد الأوروبي، لم يُذكر اسمه، في مقابلة أجريت معه في إطار مشروع “الدروس المستفادة”: “بعد فوات الأوان، كانت مركزية السلطة أسوأ قرار يتم اتخاذه“. وردد مسؤول ألماني هذه النقطة قائلا “بعد سقوط طالبان، كان يعتقد أن أفغانستان بحاجة إلى رئيس على الفور، ولكن هذا الاعتقاد كان خاطئا“.
أفاد مسؤول مجهول الهوية في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بأنه دهش من أن وزارة الخارجية تعتقد أن اتباع نظام رئاسي على النمط الأمريكي سينجح: “قد تعتقد أنهم لم يعملوا في الخارج قط. لماذا أنشأنا حكومة مركزية في مكان لم يحتضن من قبل هذا النوع من الحكومات؟”.
يكمن السبب الأهم في أن قادة الولايات المتحدة كان لديهم مرشح أفغاني محتمل للرئاسة. ويُدعى هذا الحاكم، حامد كرزاي، وهو زعيم قبلي من جنوب أفغانستان، ينتمي إلى أكبر مجموعة عرقية في البلاد، والتي يُطلق عليها اسم “البشتون”. وربما الأهم من ذلك، أن كرزاي كان يتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة وكان عميلا لدى وكالة المخابرات المركزية. وفي سنة 2001، أنقذ جاسوس أمريكي حياته، ومن المقرر أن تبقي وكالة المخابرات المركزية كرزاي على قائمة أولوياتها لسنوات قادمة.
حراس في القصر الرئاسي في كابول في سنة 2014.
الرئيس حامد كرزاي خلال مقابلة في سنة 2014 مع صحيفة “واشنطن بوست” في كابول.
من وجهة نظر الأمريكيين، كان نظام الحكم الجديد بقيادة كرزاي ناجحا في البداية. وفي سنة 2004، بعد أن شغل منصب الزعيم المؤقت، انتُخب كرزاي رئيسا في أول انتخابات ديمقراطية وطنية في أفغانستان. وأقام علاقة شخصية مع الرئيس بوش، حيث أجرى الزعيمان محادثات متكررة عبر الفيديو.
لكن العلاقات بين الطرفين توترت تدريجيا. فقد أصبح كرزاي صريحا في انتقاده للجيش الأمريكي بشأن تصاعد الضربات الجوية والغارات الليلية التي تسببت في سقوط ضحايا مدنيين وعزلت الكثير من السكان. وفي غضون ذلك، غضب المسؤولون الأمريكيون عندما أبرم كرزاي صفقات مع أمراء الحرب ووزع المحافظات عليهم كغنائم سياسية.
قال هادلي، مستشار الأمن القومي لدى إدارة بوش، في المقابلات الحكومية: “بعد سنة 2005، كنت أظن أن أمراء الحرب عادوا لأن كرزاي أراد عودتهم ولم يكن يفقه سوى في نظام المحاباة. لم يُبايَع كرزاي قط على الديمقراطية ولم يعتمد على المؤسسات الديمقراطية“.
في المقابلات الحكومية، قال ريتشارد باوتشر، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية في عهد بوش وشغل في وقت لاحق منصب كبير الدبلوماسيين لشؤون جنوب آسيا، إن حدس كرزاي في الحكم “كان يعتمد على أصدقائه. وهذه هي الطريقة التي تعمل بها أفغانستان – بالاعتماد على أصدقائه وأنصاره والحكام المحليين، أي السلطات المفترضة، وليس فقط القوى التي أنشأها الأمريكيون“. وأضاف باوتشر أنه “كان من الصعب حقا جعله يتبنى الهيكل الإداري الذي وضعناه، والذي أخبرناه أنه يجب أن يستخدمه. لقد أخبرناه بأنه يتعين عليه العمل من خلال هذا النظام الديمقراطي البيروقراطي كما هو الحال في الولايات المتحدة“.
من اليسار، مسؤول الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، جيمس بيفر، وكرزاي، ووزير الخارجية الأفغاني عبد الله عبد الله، والسفير الأمريكي زلماي خليل زاد يراجعون خرائط مشاريع بناء الطرق في اجتماع في سنة 2004 في كابول.
في سنة 2009 أعيد انتخاب كرزاي متجنبا بصعوبة جولة إعادة الانتخابات بفضل حملة شراء الأصوات الضخمة التي شوهت النتيجة. أصيب العديد من المسؤولين الأمريكيين بالفزع وضغطوا من أجل إجراء تحقيق مستقل، واتهم كرزاي بدوره إدارة أوباما سرا بانتهاك السيادة الأفغانية والتخطيط للإطاحة به من السلطة. في النهاية، تخلى المسؤولون الأمريكيون عن اعتراضاتهم، وبنوا الدولة الجديدة ووضعوا كرزاي على رأسها.
بعد أسابيع قليلة من إعادة انتخاب كرزاي، أعلن أوباما أنه سيرسل 30 ألف جندي أمريكي إضافي إلى منطقة الحرب كجزء من استراتيجية جديدة لهزيمة طالبان وتعزيز الدولة الأفغانية. في خطاب ألقاه في كانون الأول/ ديسمبر 2009 في الأكاديمية العسكرية الأمريكية في ويست بوينت في نيويورك، أخبر أوباما الأمريكيين أن هذا لا يعني تمديدا طويلا لحملة بناء الدولة التي استمرت بالفعل لمدة ثماني سنوات.
قال أوباما: “يدعو البعض إلى تصعيد أكثر دراماتيكية وانفتاحا لجهودنا الحربية، وهو تصعيد من شأنه أن يلزمنا بمشروع بناء دولة لمدة تصل إلى عقد من الزمان. لا يمكن أن يكون التزام قواتنا في أفغانستان غير محدد المدة، لأن الدولة التي أهتم ببنائها أكثر من غيرها هي دولتنا”.
خلال جلسة استماع في حزيران/ يونيو 2010 في مبنى الكابيتول هيل، سئل الجنرال في الجيش ديفيد بترايوس من قبل المشرعين المتشككين حول ما إذا كانت الولايات المتحدة تبني دولة في أفغانستان. أجاب بترايوس، الذي كان في ذلك الوقت قائد القيادة المركزية الأمريكية: “نحن نفعل ذلك بالفعل. لن أتهرب من ذلك وألجأ إلى الحيل البلاغية”.
في الواقع، كان حجر الزاوية في استراتيجية أوباما لمكافحة التمرد هو بناء الحكومة الأفغانية بسرعة فائقة، وإنفاق مبالغ غير مسبوقة من الخزانة الأمريكية. كان بترايوس وقادة أميركيون آخرون يراهنون على أن الشعب الأفغاني سوف يوقف الدعم لطالبان في حال شعر أن حكومة كرزاي قادرة على حمايته ومدّه بالخدمات الأساسية، لكن كانت هناك عقبتان كبيرتان.
أولا، لم يكن هناك متسع من الوقت لكي تنجح استراتيجية مكافحة التمرد، إذ أمهل أوباما البنتاغون 18 شهرا فقط لتغيير مسار الحرب قبل أن يقرر إعادة القوات إلى الوطن. ثانيا، لم يكن هناك أي وجود حكومي في معظم أنحاء أفغانستان، في البداية. وحيثما كان هناك وجود حكومي، غالبا ما كان فاسدا ومكروها من قبل السكان المحليين.
نتيجة لذلك، أمرت إدارة أوباما الجيش ووزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والمتعاقدين معهم بتشكيل الحكومة الأفغانية في أسرع وقت ممكن. وفي ساحة المعركة، أُعطي الجنود وعمال الإغاثة شيكا على بياض افتراضيا لبناء المدارس والمستشفيات والطرق لكسب ولاء الشعب.
حيال هذا الشأن، قال ضابط في الجيش الأمريكي لم يتم الكشف عن هويته للمحاورين الحكوميين: “كان بترايوس عازما بشدة على صرف الأموال لحل المشكلة، وأينما كان متواجدا، كان كل التركيز منصبا على الإنفاق، لأنه كان يريد تشغيل الأفغان”.
عمال صيانة الطرق في كابول في سنة 2013
اشتكى مسؤول في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، لم يذكر اسمه، من أنه دائمًا ما كان يُسأل “كم تنفق؟” بدلًا من “هل تربح المعركة؟” وأضاف: “كنا دائمًا نسعى وراء المستحيل ودائمًا في الخلف، ولم نكن جيّدين كفاية“. قال عامل إغاثة آخر لم يتم الكشف عن هويته للمحاورين إن وتيرة العمل غير واقعية وغير مستدامة: “كان من الصعب مساعدة منطقة كانت متخلفة لمائة عام على التقدّم في غضون بضع سنوات”.
خلال إحدى مقابلات الدروس المستفادة، أقر بترايوس باستراتيجية التبذير، لكنه قال إن الجيش الأمريكي ليس لديه خيار نظرا للأمر الذي أصدره أوباما للشروع في عكس التقدّم في 2011. وقال بترايوس: “ما حرّك الإنفاق هو الحاجة إلى ترسيخ المكاسب بأسرع ما يمكن، علما بأنه كان لدينا جدول زمني ضيق للانسحاب. وانتهى بنا الأمر بالإنفاق بشكل أسرع مما كنا سنفعله إذا شعرنا أن لدينا قوى لمدة أطول مما كان لدينا“.
وسط سرعة الإنفاق، أهدرت الوكالات الأمريكية مبالغ كبيرة من المال على مشاريع وهمية لم تتحقّق أبدا. كان تيم غريسوسكي ضابطًا في جيش الاحتياط البحري أشرف على مشاريع التنمية الاقتصادية في جنوب أفغانستان ما بين 2009 و2010. وعندما وصل إلى أفغانستان، أخبر المحاورين الحكوميين أنه كان عليه البحث عن مشروع بمساحة 37 فدانا بدا أنه موجود فقط على الورق.
قبل وصول غريسوسكي لأفغانستان، وقّعت الحكومة الأمريكية عقودا بقيمة 8 ملايين دولار لبناء منطقة صناعية بالقرب من قندهار لفائدة 48 شركة. لكن بعد مراجعة الملفات، قال غريسوسكي إنه لم يتمكن حتى من العثور على الموقع. وأضاف: “لقد أذهلني مدى عدم معرفتنا بالمكان في المقام الأول عندما شرعنا في هذا المشروع، لقد كان من المستحيل الحصول على معلومات عنه أو عن موقعه. لم يكن أي أحد يعرف أي شيء عنه”. وذكر غريسوسكي إنه عندما حدد موقع العقار أخيرا، لم يجد هناك أي مبان، بل فقط بعض الشوارع الخالية وأنابيب الصرف الصحي.
يتذكر غريسوسكي: “لا أعرف من فعل ذلك، لكنني اعتقدت أنه ما دام الموقع موجودا، فعلينا أن نحاول استخدامه“. على الرغم من الجهود المبذولة لإحياء المشروع – على حد قوله – إلا أنه “انهار” بعد مغادرته في سنة 2010. زار المدققون الأمريكيون الموقع بعد أربع سنوات ووجدوا أنه مهجور إلى حد كبير، حيث كانت هناك شركة واحدة لبيع الأيس كريم تعمل فيه.
روح الله نوري في سنة 2015 في منطقة التبريد التابعة لشركة الآيس كريم التي يديرها في قندهار، حيث أثبت نقص الكهرباء أنه يمثل تحديا لأعماله.
حاولت الحكومة الأمريكية بكل شجاعة ربط المنطقة الصناعية بمشروع أكثر طموحا لبناء الدولة، وهو مشروع توليد الكهرباء لقندهار ثاني أكبر مدينة في أفغانستان – والمناطق المحيطة بها. عانت قندهار، التي تعيق تقدّمها شبكة كهربائية بدائية، من نقص الطاقة. رأى القادة العسكريون الأمريكيون فرصة في هذا الوضع، لأنهم إذا تمكنوا من توليد تدفق متواصل للكهرباء، فإن شعب قندهار الممتن سيدعم الحكومة الأفغانية وينقلب ضد طالبان.
للقيام بذلك، أراد الجيش الأمريكي إعادة بناء محطة طاقة كهرومائية قديمة في سد كاجاكي على بعد حوالي 100 ميل شمال قندهار. قامت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ببناء السد في خمسينيات القرن الماضي وتركيب التوربينات في السبعينيات، لكن سرعان ما أصبحت المحطة في حالة سيئة.
كانت الحكومة الأمريكية تحاول إطلاق المشروع وزيادة سعته منذ سنة 2004 دون أن تكسب الكثير منه، لكن طالبان سيطرت على المنطقة المحيطة بالسد وكذلك بعض خطوط النقل. احتاجت فرق الإصلاح إلى قوافل مسلحة أو طائرات هليكوبتر للوصول إلى الموقع. رغم المخاطر، كان الجنرالات الأمريكيون يضغطون لاستثمار مئات الملايين من الدولارات في المشروع بحلول سنة 2010، واصفين إياه بأنه جزء مهم من استراتيجيتهم لمكافحة التمرد. في المقابل، رفض بعض خبراء التنمية هذه الاقتراحات، بحجة أنه ليس من المنطقي تمويل مشروع بناء عملاق في أراضي العدو. وأشاروا إلى أن الأفغان يفتقرون إلى الخبرة الفنية للحفاظ على المشروع على المدى الطويل.
قوات المارينز البريطانية تحتمي خلال عملية مناهضة لطالبان في 2007 بالقرب من سد كاجاكي في إقليم هلمند.
تساءل هؤلاء الخبراء عما إذا كان ذلك سيساعد حقًا في كسب قلوب وعقول الأفغان المعتادين على الحياة دون قوة مركزية. قال مسؤول كبير في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في إحدى مقابلات الدروس المستفادة: “لماذا كنا نعتقد أن توفير الكهرباء للمجتمعات في قندهار حيث لا يعرف السكان ما يجب أن يفعلوه بها سيقنعهم بالتخلي عن طالبان؟”.
في النهاية، فاز الجنرالات بالجدل. وأخبر ريان كروكر، سفير الولايات المتحدة في أفغانستان في ذلك الوقت، المحاورين الحكوميين أنه كانت لديه مخاوف عميقة بشأن مشروع السد لكنه وافق على جزء منه على أي حال: “لقد اتخذت قرارا بالمضي قدما في ذلك، لكنني كنت على يقين من أنه لن ينجح أبدا. أكبر درس تعلمته هو عدم القيام بمشاريع ببنية تحتية كبرى”.
بالنسبة للجنرالات، لم يكن مشروع السد كافيًا. سيستغرق الأمر سنوات حتى يكتمل، ومع مرور الوقت على استراتيجيتهم الخاصة بمكافحة التمرد، أرادوا تزويد قندهار بالكهرباء على الفور. لذلك وضعوا خطة مؤقتة لشراء مولدات عملاقة تعمل بالديزل يمكن أن تبدأ العمل في غضون أشهر وليس سنوات.
لقد كانت طريقة غير فعالة ومكلفة للغاية لتوليد الكهرباء لمدينة بأكملها، حيث بلغت النفقات 256 مليون دولار على مدى خمس سنوات، والتي كانت مخصصة لسداد تكاليف الوقود فحسب. مرة أخرى، حاول بعض المسؤولين الرفض.
أخبر مسؤول مجهول الهوية في حلف الناتو المحاورين الحكوميين أنه تم تكليفه بمهمة محاولة تأمين التمويل للمولدات من المانحين الدوليين، لكنه لم يتمكن من ذلك. في هذا السياق، أوضح “أي شخص نظر إلى هذا عن كثب يمكن أن يرى أن الأمر ليس له أي تفسير، وأن كل هذا هراء. ذهبنا إلى البنك الدولي ولم يرغبوا في تمويله.. ينظر الناس إليه ويعتقدون أنه ضرب من الجنون”.
أقرّ سفير أمريكي سابق آخر أنه عارض خطة مولدات الديزل أيضًا، لكن كانت الغلبة للقادة العسكريين الأمريكيين. في هذا الصدد، أوضح السفير السابق الذي لم يذكر اسمه للمحاورين الحكوميين “بترايوس استعاد السلطة في العراق وأراد أن يفعل الشيء نفسه في أفغانستان. لكن في العراق، كان الأمر أكثر منطقية؛ كان لديهم نفط ومهندسون وقدرات محلية؛ كان الأمر قابلا للتحقيق”.
صورة لموقع مولد كهربائي في قندهار في سنة 2015.
بحلول شهر كانون الأول/ ديسمبر 2018، كانت الحكومة الأمريكية قد أنفقت 775 مليون دولار على السد ومولدات الديزل وغيرها من المشاريع الكهربائية في قندهار وإقليم هلمند المجاور، وذلك وفقا لتقرير مكتب المفتش العام الأمريكي لإعادة إعمار أفغانستان.
بالكاد تضاعف توليد الطاقة في السنة الماضية، وقد توصلت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى أن المرافق العامة الأفغانية في قندهار ليست مجدية تجاريًا وقد لا تكون قادرة على العمل دون دعم أجنبي.
صرح جيفري إيغرز، وهو مسؤول متقاعد في البحرية الأمريكية والبيت الأبيض في عهد بوش وأوباما، للمحاورين الحكوميين بأن مثل هذه المشاريع فشلت في تحقيق هدفها – تحقيق السلام والاستقرار – وأن المسؤولين العسكريين الأمريكيين مذنبون لإقدام على القيام بما لا طاقة لهم به، أو تعهدهم بأكثر مما يستطيعون تنفيذه”. وأضاف إيغرز “هناك سؤال أكبر هنا – لماذا تتخذ الولايات المتحدة إجراءات تفوق قدراتها؟ هذا السؤال يتعلق بالمستوى الاستراتيجي وعلم النفس البشري ومن الصعب الإجابة عليه”.
تم التراجع عن حملة بناء الأمة ولكن ذلك لم يكن بسبب تكلفتها العالية فقط. وفقًا لمقابلات الدروس المستفادة بالإضافة إلى عمليات التدقيق من مكتب المفتش العام الأمريكي لإعادة إعمار أفغانستان، كان برنامج الاستجابة القائد للطوارئ من أكثر البرامج التي يساء فيها إدارة الأموال.
بتصريح من الكونغرس، سُمح للقادة العسكريين الميدانيين بتجاوز قواعد التعاقد العادية وإنفاق ما يصل إلى مليون دولار على مشاريع البنية التحتية. لكن معظمها كان يكلف أقل من 50 ألف دولار. أخبر القادة المحاورين الحكوميين أنهم كانوا تحت ضغط كبير للإنفاق لدرجة أنهم قاموا بنسخ أوراق برنامج استجابة القائد للطوارئ بشكل عشوائي من المشاريع السابقة، مع العلم أنه من غير المحتمل أن يكلف أي شخص نفسه عناء تدقيقها بعد ذلك.
قال أحد كبار الضباط الذين عملوا في المقر العسكري في كابول: “سترى نفس الصورة لعيادة [صحية] منشورة في مائة تقرير عن مشروع عيادة مختلف في جميع أنحاء البلاد”.
أخبر قائد لواء عسكري في شرق أفغانستان المحاورين الحكوميين أنه غالبًا ما رأى مقترحات برنامج استجابة القائد للطوارئ تشير إلى “الشيوخ” – وهو دليل على أنه تم سرقتها من مشاريع إعادة الإعمار في العراق. (“الشيخ” هو لقب عربي محترم، لكنه لا يستخدم بشكل عام في أفغانستان.)
في مرحلة ما، يقول قائد اللواء إنه أخبر موظفيه أنه إذا لم يتمكنوا من إظهار أن مشروع برنامج استجابة القائد للطوارئ سيكون مفيدًا، “فإن أذكى شيء يمكنهم فعله هو لا شيء”. قال رداً على ذلك: “لدي صراصير. قالوا “لا يمكننا بناء أي شيء”. لكني أخبرتهم أنه علينا أن نصرف أموالنا على أي شيء”.
شبه بريان كوبس، وهو لواء بالحرس الوطني عمل كقائد للشؤون المدنية في مقاطعة خوست في شرق أفغانستان، تدفق المساعدات “بتعاطي الكوكايين“، واصفا إياه بأنه “إدمان يؤثر على كل وكالة”.
في مقابلة في إطار مشروع الدروس المستفادة، قال إنه زار مستنبتا زجاجيا بنته الولايات المتحدة وبلغت تكلفته 30 ألف دولار لكنه لم يعد مستخدما لأن الأفغان لم يتمكنوا من صيانته. قامت وحدته ببناء دفيئة بديلة من أعمدة الحديد الذي يعمل بشكل أفضل وكلف قرابة 55 دولارًا فقط – على الرغم من الضغط لإنفاق المزيد على هذا المشروع. في شأن ذي صلة، أوضح كوبس: “يمنحنا الكونغرس المال للإنفاق ويتوقع منا أن ننفقه كله. لهذا السبب، أصبحنا لا نهتم بما يفعلونه بالمال طالما أننا ننفقه“.
رغم بذل قصارى جهده، يمكن للجيش الأمريكي أن ينفق فقط حوالي ثلثي مبلغ 3.7 مليار دولار الذي رصده الكونغرس لبرنامج استجابة القائد للطوارئ، وذلك وفقًا لأرقام وزارة الدفاع. ومن أصل 2.3 مليار دولار وقع إنفاقها، كان البنتاغون قادرًا على تقديم تفاصيل مالية لمشاريع بقيمة 890 مليون دولار فقط، وفقًا لمراجعة أجريت في سنة 2015. ومن جانبهم، أوضح مسؤولون من وكالات أخرى للمحاورين الحكوميين أنهم أصيبوا بالدهشة من حجم المال المهدور وسوء الإدارة.
صرح كين ياماشيتا، مدير بعثة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في أفغانستان ما بين 2011 و2014، “لم يكن برنامج استجابة القائد للطوارئ سوى نقودًا خصصت لتنفق في كل الأحوال”، كما شبه ياماشيتا المدفوعات بالمنح النقدية لأغراض سياسية. وفي سياق متصل، وصف مسؤول رفض الكشف عن هويته في حلف الناتو البرنامج بأنه “حفرة مظلمة لا نهاية لها تضخ فيها الأموال مقابل القيام بأي شيء دون التعرض للمساءلة”.
صورة لصبي أفغاني وهو ينقل الطوب خارج موقع قتالي لمشاة البحرية في مارجا في سنة 2010.
من بين كل أوجه قصور حملة بناء الدولة في أفغانستان – هدر المال وعدم الكفاءة والأفكار المسروقة – لم يربك المسؤولين الأمريكيين شيء أكثر من حقيقة أنهم لا يستطيعون أبدًا معرفة ما إذا كان أي من هذه الإخفاقات يساعدهم بالفعل على كسب الحرب.
أخبر ضابط بالجيش، وقع تكليفه بالإشراف على المقر الرئيسي للجيش الأمريكي في كابول أثناء زيادة القوات، المحاورين الحكوميين بأنه كان من الصعب تتبع ما إذا كانت مشاريع برنامج استجابة القائد للطوارئ قد تم بناؤها بالفعل، وما إذا كانت قد أحدثت فرقًا في ساحة المعركة.
أوضح الضابط: “أردنا وضع مقاييس كمية صارمة من شأنها أن تخبرنا أن مشروع إكس يحقق النتائج المرجوة، لكننا واجهنا صعوبة في تحديد تلك المقاييس. كما لم تكن لدينا أي فكرة عن كيفية قياس ما إذا كان وجود المشافي يقلل من الدعم المقدم لحركة طالبان. كانت دائما تلك المشكلة التي نواجهها”. عموما حتى بعض أكثر المشاريع الإنمائية التي انطوت عن حسن النية يمكن أن يكون لها جوانب سلبية في أفغانستان.
أوضح توريالاي ويسا، الذي شغل منصب حاكم مقاطعة قندهار من 2008 إلى 2014، أن عمال الإغاثة الأمريكيين أصروا ذات مرة على تنفيذ مشروع للصحة العامة لتعليم الأفغان كيفية غسل أيديهم: “كان هذا بمثابة إهانة للشعب. فهنا يغسل الناس أيديهم خمس مرات في اليوم من أجل أداء صلاة. علاوة على ذلك، ليست هناك حاجة لمشروع غسل اليدين. كان عليهم التفكير في مشروع من شأنه توفير وظائف وتمكين الناس من كسب المال”.
لكن هذا قد يأتي بنتائج عكسية. في إطار مشروع واحد في قندهار، دفعت القوات الأمريكية والكندية للقرويين ما بين 90 إلى 100 دولار شهريًا لتطهير قنوات الري، وذلك وفقًا لتوماس جونسون، المتخصص في شؤون أفغانستان الذي يعمل أستاذا في مدرسة الدراسات العليا البحرية. وقد استغرقت القوات بعض الوقت حتى أدركت أن برنامجها أدى بشكل غير مباشر إلى تعطيل نشاط المدارس المحلية، حيث كان المعلمون في المنطقة يتقاضون أقل من ذلك بكثير – ما بين 60 إلى 80 دولارًا في الشهر.
أوضح جونسون الذي شغل منصب المستشار السياسي ومكافحة التمرد للكنديين من 2009 إلى 2010، خلال مقابلة خاصة بالدروس المستفادة: “لذلك في البداية ترك جميع معلمي المدرسة وظائفهم وانضموا إلى أعمال حفر الخنادق”.
نشأت مشكلة مماثلة في شرق أفغانستان، حيث كان أحد لواء الجيش المتحمس بشكل مفرط عازمًا على إحداث فرق لدرجة أنه وعد ببناء 50 مدرسة – لكن انتهى به الأمر عن غير قصد بدعم حركة طالبان، وفقًا لضابط في اللواء. في هذا الشأن، أوضح ضابط بالجيش الأمريكي، الذي لم يرغب في كشف هويته، للمحاورين الحكوميين: “لم يكن هناك عدد كافٍ من المعلمين ليعمل فيها، لذلك ظل الكثير منها فارغا، بل إن بعضها أصبح بمثابة مصانع للقنابل”.
المصدر: واشنطن بوست