انتهى لتوه معرض تركيا للصناعات للدفاعية في نسخته الـ15، التي أقيمت فعالياته في ساحة المعارض الرسمية بإسطنبول، لمدة 4 أيام، بدايةً من الـ17 من أغسطس/آب إلى الجمعة الموافق الـ20 من نفس الشهر، لكن الحديث عنه لم ينته.
في مادة سابقة نشرت قبل يومين، سلطنا الضوء على ساعات ما قبل إقامة المعرض وكيف مثلت تمهيدًا لمراسم تدشينه وبالأخص خلال زيارة الرئيس الباكستاني إلى تركيا لمتابعة تنفيذ عقود عسكرية بحرية كبيرة، بالإضافة إلى مستجدات المعرض هذا العام، سواء كانت في التنظيم أم في المنتجات الدفاعية الجديدة التي كشفتها الشركات التركية.
في هذه المادة، نسلط الضوء على كواليس الساعات الأخيرة من المعرض واللقاءات العسكرية المهمة التي عقدت على هامشه، بالإضافة إلى العديد من اتفاقيات التعاون التي وقعت بين تركيا وأكثر من دولة، مع لفت الانتباه إلى بعض المشروعات النوعية التي لم نتناولها في المادة السابقة، ومثلت مفاجأة لكثير من المهتمين بهذا المجال بعد كشفها قبل نهاية المعرض.
التمهيد للتعاون
شهدت الساعات الأخيرة من المعرض طيفًا من اللقاءات الثنائية الإيجابية التي يمكن القول إن الغرض منها كان متابعة نتائج أعمال لقاءات مشابهة تمت في وقت سابق وإبداء حسن النوايا بين الأطراف المعنية، التي كان نجمها وزير الدفاع التركي خلوصي أقار.
فقد استضاف وزير الدفاع التركي عددًا من نظرائه وزراء الدفاع من إفريقيا وآسيا، الذين تربط بلادهم بتركيا علاقات إيجابية مطردة في النمو أو مصالح مشتركة مباشرة وجغرافيا متجاورة ومصير مشترك، على نحو ما حدث مع وزيري دفاع موريتانيا والعراق.
لم توقع اتفاقيات عسكرية رسميًا بين تركيا وهذه الأطراف في هذين اللقائين، لكن حسبما أوضحت وزارة الدفاع التركية في بياناتها الصادرة تعليقًا على هذه اللقاءات، فقد شهدت مباحثات بشأن الملفات الأمنية والدفاعية، وبالأخص إمكانات التصنيع المشترك وتبادل وجهات النظر في مسائل الدفاع والأمن الثنائي والإقليمي، على نحو ما حدث بين أقار ونظيره الموريتاني الفريق ركن حننة ولد سيدي.
في اللقاء بين وزير الدفاع التركي ونظيره العراقي جمعة عناد، كانت التغطية الصحفية والرسمية للقاء أكثر وضوحًا، فقد كانت الخطوط العريضة هي فرص التصنيع العسكري المشترك، وهو نفس العنوان الذي هيمن على مباحثات مسؤولين أتراك في الأيام الأخيرة كما حدث مع الفريق ركن عبد الفتاح البرهان من السودان من جهة، ومباحثات المسؤول العراقي الذي زار القاهرة قبل إسطنبول بأيام لنفس السبب: بحث كيف يمكن للجيش العراقي الخارج لتوه من حقبة استعمار أمريكي مباشر وحرب شرسة ضد التنظيمات الإرهابية أن يضع قواعد تصنيع عسكري مشترك مقبولة محليًا؟
بالإضافة إلى ذلك، فقد شدد الوزيران، وبالأخص الطرف التركي، على ضرورة تكثيف التعاون المشترك في مجال مكافحة الإرهاب لضمان أمن الحدود والمواطنين لا سيما إزاء التهديد المشترك (قوات PKK الإرهابي)، مؤكدًا أن ذلك لا يتعارض مع احترام تركيا لوحدة وسيادة أراضي دول الجوار في الوقت نفسه.
أما الزيارة التي شهدت زخمًا مضاعفًا على هامش المعرض، كانت زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى تركيا، تلبيةً لدعوة الرئيس التركي رجب أردوغان، التي أسفرت عن توقيع 3 اتفاقيات عسكرية في مجالات التعاون المالي الدفاعي والخدمات اللوجستية، بالإضافة إلى إعلان تركيا استعدادها للوساطة في الصراع الحدودي الحاليّ بين الخرطوم وأديس أبابا على منطقة الفشقة.
أخبار سارة من أوروبا
على غرار كل المعارض الدفاعية التركية، كبيرة كانت أم شبابية، فإن المشاركة الأوروبية، وبالأخص من الدول الشرقية، تكون لافتةً ومهمةً، وعلى رأس هذه الدول، الخصمان الحدوديان الحليفان لأنقرة في نفس الوقت: أوكرانيا وروسيا.
عرض الروس خلال هذا الملتقى العشرات من المنتجات الدفاعية ذات التطبيقات العسكرية البحتة أو مزدوجة الاستخدام، التي كان بعضها يقدم لأول مرة مثل المقاتلة SU57E، كما شاركت كييڤ بطيفٍ واسعٍ من المنتجات الدفاعية محلية الصنع، كالمحركات ومنظومات مواجهة الدروع ومنظومات الدفاع الساحلي.
غير أن الحدث الأهم في هذا السياق، كان إعلان كييف رغبتها في توسيع مجالات التعاون العسكري الإستراتيجي مع أنقرة من جهة، ورغبة الأخيرة في افتتاح مركز صناعي وتسويقي مهم لإحدى أبرز مؤسساتها العسكرية في أوكرانيا من جهة أخرى.
أعلنت هذه الأخبار على هامش لقاء الساعات الأخيرة مساء أمس الجمعة بين نائب رئيس الوزراء الأوكراني أوليغ أوروسكي ونائب وزير الصناعة والتكنولوجيا التركي تشتين علي دونماز، وبحسب المسؤول الأوكراني فإن كييڤ أبدت استعدادًا للتعاون مع أنقرة في مجال تصنيع مقاتلات الجيل الخامس، ورغبة في الاستفادة من خبرات أنقرة في مجال الفضاء، وبالأخص في “تدشين نظام إطلاق مشترك مع تركيا بالتزامن مع اكتمال برنامج الفضاء الأوكراني في السنوات الأربعة القادمة”، وترحيبًا برغبة شركة “أصيلسان” التركية افتتاح مركز لها في أوكرانيا.
من أوكرانيا إلى بولندا، فقد أكد وزير الدفاع البولندي، خلال زيارته للمعرض، وعقب لقائه مع مدير شركة بيرقدار التركية، خلوق بيرقدار، أن المسيرات التركية المسلحة التي أبلت حسنًا في سوريا وليبيا وأذربيچان وباتت حديث العالم ومحل اهتمام عدد من الدول، سوف تحلق رسميًا في سماء الدولة العضو في الناتو مطلع عام 2022.
وكانت هذه الصفقة قد وقعت منذ 3 أشهر فقط، مايو/آيار الماضي، بحضور الرئيس التركي رجب أردوغان ونظيره البولندي أندريه سباستيان دودا، التي بموجبها ستتولى أنقرة تزويد وارسو بعدد 24 طائرة بيرقدار تي بي 2، تشمل محطات تحكم أرضية ومحطات استقبال بيانات وذخائر جو أرض متطورة من تصنيع “روكيستان”.
اتفاقيات مع الحلفاء التقليديين
باتت تركيا تحتفظ لنفسها بعدد من الحلفاء الإستراتيتجيين في المجال العسكري، بفضل قدرتها على الوقوف بجانب حلفائها في سوريا وليبيا وقبرص وأذربيجان عسكريًا ودبلوماسيًا، وقدرتها على تزويد حلفائها بسلاحٍ متطور، مطابق للمعايير الدولية، بسعر جيد، دون قيود سياسية كما تفعل الدول الكبرى.
في هذا السياق، شهد هذا المعرض توقيع اتفاقيات تعاون عسكري جديدة بين تركيا وأحد أبرز حلفائها الإستراتيجيين على الإطلاق، دولة قطر، وقد وقعت الاتفاقية التي تدخل ضمن مجال “اللوجيستيات” بين ممثل تركيا شركة هاڤلسان ومديرها العام محمد عاكف نجار من جهة، وإحدى أبرز مؤسسات الصناعات القطرية، برزان القابضة وممثلها عبد الله الخاطر نائب رئيس المؤسسة.
إسلام آباد قررت ألا تضع سقفًا لتعاونها العسكري مع حليفتها أنقرة
بموجب الاتفاقية، تتعهد الشركة التركية بتقديم خدمات الصيانة والإصلاح والتشغيل والتحديث لسلاح الجو القطري، وبالأخص لأنظمة محاكاة الطائرات الغربية، لمدة 3 أعوام، بنسب تصل إلى 90% وساعات تدريب لكل منظومة تبلغ الـ100 ساعة، مع الاستعانة بـ6 من الكوادر الفنية المتخصصة من تركيا في المواقع القطرية.
ووفقًا لعبد الله الخاطر، ممثل قطر، فإن هذه الاتفاقية ليست إلا مقدمة لتوقيع مزيدٍ من الاتفاقيات المشتركة مستقبلًا، وبالأخص بين فروع معينة في الجيش القطري، مثل سلاح الجو والقوات البرية من جهة ومؤسسة هاڤيلسان التركية من جهة أخرى.
كذلك يبدو أيضًا أن إسلام آباد قررت ألا تضع سقفًا لتعاونها العسكري مع حليفتها أنقرة، ففي الوقت الذي كان الرئيس الباكستاني عارف علوي في إسطنبول لحضور مراسم إنزال أول سفينة “كورڤيت” مصنوعة في حوض تركي ضمن صفقة تشمل 3 قطع أخرى، تصنع 2 منها في باكستان، أشارت المصادر إلى رغبة البحرية الباكستانية في الحصول على مزيد من القطع التركية.
سوف تتضمن الصفقة هذه المرة عددًا مبدئيًا يقدر بـ2 من فئة فرقاطة Jinnah class قابل للزيادة إلى 6 قطع، التي تصنعها شركة ASFAT التركية لصناعة السفن والغواصات، ومن المرجح أن يتولى الخبراء والفنيون الأتراك تصنيع هذه القطع في باكستان بالكامل هذه المرة كما تقول المصادر.
مفاجآت عسكرية
كما عرضنا من قبل، فقد شهد المعرض تقديم عدد ضخم من المنتجات التركية الجديدة محلية الصنع، لكن الساعات الأخيرة من المعرض شهدت ما اعتبره خبراء عسكريون “مفاجآت” من حيث المشاريع والتصميمات.
أولى هذه المفاجآت التي كشفها المعرض هي نية شركة STM التركية تصنيع غواصة محلية الصنع لكي تنضم في الفترة المقبلة إلى أسطول الغواصات التركي البالغ 12 غواصة، مقسمة إلى 3 مجموعات مختلفة، تعمل جميعها بالديزل/الكهرباء.
من حيث التصميم، فإن هذه الغواصة التي ستحمل اسم STM 500 ستكون أكبر من غواصات الجيب القزمية، وأصغر في نفس الوقت من غواصات الديزل التقليدية، أي أنها بطول 42 مترًا وقطر خارجي للبدن نحو 4 أمتار وإزاحة نحو 500 طن، ستكون أقرب إلى مفهوم الغواصة الساحلية.
تستهدف تركيا من هذا النموذج تلبية احتياجاتها العسكرية في المياة الضحلة ببحر إيجة، الذي يعد تطويرًا لغواصات تايب 206 الألمانية، تطويرات نوعية في التصميم والصوت (أكثر هدوءًا) والسعة وأنظمة الرصد والدفع، ومن الراجح أن تكون محل طلب خارجي بعد توقف ألمانيا وإيطاليا عن تصنيعها، وحاجة دول مثل باكستان وكولومبيا وبعض دول الخليج إلى هذا النموذج من الغواصات.
خلوصي أقار: المؤسسات الدفاعية التركية باتت مصدر فخر لتركيا وتستطيع أن تنافس عمالقة العالم، وأنها جزء من عملية تطوير أشمل لمعظم قطاعات البلاد، بما في ذلك القطاعات العسكرية
سوف يتم تزويد هذه الغواصة بـ8 طوربيدات و4 أنابيب إطلاق وصواريخ عمق سطح موجهة، بالإضافة إلى محرك ديزل وبطاريات ليثيوم لتخزين الطاقة، إلى جانب إمكانية تزويدها بنظام دفع مستقل تحت الماء AIP، ومن المنتظر أن يبلغ إجمالي طاقمها 14 فردًا، منهم 6 أفراد للعمليات الخاصة، وأن تتمكن من الغوص أعماق تصل إلى 250 مترًا والبقاء مدة شهر متواصل تحت الماء.
المفاجآة الثانية كانت الراجمة الهجين من “روكيستان”، التي زودت بحاضني إطلاق يمكن للأول حمل صواريخ عيار 230 مم بمديات تصل إلى 120 كيلومترًا من الصواريخ الموجهة، بالإضافة إلى حاضن آخر يمكنه حمل 12 صاروخًا غير موجه عيار 122 مليمترًا بمديات حتى 35 كيلومترًا، كما يمكنها حمل عدد أقل من الصواريخ المختلفة بعيارات تصل إلى 610 مليمترًا ومديات تصل إلى 280 كيلومترًا، ومن الواضح من الصور أنها موجهة إلى زبون خارجي يرجح أنه بنغلاديش.
يصف وزير الدفاع التركي خلوصي أقار هذه الشبكة المعقدة من المؤسسات الدفاعية التركية بأنها باتت مصدر فخر لتركيا وتستطيع أن تنافس عمالقة العالم، وأنها جزء من عملية تطوير أشمل لمعظم قطاعات البلاد، بما في ذلك القطاعات العسكرية.
ومع ذلك، فإنه يعتقد أن ذلك ليس كافيًا، “فالدول التي تريد أن تكون صاحبة قرار في عالم الغد ينبغي أن تظل إستراتيجيتها محدثة، وهو ما تفعله تركيا التي تتابع عن كثب كل التطورات التكنولوجية، وتهدف للارتقاء بصناعتها الدفاعية إلى مستوى أعلى بكثير عبر نهج فعال ومحلي ومستدام”، على حد قوله.