بعد أكثر من سبع سنوات قضاها “علاء” في دولة الكويت، كان الأفضل بين أقرانه في شركة الاتصالات عمل بها، وحصل على جائزة “الموظف المثالي” بها خلال آخر 3 سنوات على التوالي، فيما كان يُجهز لإدارة أحد أكبر فروع الشركة محليًا، إذ به بين غمضة وعين وانتباهتها مطالب بمغادرة البلاد في غضون 72 ساعة فقط.
لم يستوعب الشاب المصري ما يحدث، فالنجاحات التي حققها خلال السنوات الماضية كانت محل ثناء رؤسائه في العمل، والتزامه بالقوانين واللوائح كان نموذجيًا بشهادة الجميع، لكنه اليوم مطالب بالخروج وأسرته المكونة من 4 أفراد والعودة لوطنه الأم دون إجراء أي تحقيق معه أو على الأقل الاستماع إليه فيما هو منسوب إليه، إن وجدت أي اتهامات أو انتقادات له.
“يقولون إنني تجاوزت إشارة مرور وعليه وجب الترحيل”، هكذا أجاب علاء عن سبب الإبعاد، لافتًا إلى أن هذا القرار جاء استنادًا إلى ما يسمى “الإبعاد الإداري” وهو القانون الذي تحول إلى سوط على ظهر الوافدين، ويسلبهم أدنى حقوقهم الإنسانية في الدفاع عن أنفسهم إزاء أي اتهامات يواجهونها.
وهناك فرق كبير بين الإبعاد الإداري والإبعاد القضائي، كقانونين يتعلقان بإجبار الوافد على مغادرة البلاد، فالأول يمنح وزارة الداخلية كل الصلاحيات في إبعاد أي وافد في أي وقت حال كانت المصلحة العامة تقتضي ذلك، دون إجراء تحقيقات معه أو مثوله أمام القضاء، على عكس الثاني الذي يصدر بحكم قضائي عن محكمة معتبرة تحفظ كل ضمانات المتهم وتكفل له حق الدفاع عن نفسه.
يذكر أن آخر إحصاء لعدد المبعدين بسبب هذا القانون، كان في 2016، حين أبعد 31 ألف وافد، بما يعادل 85 شخصًا كل يوم، 4 حالات كل ساعة، وافد كل 15 دقيقة، جاءت الجنسية الهندية في المرتبة الأولى بواقع 24% تلتها المصرية بنسبة 20%، فيما تصاعدت الانتقادات الحقوقية التي ترى هذا القانون سيفًا مسلطًا على رقاب الوافدين، ويعد أحد أسوأ القوانين التي تنتهك حقوق الأجانب عالميًا.
بين المأساة والتراجيديا
تنكشف المأساة بصورتها القاتمة حين تُبلغ بقرار المغادرة دون معرفة السبب، بمعزل عن إعطائك وقتًا كافيًا لإعداد أمورك، سواء في الكويت أم في وطنك الأم، فليس أمامك إلا سويعات قليلة عليك أن تلملم فيها سنوات طوال من العمل والأصدقاء والمعارف والحسابات الخاصة والاجتماعية، لتغادر فورًا إلى بلدك غير مأسوف عليك، دون القدرة على العودة مرة أخرى.
لم يكن علاء الضحية الوحيدة لهذا القانون الذي وصفه بـ”القاتل” فهناك العشرات من زملائه من جنسيات أخرى، سقطوا في ذات المستنقع، بعضهم اضطر للخروج دون القدرة على الحصول على متعلقاته ومستحقاته المادية، بل وصل الأمر إلى اقتراضه ثمن تذكرة العودة رغم أن له آلاف الدولارات لم يستطع تحصيلها.
ووفق شهادة الشاب المصري الذي لم يتجاوز عمره الثلاثين عامًا، فقد آثر بعض الوافدين السجن على مغادرة البلاد دون الحصول على مستحقاتهم المادية، لافتًا إلى أن أحد المصريين رفض العودة حتى يحصل على راتب آخر 5 أشهر لم يتحصل عليها من كفيله، وأمام تعنت الأخير، رفض المصري الخروج، ما دفع السلطات الكويتية للزج به في السجن، فيما لم يستجب الكفيل الكويتي لمناشدات زملائه في العمل لمنح العامل المصري حقوقه قائلًا: “حتى التذكرة لن أدفعها”.
هذا القانون يرسخ لوضع غير إنساني ويفتقد لأدنى معايير الحياة الكريمة، كما يؤدي بشكل مباشر إلى تضخم الذات الكويتية أمام بقية البشر
“تخيل معي عزيزي القارئ أنك نويت أن تقضي أمسية نهاية أسبوع مع عائلتك على شاطئ البحر يتخللها الشواء وقضاء أوقات عائلية سعيدة ومفعمة بالحب، لكن ينتهي بك الأمر في زنزانة الأمن تمهيدًا لإحالتك لإدارة الإبعاد و”تسفيرك” لأنك قمت بذلك، أو تخيل أن ابنتك الوليدة أصابتها الحمى عند منتصف الليل وأسرعت إلى الصيدلية دون أن تحمل إثباتك من شدة الخوف ويستوقفك رجل الأمن ليسألك عن إثباتك فتستوعب أنك نسيته من فرط استعجالك وخوفك لتكون النتيجة حجزك في زنزانة المخفر تمهيدًا لإحالتك لإدارة الإبعاد و”تسفيرك” لخروجك دون إثبات”، كانت هذه مقدمة المحامي الكويتي، فهد بن ماهر، في مقال له ساخرًا من قانون الإبعاد الإداري.
الحقوقي الكويتي وصف الوضع إزاء هذا القانون بأنه يرسخ لوضع غير إنساني ويفتقد لأدنى معايير الحياة الكريمة، “كما يؤدي بشكل مباشر إلى تضخم الذات الكويتية أمام بقية البشر وترسخ مفاهيم سلبية جدًا بعقلية الكويتي والوافد، وكذلك ترسخ القفز فوق دولة القانون ومؤسساتها والتحكم بمصائر البشر وفق إرادة فردية لا يليها حساب أو عقاب”، على حد وصفه.
انتهاك حقوقي
واجه هذا القانون انتقادات حقوقية حادة، ففي بيان لها في 2 من يونيو/حزيران الماضي، استنكرت الجمعة الكويتية للمقومات لحقوق الإنسان (مستقلة) الانتهاكات التي تمارسها وزارة الداخلية الكويتية تحت زعم تطبيق القانون، مطالبة “أن يكون التعامل وفق القانون وحقوق الإنسان لا وفق آلية الترحيل الذي فيه شبهة تعسف لاستخدام الصلاحيات، ونخشى مع مرور الوقت أن يتحول الإبعاد الإداري لنهج لدى السلطات الأمنية بحجة الحفاظ على الأمن”.
وأكدت الجمعية “ضرورة وضع ضوابط لإجراءات الإبعاد والترحيل وعدم ترك الأجهزة الأمنية تستخدمه ضد الوافدين دون قيود ولا حقوق للمرحلين، لا سيما أنه بإمكانها استخدام عقوبات إدارية أخرى بديلة بحسب ما ينص عليه القانون”، وتابعت “نبدي أسفنا حيال هذا القصور التشريعي الذي بسببه لا يتيح للمبعد إداريًا التظلم ضد قرار إبعاده أو منحه الوقت الكافي لإنهاء كل التزاماته وارتباطاته المالية وغيرها، ونوصي بهذا الشأن جهات الاختصاص بتدارك هذا القصور من خلال تعديل القانون بما يتيح الطعن على قرارات الإبعاد الإداري ليتواءم مع الصكوك والاتفاقيات الدولية ذات الصلة”.
واستعرضت الجمعية في بيانها مخالفة الإبعاد الإداري للقوانين الدولية، أبرزها اتفاقية مناهضة التعذيب في مادتها الـ3 التي تنص على أنه “لا يجوز لأي دولة طرف أن تطرد أي شخص أو أن تعيده “أن ترده” أو أن تسلمه إلى دولة أخرى، إذا توافرت لديها أسباب حقيقية تدعو إلى الاعتقاد بأنه سيكون في خطر التعرض للتعذيب، وأن تراعي السلطات المختصة لتحديد ما إذا كانت هذه الأسباب متوافرة، جميع الاعتبارات ذات الصلة، بما في ذلك، في حالة الانطباق، وجود نمط ثابت من الانتهاكات الفادحة أو الصارخة أو الجماعية لحقوق الإنسان في الدولة المعنية”.
كذلك المادة 13 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وتحديدًا المبدأ العام بشأن طرد الأجانب، وذلك من خلال النص على أنه “لا يجوز إبعاد الأجنبي المقيم بصفة قانونية في إقليم دولة طرف في هذا العهد إلا تنفيذًا لقرار اتخذ وفقًا للقانون، وبعد تمكينه – ما لم تحتم دواعي الأمن القومي خلاف ذلك – من عرض الأسباب المؤيدة لعدم إبعاده ومن عرض قضيته على السلطة المختصة أو على من تعينه أو تعينهم خصيصًا لذلك، ومن توكيل من يمثله أمامها أو أمامهم”، بجانب المادة 26 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان والـ20 من إعلان القاهرة لحقوق الإنسان.
بين مطرقة قانون الإبعاد الإداري وسندان حملات الإثارة والتهييج ضد العمالة الأجنبية يقبع قرابة 3.3 مليون وافد، يمثلون أكثر من 70% من عدد السكان في الكويت، في انتظار مصيرهم المجهول
الوافدون.. الحلقة الأضعف
اعتراضات اجتماعية وقانونية بالجملة قوبل بها التطبيق التعسفي للقانون إزاء العشرات من الوافدين خلال الآونة الأخيرة، ما دفع الكثير من الخبراء للمطالبة بإعادة النظر في آليات تنفيذ القانون وضرورة مراعاته للبعد الاجتماعي، لا سيما بعدما تحول إلى أداة لتصفية الحسابات والتنكيل بالأجانب.
عميد كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الكويت، حمود القشعان، يرى أن قرارات الإبعاد تلك “مبنية على دغدغة المشاعر ومسايرة رغبات البعض في استهداف الوافدين، ولا دوافع قانونية وراء ذلك”، لافتًا إلى أن تلك الممارسات تضر المجتمع وهيبة القانون، “لأن الأمر لو عُرض على لجنة قانونية فستكون النتيجة أنه لا يبعد إلا المتسبّب في مشاجرة أو المخالف قوانين البلاد”.
من جانبه استغرب المستشار العمالي في الجمعية الكويتية لحقوق الإنسان، عبد الرحمن الغانم، غياب الضوابط التي تحدد أسباب الإبعاد الإداري للوافدين، لافتًا إلى أن “غياب حق المبعد في التظلم أو اللجوء إلى القضاء أو جهة محايدة يعد إجحافًا بحقه”، ساخرًا من أن هذا الإبعاد “أصبح من أسهل القرارات حتى شمل المخالفات البسيطة، كمخالفات المرور أو مخالفات الصيادين وأخيرًا المشاجرات التي تم إبعاد جميع أطرافها، سواء الجاني أم المجني عليه، دون تحقيق”.
فيما ذهبت أستاذة علم النفس في جامعة الكويت، نعيمة الطاهر، إلى أن للإبعاد بهذه الكيفية أضرارًا نفسية واجتماعية على الوافدين، خاصة مع فقدانه مصدر دخله وعدم القدرة على العودة للبلاد مرة أخرى، كاشفة أن القانون بصيغته الحاليّة التي تعود لعقود طويلة مضت تحول إلى “سيف مسلط على الرقاب يفقد الوافدين الشعور بالأمان وينتابهم القلق بشكل دائم”.
ويعد الوافد في تلك المعمعة الحلقة الأضعف، التي ربما يتم التنكيل بها للهروب من الالتزامات المادية الخاصة بأرباب العمل، وهو ما ذهب إليه مدير الجمعية الكويتية لحقوق الإنسان، المحامي محمد الحميدي، الذي كشف أن “كثيرًا من حالات الإبعاد التي تقدمت بشكاوى أمام الجمعية الكويتية كان الوافد فيها شريكًا لمواطن في ممتلكات أو شركة ما وأراد الطرف الكويتي الاستيلاء على تلك الممتلكات عن طريق الإبعاد الإداري وهي أمور تتم من دون تمكين المدعي عليه من الدفاع أو حتى توضيح سبب الإبعاد بشكل كافٍ”.
بين الإلغاء والتقنين
الداعمون لهذا القانون يستندون إلى أنه ربما يكون الحل الأمثل لتجاوز البيروقراطية القضائية حين يتعلق الأمر بأمن البلاد واستقرارها، لافتين إلى أن مسار التقاضي أمام ساحات المحاكم يحتاج إلى وقت طويل، بجانب احتمالية عدم القدرة على إثبات أدلة الإدانة رغم وقوعها، وعليه فإن الإبعاد الإداري سيكون المخرج القانوني لتلك الثغرات.
ويطالب المعارضون لهذا القانون المتهم بغياب العدالة وتغليب روح الانتقامية وتصفية الحسابات وتجاوز المبادئ الأساسية في حقوق التقاضي، بإعادة النظر في إستراتيجية تنفيذه بحيث تراعي قائمة الاتهامات الطويلة، وإن لم يكن هناك بد من تفعيل العدالة فلا بد من إلغائه والاستناد إلى القوانين المعمول بها حتى إن أُدخل عليها بعض التعديلات التي تعالج أوجه القصور بها.
المطالبون بإلغاء القانون يستندون في موقفهم إلى عدة مخاوف جراء الاستمرار في تطبيق القانون أبرزها أنه يسمح بإطلاق يد الداخلية في إبعاد الوافدين دون رقابة أو محاسبة، ما قد ينجم عنه كوارث في التنفيذ والوقوع في مستنقعات الواسطة والمحسوبية وتصفية الحسابات.
هذا بجانب سلب الوافد أي حق في الدفاع عن نفسه أو الطعن والاعتراض على القرار، فخلال ساعات قليلة من صدوره سيكون قيد الحبس لحين ترحيله خارج البلاد، حتى دون الاستماع إليه، وهو ما قد يترتب عليه تبعات إنسانية واجتماعية خطيرة كما تم الإشارة له سالفًا.
وبين مطرقة قانون الإبعاد الإداري وسندان حملات الإثارة والتهييج ضد العمالة الأجنبية يقبع قرابة 3.3 مليون وافد، يمثلون أكثر من 70% من عدد السكان في الكويت، في انتظار مصيرهم المجهول، هذا في الوقت الذي تتصاعد فيه مطالب التكويت في ظل الأزمة الاقتصادية التي تحياها البلاد منذ جائحة كورونا.