لبنان: موت سريري أم ولادة من الخاصرة؟

كرت سبحة الانهيارات، والعقد الذي كان يخيل للبعض أنه سيظل رتقًا، فتق، وشلت أطراف الدويلة، فقد تخطى لبنان الدولة الهشة والنفق المظلم وحافة الانهيار، إلى حالة موت سريري، تستوجب سرعة في الحل، بخلاف الوضع القائم.
فبعد أن خيمت أجواء إيجابية خجولة في بعبدا، يماطل القصر الرئاسي مجددًا، ويضع الحقائب الوزارية في طريق تشكيل الحكومة، كما وضعها سابقًا في وجه الحريري، لتعود مخرجات 11 لقاءً بين الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي إلى المربع الأول، رغم التهديد الفرنسي بفرض عقوبات صارمة على الجهة المعطلة وإن كانت عون نفسه.
مصادر مقربة من مباحثات عون – ميقاتي، أكدت أن المعضلة تكمن في تسمية الوزراء، مشيرة إلى أن ميقاتي يصر على أن يكون وزيرا العدل والداخلية غير تابعين لأي حزبٍ سياسي، لأنه يريد من الحكومة أن تنجح في إدارة الانتخابات النيابية المقبلة والتفاوض مع البنك الدولي.
لكن الحكومة التي باتت شرطًا لتقديم المنح الدولية، لن تكون أكثر من حكومة محاصصة، يؤكد المحلل السياسي حنا صالح، ففي كلمة لموقع نون بوست، قال صالح: “هذه الحكومة بالكاد ستدير الأزمة، وترقع بعض القضايا مؤقتًا، مثل تعجيل تنفيذ اتفاق النفط مع العراق لتأمين نحو 6 ساعات من الكهرباء يوميًا”، مشددًا على أن “لبنان يحتاج إلى حكومة إنقاذ، وهذه الحكومة لا يمكن أن تكون إلا من خارج الطبقة السياسية الحاليّة”.
الوقود الإيراني وجبهة الجنوب، ورقة التوت
بعد صمته طويلًا على عمليات تهريب الوقود إلى الأراضي السورية جهارًا وفي وضح النهار، يطل أمين عام حزب الله حسن نصر الله على اللبنانيين ويعلمهم أن سفينة وقود إيرانية في طريقها إلى لبنان، على أن تتبعها سفن أخرى.
وفقًا لشريحة كبيرة من اللبنانيين، يحاول حزب الله في خطابه هذا تبرئة عباءته مما يحدث وامتصاص الاحتقان الشعبي، لا سيما عند جمهوره المحرج إلى حدٍ كبيرٍ من التعبيرعن حجم الأزمة التي أجبرته على الوقوف في طوابير الذل كعموم المواطنين.
وفيما يغلي لبنان على صفيح ساخن تشعله السياسة والاقتصاد، يتخوف أبناؤه من اشتعال الجبهة جنوبًا، واستعار نار الحرب مع الكيان الإسرائيلي، في أعقاب إطلاق حزب الله صواريخ باتجاه الأراضي المحتلة والرد عليها.
إيران تريد أن تثبت للغرب والولايات المتحدة أنها قادرة على تحريك كل الأوراق الإقليمية من العراق إلى بيروت إلى عدن
لكن توقيت الجولة العسكرية تلك، يثير تساؤلات عن أهدافها وطبيعة علاقتها بالأوضاع الراهنة، لا سيما أن خيار الذهاب إلى الحرب هو آخر ما يريد اللبنانيون سماعه حاليًّا.
يستبعد المحلل السياسي صالح حنا نشوب حرب، ويقول: “كان حزب الله بحاجة إلى صرف الأنظار عما يجري في الداخل، خصوصًا تظاهرة الرابع من أغسطس/آب التي حملت شعارات مناهضة لكل طروحات حزب الله، مثل شعار “إسقاط الحصانات النيابية”، فحزب الله متمسك بمنع إرسال النواب المدعى عليهم إلى القضاء، وشعار “الإفلات من العقاب”، فالحزب يريد طي صفحة تفجير المرفأ”.
ويوضح صالح: “لهذا كانت الصواريخ المجهولة المعلومة، وكان الحادث الكبير في بلدة شويا عندما صادر الأهالي شاحنة صواريخ تابعة لحزب الله وسلموا عناصرها للجيش اللبناني، وهذا الإجراء يقع لأول مرة ضد حزب الله، وضد المقاومة التي يضعها فوق أي اعتبار”.
وفيما يخص الدافع الثاني لتحريك الجبهة جنوب لبنان، يؤكد صالح: “هو إقليمي، فإيران تريد أن تثبت للغرب والولايات المتحدة أنها قادرة على تحريك كل الأوراق الإقليمية من العراق إلى بيروت إلى عدن، بالإضافة إلى أنها تريد استخدام لبنان ورقة في التفاوض لدفع مفاوضات فيينا وفق ما تراه بعدما تسلم الفريق المتشدد كل مفاصل القرار في طهران”.
ويتابع صالح “حزب الله أطلق صواريخ باتجاه مناطق مفتوحة، أي أنه لم يشأ إلحاق الأذى وإيقاع قتلى في صفوف الإسرائليين، وإنما أراد تسجيل موقف وهو امتلاكه القدرة على تحريك الجبهة”.
ويستكمل صالح قوله: “إسرائيل ردت في نفس الاتجاه وأحدثت حرائق في الأحراج، محملةً الدولة اللبنانية المسؤولية عن أي عدوان عليها من حزب الله”، ويشدد صالح على أن الكيان اكتفى بهذا الرد لسبيين: “الأول هو الضغط الأمريكي عليه لمطالبته بتجنب التصعيد، فأمريكا في مرحلة انسحاب من المنطقة ولا تريد انفلاتًا أو تصعيدًا عسكريًا، أما الثاني فهو أنه لا مصلحة لـ”إسرائيل” بفتح جبهات جانبية والذهاب وفق مخطط تريده إيران، فـ”إسرائيل” تريد التركيز على منطقة الخليج، والوضع بينها وبين طهران في أعقاب حرب السفن والتهديدات المتبادلة”.
ويختم صالح حديثه قائلًا: “”إذا كان ثمة إمكانية على الدوام للتحكم بأوقات التصعيد، فإن أي إنزلاق قد يشعل المنطقة، هذا احتمال وارد، لكن على المدى القريب لا يبدو أن لدى حزب الله الإمكانية لمثل هذا العمل خصوصًا مع التراجع الاقتصادي المخيف في لبنان، وازدياد النقمة في كل الأوساط بما فيها البيئة التي كان يعتبرها حزب الله بيئةً صلبةً تقف إلى جانبه في كل الظروف، فلبنان أمام مجاعة، وطوابير الذل منتشرة أمام محطات الوقود والأفران والمستشفيات والصيدليات”.
رفع الدعم.. لبنان يقتل نفسه
منذ بدء الأزمة الاقتصادية قبل عامين، لم يدفع أحد الفاتورة في لبنان مثلما دفعها اللبناني واللاجئ الفلسطيني والنازح السوري، أما في العالم الموازي، فتنظم الطبقة الحاكمة الانهيار وتشرف عليه، وعند أي حراك مطلبي، إما أن تقمعه وإما أن تركب موجة الثورة، وكأنها لم تكن بالأمس القريب الفساد نفسه.
لكن الفساد بلغ مبلغه، فإعلان المصرف المركزي رفع الدعم عن المحروقات، ليصبح سعرها بحسب سعر صرف الدولار في السوق السوداء، قسم ظهر البعير بعد كل الضربات القاسية السابقة.
وما إن رفع الدعم حتى اختفت المحروقات من السوق إلا من خزانات المحتكرين، فيما لم يعرف بعد جدول الأسعار الذي ستعتمده وزارة الطاقة، في ظل خوفٍ من إقرار مجلس النواب قانونًا يجيز الصرف من الاحتياطي الإلزامي.
واقع عاش اللبنانيون أقسى تداعياته مع انفجار عكار الأخير ونداءات الاستغاثة لتأمين مستلزمات العلاج لعشرات المصابين بحروق بليغة، فيما لا يزال المستشفى التركي التخصصي لمعالجة الحروق في مدينة صيدا اللبنانية مختومًا بشمع المحاصصة
اختفاء الوقود من السوق إلى خزانات وصهاريج الاحتكار، منح لبنان دفعة أقوى لإكمال طريقه في مرحلة السقوط الحر، كما تصفها الخبيرة في الشأن الاقتصادي محاسن مرسل، وقالت مرسل: “الأمور تتجة إلى الأسوأ، نحن في حالة السقوط الحر ولم نصل بعد إلى الارتطام، يوجد تحلل في مؤسسات الدولة وانهيار في العملة الوطنية وتضخم في الأسعار يصل إلى 700% وانقطاع للكهرباء وخطر يتهدد القطاع الصحي”.
وتؤكد مرسل “السلطة السياسية لا تريد الحل، فالمجرم يعتمد سياسة الأرض المحروقة لإخفاء الأدلة، والمطلوب رد أموال المودعين ومعالجة تعدد سعر الصرف وإعداد خطة اقتصادية واضحة بشأن الفجوة المالية، لمخاطبة المجتمع الدولي”.
وإلى حين إعداد الخطة، إن حدث ذلك، لن يتمكن لبنان من مخاطبة المجتمع الدولي على أرضٍ صلبة، فالأرض انهارت وكل من كان عليها سقط في فضاء واسعٍ من الفساد، تكشف بعضًا من جوانبه إحصاءات رسمية ودولية.
فالبنك الدولي صنف الانهيار الاقتصادي في لبنان ضمن أسوأ 10 أزمات عالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر، وفي دراسة لكلية الصحة في الجامعة اللبنانية تبين أن أكثر من نصف اللبنانيين يعانون انعدم الأمن الغذائي، لا سيما في البقاع بنسبة 83%، تليها عكار 73%، وتكشف الدراسة تراجع عدد أبناء الطبقة الوسطى بنسبة 50% عما كانت عليه قبل بداية الأزمة الاقتصادية.
وفيما يخص كارثة الكهرباء، فلا أمن أيضًا، والتغذية لا تتعدى الساعتين يوميًا، يؤكد المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين، على الرغم من أن الأسر تكبدت في شهر يونيو/حزيران الفائت تكاليف باهظة بلغت 330 مليار ليرة، ذهب جلها لأصحاب المولدات بمعدل 600 ألف ليرة شهريًا للأسرة الواحدة.
كهرباء لبنان تلفظ أنفاسها الأخيرة، وكذلك المستشفيات، فقد أعلنت نقابة أصحاب المستشفيات الجامعية الخاصة الخمس في لبنان إغلاق أقسام مهمة فيها، جراء شح الوقود، يضاف هذا إلى رفوف فارغة من الأدوية وحليب الرضع في مئات الصيدليات على امتداد الأراضي اللبنانية، لتتفاقم مأساة القطاع الصحي المتدهور أصلًا جراء استمرار جائحة كورونا.
واقع عاش اللبنانيون أقسى تداعياته مع انفجار عكار الأخير ونداءات الاستغاثة لتأمين مستلزمات العلاج لعشرات المصابين بحروق بليغة، فيما لا يزال المستشفى التركي التخصصي لمعالجة الحروق في مدينة صيدا اللبنانية مختومًا بشمع المحاصصة.
أما أبواب الجريمة، ففتحت على مصراعيها، وفي آخر إحصاء عن قوى الأمن الداخلي اللبناني، تبين زيادة جرائم السلب بنسبة 147% عن العام الماضي، فيما بلغت جرائم سرقة المنازل والمحال والصيدليات 836 مقارنةً بـ650 نهاية العام الماضي، وفيما يخص جرائم القتل، فقد تم تسجيل 32 قتيلًا خلال الشهرين الماضيين مقابل 22 قتيلًا خلال الفترة نفسها في العام الفائت.
وتحاصر هذه المؤشرات آخر ما تبقى من أمل لدى اللبنانيين، أمل ربما يجابه وحيدًا جيشًا من الفساد فينتصر، وربما يسقط في صناديق الانتخابات المرتقبة، لتعيد إنتاج المنظومة الحاكمة نفسها، وتسلم مفاتيح لبنان إلى أمراء الحرب مجددًا، لاستكمال حروبهم الطاحنة ضد البشر والحجر.