يومًا بعد يوم تزداد الأوضاع المعيشية سوءًا في مختلف أنحاء سوريا، وتنكشف أحوال الناس على بعضها، في ظل الحاجة الضرورية لأساسيات الحياة التي أصبحت من الرفاهيات، ولم يعد بإمكان الناس تأمينها، ففي الشمال الشرقي من سوريا، وعلى وجه التحديد مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، لا يختلف الأمر كثيرًا عن مناطق سيطرة المعارضة ومناطق سيطرة نظام الأسد، فالمدنيون وحدهم الضحية، يكابدون ليل نهار في سبيل البقاء على قيد الحياة.
وفي ظل قسوة الحياة اليومية وصعوبة تأمين لقمة العيش، يشكل غياب المؤسسات الخدمية التي لا تلبي احتياجات الناس هناك من ماء وكهرباء وخدمات طبية وصحية وتعليم دورًا أساسيًا في سوء الحياة المعيشية التي يعاني منها معظم الأهالي المقيمين في الجزيرة السورية.
رصد موقع “نون بوست” من خلال مصادر محلية عديدة، الحياة المعيشية في منطقة الجزيرة السورية والأوضاع الخدمية التي تقدمها المؤسسات الخدمية التابعة للإدارة الذاتية، ورضا الأهالي عنها، في ظل استمرار التدهور المعيشي والاقتصادي للأهالي، بدت الحياة مختلفة بين منطقة وأخرى.
فقر وغياب لمصادر الدخل
يعتمد معظم القاطنين في منطقة الجزيرة شرقي سوريا على الزراعة باعتبارها المردود المعيشي أو مصدر الدخل الرئيسي الذي يبقيهم في مأمن طوال العام، إلا أن الزراعة هذا العام لم تأت أكلها، فلم يحصد السوريون هذا العام ثمن أتعابهم من الزراعة بسبب تدني الإنتاج الزراعي بفعل العوامل الجوية وندرة هطول الأمطار وانخفاض منسوب مياه الأنهار كما في باقي المحافظات السورية، التي تعاني ما يعيشه السوريون في شمال وشرق البلاد.
ومع غياب الإنتاج الزراعي فقدت فرص العمل التي يعمل بها العديد من معيلي الأسر بأجر يومي يحصل عليه نهاية اليوم، ولم يعد بإمكانهم مزاولة مهن أخرى لأن فرصة العمل نادرة في ظل الوضع الراهن، ويحاول البعض تأمين قوت يومه من العمل في البناء حال توفرت المشاريع، مع غياب تام للمنشآت والمؤسسات والمصانع والمعامل التي كانت في السابق تقدم العمل لآلاف الموظفين.
ويضطر الأهالي إلى العيش بشكل مقنن لعلهم يبقون على قيد الحياة، بينما تعمل نسبة قليلة جدًا من السكان في المنظمات الإنسانية والمؤسسات الرسمية مع انتشار للفساد والمحسوبيات التي بإمكانها أن توفر فرصة عمل لشخص وتترك آخر لأنه لا يملك واسطة.
قال الناشط الإعلامي، موسى الخلف الذي يقيم في محافظة الرقة شمال البلاد، خلال حديثه لموقع “نون بوست”: “70% من أهالي الرقة تحت خط الفقر، وفي حال توافرت فرصة العمل لأحدهم فإن مردودها لا يغني من جوع، وتصل نسبة الذين لا يملكون مصادر وموارد معيشية 50% من الشبان سواءً وظيفة أم عمل يومي”.
تتوافر المواد الغذائية والخضراوات وغيرها من احتياجات الناس بشكل وفير بالأسواق، لكنها تتعرض للعديد من التهديدات بسبب عبورها من مناطق سيطرة النظام إلى مناطق سيطرة الإدارة الذاتية
وأضاف “الأهالي يعتمدون على الزراعة وتعتبر موردهم الأول، وجميع العاملين بها سواءً في النقل أم العتالة أم الزراعة أم التجارة، لم يستطيعوا مزاولة مهنتهم هذا العام، لأن الإنتاج لم يغط النفقات التي وضعها المزارعون أمام الحقل الزراعي”.
وأكد “غياب فرص العمل ومصادر الدخل في آن معًا شكل واقعًا سيئًا أجبر الأهالي على إرسال أبنائهم للعمل في جمع البلاستيك والكرتون والحديد من مكبات النفايات، وفي آخر اليوم يبيع ما جناه من النفايات بمبلغ زهيد جدًا لا يسد رمق العائلة”.
توافر المواد الغذائية والخضراوات
تتوافر المواد الغذائية والخضراوات وغيرها من احتياجات الناس بشكل وفير بالأسواق، لكنها تتعرض للعديد من التهديدات بسبب عبورها من مناطق سيطرة النظام إلى مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، ولا يخلو الأمر من تحكم فعلي لتجار الحرب في الأسعار.
تقول رواية محمد خلال حديثها لموقع “نون بوست”: “توافر الخضراوات والمواد الغذائية متعلق بالمعابر بين قسد ونظام الأسد وعندما تمنع قسد مرور المحروقات تتعرض المنطقة للحرمان المباشر من المواد الغذائية والخضار”، وتضيف “معظم المواد الغذائية التي يتم تسويقها في المنطقة صناعة إيرانية تأتي من العراق بأسعار مرتفعة أيضًا”.
خدمات معدومة
تعتبر الخدمات الجزء الرئيسي من مقومات الحياة التي يبحث عنها الأهالي في الجزيرة السورية التي غابت عنها معظم الخدمات الرئيسية التي لا يمكن التخلي عنها بشتى الأحوال وأبرزها الكهرباء والماء والنظافة، وغياب هذه الخدمات جعل المنطقة فاقدةً لمقومات الحياة المعيشية لدى نسبة كبيرة من الأهالي الذين هم غير قادرين على الاشتراك بمولدات الأمبيرات أو استخدام الطاقة الشمسية، بسبب الظروف المادية.
محمود الحمد أحد المقيمين في ريف دير الزور الواقع تحت سيطرة قسد يقول خلال حديثه لموقع “نون بوست” إن منزله لم ير النور منذ أيام، بسبب قطع الكهرباء عن منزله من مولدات الأمبيرات التي تغذي الحي الذي يقيم به، وتم قطع الكهرباء عنه لأنه لم يتمكن من دفع أجور الأمبير الشهرية التي تتعدى الـ10 دولارات أمريكية، ما أجبره على وصل ضوء واحد من أحد الجيران.
ويضيف “مشكلة الكهرباء ليست جديدة والمنطقة لا يوجد فيها كهرباء منذ سنوات، والأمبيرات لا تغطي معظم الأحياء مع ارتفاع أسعارها”، كما أكد أنه يشتري الماء من الصهاريج بأسعار مرتفعة.
من جهته أشار موسى الخلف خلال حديثه لموقع “نون بوست” إلى أن العمل المؤسساتي للخدمات البلدية التي يجب أن تقدم للأهالي متدنية جدًا ولا ترقى إلى المستوى المأمول، علمًا بأن منظمات عديدة دعمت المجلس المدني التابع للإدارة الذاتية من أجل توفير الكهرباء والماء للأهالي، إلا أن المشاريع لم تخرج إلى الواقع، والمبالغ المالية المقدمة لدعم المشاريع تنهبها شخصيات بارزة تابعة لقسد.
أكثر المؤسسات الإدارية فشلًا هي البلديات وخدماتها لأنها غير قادرة على توفير الماء والكهرباء، وغياب خدمات النظافة وتعبيد الطرق وغيرها
ويبدو أن الواقع المعيشي المتردي مع غياب الخدمات شكل نوعًا سيئًا من المعاناة التي يشتكي معظم سكان الشمال الشرقي منها في ظل فساد مستشرٍ تعيشه معظم المؤسسات المدنية والإدارية، التابعة للإدارة الذاتية، التي لا تخلو من عمليات نهب واختلاس الأموال.
مصدر محلي من ريف الحسكة رفض كشف اسمه لأسباب أمنية، أكد لموقع “نون بوست” أن أكثر المؤسسات الإدارية فشلًا هي البلديات وخدماتها لأنها غير قادرة على توفير الماء والكهرباء، وغياب خدمات النظافة وتعبيد الطرق وغيرها.
التعليم والصحة.. اهتمام هنا وإهمال هناك!
يعتبر القطاع التعليمي من أهم القطاعات التي يمكنها أن تؤثر في المجتمعات، التي قد تمتد إلى أجيال لاحقة في حال فشلها أو نجاحاها، بسبب دورها البارز في بناء المجتمع أو تدميره.
المصدر ذاته من مدينة عامودا بريف الحسكة قال لموقع “نون بوست”: “مناهج الإدارة الذاتية تدرس في المدارس العامة، علمًا بأن الأخيرة تسعى جاهدةً من أجل إنجاح العملية التعليمية، لكن على ما يبدو أن المعلمين غير قادرين على تأدية واجبهم التعليمي مع المنهاج الجديد، ما دفع الإدارة الذاتية إلى إنشاء دورات تدريبية للمعلمين تتضمن طرائق تدريسية وعملية، بينما العائلات الميسورة الحال تتابع تعليم أبنائها في المدارس الخاصة التي تدرس منهاج حكومة النظام”.
وأكد مصدرنا في محافظة الحسكة أن القطاع الصحي في القامشلي وعامودا وأرياف المدينة يعتبر من أنجح القطاعات لأنه يقدم خدماته الطبية مجانًا بدعم من المنظمات الدولية وحسن في المعاملة للناس، بينما يشتكي الأهالي من ارتفاع المعاينات الطبية في العيادات الخاصة”.
على الرغم من حسن تعامل السلطات المحلية المتمثلة بالإدارة الذاتية في تقديم الخدمات الطبية والتعليمية للمدنيين، فإن الأمر يختلف في محافظة الرقة، بسبب انهيار المنظومة التعليمية بشكل غير مسبوق وارتفاع أعداد المتسربين من الأطفال وعمالة البعض منهم لأسباب متعددة أبرزها سياسة الإدارة الذاتية في المحافظة.
يقول موسى الخلف خلال حديثه لموقع “نون بوست”: “العملية التعليمية انهارت بشكل كامل خلال سيطرة الإدارة الذاتية وقسد على المنطقة، لأن أكثر من 60% من الأطفال يعملون في ورشات صناعية أو يجمعون الحديد والبلاستيك من مكبات النفايات من أجل تأمين قوت يوم أسرهم”.
وأضاف الخلف “فرض الإدارة الذاتية لمناهجها الخاصة باللغة الكردية، ساهم في عزوف الأهالي عن إرسال أبنائهم إلى المدرسة، مع فشل الكوادر التعليمية بسبب تزوير الشهادات، التي يعمل بها معظم الكوادر التعليمية”.
وعن الواقع الطبي أشار موسى الخلف إلى أن الواقع الطبي متردٍ في الرقة، ولا يخلو الأمر من محسوبيات وفساد إداري في المشافي واستهانة بحياة الناس في ظل سيطرة الإدارة الذاتية، ناهيك بممارسة العديد من الأشخاص مهنة التمريض والطب بشهادات مزورة ومقبولة لدى إدارة المنطقة دون متابعة للموضوع.
فساد وتمييز
ينتشر الفساد والمحسوبيات في جميع المؤسسات الرسمية والخدمية وفي معظم الأحيان تميل الكفة إلى الكرد الذين يعاملون من الإدارة الذاتية بشكل خاص، دون القوميات الأخرى سواءً العربية أم السريانية وغيرها.
التمييز الذي تستخدمه قسد بين منطقة وأخرى تسبب في شرخ كبير بين المجتمعات المحلية من العرب والكرد الذين يحصلون على امتيازات أفضل من كونهم عرب من الدرجة الثانية
يقول موسى الخلف خلال حديثه لموقع “نون بوست”: “المعاملة مختلفة عندنا في الرقة عن باقي المناطق، فنحن الغالبية العظمى عندنا عرب ومعظم العاملين في المؤسسات من الكرد، وهنا مفارقة كبيرة ويجب مراعاتها”.
وأضاف “لا يمكن للعربي الحصول على وظيفة في المؤسسات أو المنظمات المحلية إلا بتزكية من أحد أصدقائه الكرد، والأولوية للكردي قبل العربي، وقد يصل الأمر في استغلال حاجة الشخص للعمل من خلال تخليه عن الراتب الأول”. وأوضح أن الفساد يكون بشكل منظم بين شخصيات محسوبة على قسد أو أقرباء القادة من الصف الأول وغيرهم.
ويبدو أن التمييز الذي تستخدمه قسد بين منطقة وأخرى تسبب في شرخ كبير بين المجتمعات المحلية من العرب والكرد الذين يحصلون على امتيازات أفضل من كونهم عرب من الدرجة الثانية، وفي ظل الفساد المستشري في المؤسسات المدنية بمحافظات الرقة ودير الزور والحسكة إلا أن الأهالي باتوا في خوف شديد من قسد التي تستخدم سياسة تكميم الأفواه والضغط وممارسة العقوبة لمن لا يقبل بها كسلطة محلية.
تبدو الحياة في شمال شرق سوريا أشبه بروتينية في حين تستفيد قسد من خيراتها بينما الأهالي لا يستطيعون جني قوت يومهم على أقل تقدير، كما تفرض عليهم الضرائب والتجنيد الإجباري في صفوفها، ما يجعل المنطقة في منعطفات مفصلية لا يحمد عقباها.