منذ أن فرضت السلطات الإسرائيلية الحصار على قطاع غزة قبل حوالي 14 عامًا، بدأت بوابة معبر رفح تغلق لشهور طويلة أمام الغزّيين بفعل قرار سياسي، وحين كانت تفتح بوابتها فقط لأيام قليلة يتدافعُ فيها أصحاب الحاجة إلى السفر، إلا أن الأولوية للطَّلَبة والمرضى وأصحاب العلاج، ولذلك ليس سهلًا حين تعيش في غزة، أن تقرِّر حزم حقائبك للسفر وقتما تشاء، فكل شيء في البقعة المحاصرة بثمن، وحتى لا تعاني مشقّة الطريق عند الخروج من معبر رفح الحدودي إلى جمهورية مصر العربية، ومن ثم تحلِّق إلى البقعة التي تشاء، أمامك خياران: إمّا الانتظار حتى يحين دورك في كشف المسافرين، وتتكبّد عناء التفتيش على الحواجز طيلة الطريق، وإمّا التنسيق (دفع مبلغ من المال) والسفر برفاهية إلى حيث تشاء.
وبات مصطلح “مسافر تنسيق” متداولًا على ألسنة الغزّيين، بعد أن أدرك الجانب المصري حاجة الغزّيين إلى السفر، حيث يتكبّد المسافر عند خروجه من القطاع حوالي 3 آلاف دولار تُدفع للضبّاط المصريين على المعبر، من خلال “سماسرة” لهم في غزة، وبالتالي لا يمكن النظر إلى “التنسيق” سوى على أنه استغلال لحاجة المواطنين الراغبين بالسفر، عبر تلقّي أموال مقابل تسهيل سفرهم عبر معبر رفح البرّي، من خلال التواصُل مع متنفّذين في المعبر بالجانب المصري لإرسال أسمائهم إلى الجانب الفلسطيني، يطلبون منهم تسهيل سفرهم.
“التنسيق” خيار مرهق ولكن
يلجأ الغزّي للتنسيق متعمِّدًا، على الرغم من أنه مرهق ماديًّا لجيوبهم في ظلِّ الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشونها، للابتعاد عن الإهانة والذل على الحواجز والكمائن التي تنتظر المسافرين لتفتيشهم بطريقة مهينة، حيث يتمّ إفراغ كل ما في حقائبهم على الأرض، وهذه العملية تتكرر أكثر من 5 مرات، وحين يصل المسافر يجدُ الكثير من حاجاته قد سُرقت من قبل الجنود، لا سيما العطور وأجهزة اللابتوب أو حتى الأموال التي تكون بين الملابس.
وبذلك فإنه مهرب يضطر له المسافر بدلًا من الطريق الطويل من غزة إلى القاهرة، والذي يصل إلى أكثر من 10 ساعات أو يوم بأكمله تجعله يخسر حجز طيرانه أحيانًا، أو المبيت في الصحراء، لكن بواسطة التنسيق يكون الوصول خلال 6 ساعات تقريبًا بمجرد الحصول على الختم من الصالة المصرية.
وبقيَ الحال على ما هو عليه لعدة سنوات، حتى أصبح بشكل معلن ويتمّ التنسيق والدفع عبر مكاتب السياحة والسفر، عدا عن وجود شركة “يا هلا” المصرية التي لها مكتب في قطاع غزة المحاصر، يتم من خلاله التسجيل للسفر متى يشاء الغزّي، ويدفع مبلغًا من المال حيث إن بورصة التنسيقات تختلف يومًا عن الآخر، تتراوح بين 600 و1200 دولار، وللصغار سعر مختلف.
يقول صاحب مكتب للسياحة والسفر -رفض ذكر اسمه- إن هناك فئة من المواطنين مدرجة أسمائهم على القائمة السوداء، وممنوعين أمنيًّا دخول مصر كالنشطاء والقادة السياسيين إلا في حالة واحدة، هي التنسيق ودفع مبلغ يصل إلى 6 آلاف دولار، حيث يُسمّى هذا النوع “تنسيق دون العرض” تتكفل به الجهة التي نسّق فيها المسافر من لحظة خروجه من بيته حتى وصوله الأراضي المصرية، دون أن يعترض طريقه رجال المخابرات المصرية بإرجاعه لغزة أو اعتقاله.
بحسب متابعة كشف التنسيقات، يخرج من قطاع غزة المحاصر أكثر من 100 مسافر يوميًّا.
وذكر لـ”نون بوست” أن هناك مكاتب صغيرة كشركته، يتمّ التنسيق عبرها بمبالغ بسيطة حسب واسطة صاحب المكتب لدى الضبّاط في الصالة المصرية، وينسّق بشكل يومي من خلالها لعدد قليل من الأفراد، بخلاف شركة “يا هلا” المصرية التي يسافر من خلالها العشرات من المسافرين.
وفي سؤال حول مدى تجرّؤ وسطاء التنسيق بغزة لاتّخاذ موقف حازم والتوقف عن التنسيق، ردّ: “ندرك أن هناك شبهة، لكن في حال توقفنا ستظهر شركات أخرى للتنسيق”، معلّقًا: “هذا رزقنا”.
وبات معبر رفح مفتوحًا بشكل يومي عدا يومَي الجمعة والسبت والإجازات المصرية الرسمية منذ 2018، ومع ذلك بقيَ التنسيق مستمرًّا لا سيما للشباب الذين هم دون الـ 40 عامًا، وفي أحيانٍ أخرى يتم إرجاع كبار السن ودعوتهم للتنسيق.
وبحسب متابعة كشف التنسيقات، يخرج من قطاع غزة المحاصر أكثر من 100 مسافر يوميًّا، ولو افترضنا أن الحد الأدنى للتنسيق 500 دولار سيكون حجم التنسيقات يوميًّا ما لا يقل عن 50 ألف دولار، وبمتوسط مليون دولار شهريًّا وأكثر.
وتجدرُ الإشارة إلى وجود نوع آخر من التنسيقات غير مدفوع الثمن، يتمّ من خلال الفصائل الفلسطينية أو عبر وسطاء تابعين للتيار الإصلاحي الذي يقوده محمد دحلان.
قصص المعاناة
حالة من القلق تنتابُ الغزّيين لحظة دخولهم الصالة المصرية، يحاولون تجاذُب أطراف الحديث فيما بينهم من 5 إلى 8 ساعات وهم ينتظرون ختم الضابط بالدخول، فمجمل الأحاديث بعيدة عن المعاناة، حيث لا يجرؤ أحد أن يتذمّر بالعلن خشية العقاب والرجوع إلى غزة.
وليس شرطًا أن يُدرَج اسم المسافر ضمن كشف التنسيقات ويدخل الأراضي المصرية، فهناك العشرات من المسافرين لم يُسمح لهم بالسفر لأسباب عديدة، منها أن سعر التنسيق الذي دُفع قليل والمسافر المُرجَع يكون على قائمة الممنوعين من السفر لدى المصريين.
يقول مصطفى (36 عامًا) إنه قرر السفر برفقة زوجته لعلاج طفله الصغير الذي يعاني الصدفية في مصر، جهّز الأوراق الطبية وسجّل ضمن قوائم المسافرين لدى وزارة الداخلية، وبعد أسبوع كان اسمه ضمن الكشف، جهّز حقيبته وخرجَ برفقة عائلته.
يتابع: “كنت في الباص الأول مع عائلتي، وبعد دخولنا للصالة المصرية بـ 3 ساعات ختمَ لزوجتي وطفلي بالدخول، بينما كنت أتردّدُ لـ 3 مرات على مكتب ضابط المخابرات وسؤالي عن سبب سفري ومكان إقامتي (..) وبعد 8 ساعات من الترقُّب والانتظار أرجعوني بحجّة أنني تحت سن الـ 40”.
ويؤكد مصطفى لـ”نون بوست” أنه حاول كثيرًا مع الضابط ليرأف بحاله، كون زوجته لا تعرف الطريق، وعليه أن يكمل رحلته برفقتها لكنه رفض وطلب منه بالعلن: “حضرتك ترجع تنسيق، وزوجتك وابنك يكملا طريقهما”، مشيرًا إلى أنه نفّذَ ما طلب منه وعاد بعد 3 أيام بعدما دفع 650 دولارًا لمكتب تنسيقات في قطاع غزة المحاصر.
أما الشاب أشرف محمود، حصلَ على فرصة عمل في الدوحة بمجال المونتاج، تحمّس كثيرًا للسفر وسلكَ طريق التنسيقات في المرة الأولى ودفع مبلغ 900 دولار، وحين دخلَ الصالة المصرية وبعد ساعات انتظار تفاجأ أنه “ممنوع دخول مصر” لسبب يجهله، حاول 3 مرات ودفع حوالي 5 آلاف دولار خلال عام، لكن لا يزال قرار المنع مستمرًّا.
يقول لـ”نون بوست”: “أشعر بالقهر لخسارتي فرصة العمل وما ادّخرته من مال (..) سعيت لمعرفة سبب المنع لكن لا جوابًا شافيًا، وفي حال حصلت على عقد عمل آخر سأنسّق عبر الفصائل، هذا ملجأي الأخير”.
باعَ مَصَاغ زوجته واستلفَ مبلغًا من المال ليخرج وعائلته مؤمّنًا من قطاع غزة المحاصر دون إرجاعهم.
وإن كان أشرف يجهل أسباب منعه السفر، فالشاب عيسى يدركها جيدًا، سافر قبل 3 سنوات إلى تركيا بعدما حصل على فرصة عمل في شركة سياحية، وحين قرّر العودة في مايو/ أيار الماضي لقضاء شهر رمضان وعيد الفطر رفقة عائلته، تفاجأ بعدما انتهت إجازته والسفر عبر كشف التنسيقات أنه ممنوع أمنيًّا من قبل الأمن الوطني المصري.
يذكر لـ”نون بوست” أن “حظه حلو”، فلم يُلقَ القبض عليه داخل الصالة المصرية بل فقط اكتفوا بإرجاعه، والسبب أن هناك تشابه أسماء مع شاب مصنَّف “إرهابي” تابع لـ”داعش”، موضّحًا أنه حاول مرارًا السفر وأن يجد واسطة لدى المخابرات المصرية لكن الجواب “ممنوع”، رغم أنه حاول دفع 10 آلاف دولار.
وهناك عائلات بأكملها تقرِّر الرحيل عن قطاع غزة المحاصر، بحثًا عن مصدر رزق بعدما ضاقت بهم السُّبُل لتأمين حياة كريمة، فنجد ضمن كشوفات التنسيق العشرات من العائلات التي تخرج يوميًّا من قطاع غزة، كحال أسرة حسام أحمد، الذي قرّر تركَ وظيفته الحكومية التي يتقاضى منها شهريًّا 500 دولار لإعالة أسرته المكوَّنة من 5 أفراد.
يحكي أنه باعَ مَصَاغ زوجته واستلفَ مبلغًا من المال ليخرج وعائلته مؤمّنًا من قطاع غزة المحاصر دون إرجاعهم، فالبحث عن حياة كريمة لصغاره في أوروبا ليس مستحيلًا طالما يمتلكُ لغة إنجليزية وصحّة جيدة، حيث بعدما دفع 12 ألف دولار وصل إلى بلجيكا.
التنسيق غير قانوني
يقول الكاتب الحقوقي مصطفى إبراهيم لـ”نون بوست”، إن حرية التنقل والسفر مكفولة للجميع وفق القوانين الدولية، لكن الحالة الفلسطينية مختلفة بسبب معبر رفح، حيث لا حرية ولا كرامة للمواطنين، رغم إرهاق جيوبهم خلال سعيهم دخول الأراضي المصرية.
ويضيف الحقوقي لـ”نون بوست”: “هناك حالة من الضغط على المسافر الغزّي سواء المريض أو الطالب، فالتنسيق يرهقه ماديًّا، حيث إن المبلغ الذي دفعه يفوق فاتورة علاجه أو دراسته، ما يضطره لاقتطاع جزء كبير من مصروف سفره للتنسيق”.
وذكر أن المواطن الغزّي يلجأ لطرق غير قانونية -يقصد التنسيق- للتغلب على أزمة السفر، مؤكّدًا أن هذا الأمر غير أخلاقي أو قانوني وذلك لغياب المعايير التي يتم وفقها تحديد المسافرين، بالإضافة إلى أن سعر التنسيق يفوق تذكرة السفر إلى أوروبا.
ولفت إبراهيم إلى أن التنسيقات تدحضُ الرواية المصرية التي تدّعي أن الأوضاع الأمنية لا تسمح بمرور المسافرين، متسائلًا: كيف تُسهّل أمور المسافرين عند الدفع؟
الحديث عن حكايا المسافرين الغزّيين لا ينتهي، بل يحتاج إلى مسلسلات بأجزاء طويلة لتروي للأجيال معاناة مليونَي محاصَر، لا يمتلك أي منهم قرار سفره إلا بدفع الدولارات.
وأشار إلى أن التنسيق ودفع الأموال عبر وسطاء يُعتبر رشوة، وهذا غير قانوني، رغم أنهم يسمّونها “تسهيلات”، لافتًا في الوقت ذاته أن الطريقة القانونية -كشوفات وزارة الداخلية بغزة- تأخذ وقتًا طويلًا ما يدفع المسافرين لدفع المال.
وتجدر الإشارة إلى أن الطريقة القانونية هي التي يلجأ إليها المواطن في قطاع غزة للتسجيل في مجمع أبو خضرة الحكومي داخل القطاع في دائرة الجوازات، وينتظر دوره، وقد تطول المدة وتصل إلى شهرَين أو ثلاثة.
وتمنع السلطات المصرية دخول الفلسطينيين أراضيها دون سنّ الـ 40 دون سبب واضح للسفر، كإجراءات أمنية، بالإضافة إلى أنه يسافر يوميًّا عبر الطريقة القانونية حوالي 500 مسافر. كما يجب على المسجّلين أن يقدموا سببًا للسفر إلى الجانب المصري، سواء طالب يحتاج إلى إكمال تعليمه أو مريض بحاجة إلى علاج، أو مسافر يحتاج إلى تجديد إقامته أو تأشيرته أو عقد عمله.
وللتنسيقات عبر معبر رفح تأثيرات اقتصادية، كما يقول الخبير أسامة نوفل، موضّحًا أن عملية التنسيق تكلّفُ كل مواطن مبلغًا كبيرًا يصل إلى أكثر من ألف دولار.
وبالتالي هناك مشكلة يعانيها قطاع غزة المحاصر بالنسبة إلى الدولار، فيؤثِّر سلبًا على مدخرات القطاع من العملة الأجنبية، وبالتالي ينخفض سعرها في السوق المحلية، حيث إن أكثر من مليون دولار تكلِّف التنسيقات عبر معبر رفح شهريًّا، ما يرهق المسافرين.
الحديث عن حكايا المسافرين الغزّيين لا ينتهي، بل يحتاج إلى مسلسلات بأجزاء طويلة لتروي للأجيال معاناة مليونَي محاصر، لا يمتلك أي منهم قرار سفره إلا بدفع الدولارات، الأمر الذي يعرقل مستقبل طَلَبة ومرضى وأصحاب إقامات بحاجة إلى السفر، أكثر من أصحاب الأموال الذين يسهل سفرهم إلى حدٍّ ما.