ترجمة وتحرير: نون بوست
وثقت صحيفة “واشنطن بوست” في سلسلة تقارير تتكون من 6 أجزاء بعنوان “الحرب مع الحقيقة“، وترجمها “نون بوست”، تمادي الإدارة الأمريكية وقياداتها العسكرية في قول الأكاذيب وتضليل الرأي العام طوال الحملة العسكرية التي استمرت 18 سنة في أفغانستان، وذلك عبر اختلاق الأدلة وتحريف الإحصائيات وقمع الانتقادات اللاذعة والشكوك حول الحرب، لجعل الولايات المتحدة تبدو وكأنها تكسب الحرب بينما لم يكن الأمر كذلك على أرض الواقع.
إليك نص الجزء الثاني من هذه السلسلة:
في البداية كان الهدف المعلن من وراء غزو أفغانستان واضحا، وهو تدمير تنظيم القاعدة وإسقاط جماعة طالبان ومنع تكرار هجمات إرهابية كالتي حدثت في 11 أيلول/ سبتمبر.
وفي غضون ستة أشهر، تمكنت الولايات المتحدة من تحقيق جزء كبير من أهدافها المرسومة، حيث أن قادة القاعدة وطالبان كانوا في عداد الموتى أو الأسرى أو في المخابئ.
بعد ذلك ارتكبت الحكومة الأمريكية خطأ جوهريا استمر على مدار 17 عاما، وهو ما تكشفه وثائق حكومية سرية حصلت عليها واشنطن بوست. وخلال المئات من الاستجوابات السرية التي تشكل التاريخ السري لهذه الحرب، أقر مسؤولون في الولايات المتحدة والدول الحليفة بأنهم انحرفوا في اتجاهات لا علاقة لها بتنظيم القاعدة وهجمات 11 أيلول/ سبتمبر. ومن خلال توسيع نطاق المهمة الأصلية، أقر هؤلاء بأنهم تبنوا استراتيجيات تضمنت أخطاء فادحة، بناء على افتراضات غير صحيحة حول بلد لم يفهموه جيدا. والنتيجة صراع لا يمكن الفوز به، ولا توجد طريقة سهلة للخروج منه.
قال ريتشارد بوشيه، الذي عمل في وزارة الخارجية وكان دبلوماسيا رفيع المستوى في منطقة جنوب آسيا بين 2006 و2009: “إذا كان هناك مثال حي حول الفشل في مهمة ما، فإنه أفغانستان”. وبحسب نسخة مكتوبة من تصريحاته في 2015، يضيف بوشيه: “كان علينا أن نكتفي بما تحقق ونعتبره جيدا. ولكننا بقينا هناك بعد 15 عاما لأننا كنا نحاول تحقيق المستحيل عوض تحقيق ما هو ممكن”.
في هذه الإفادات الصريحة بشكل غير مألوف، أقر مسؤولون عملوا تحت قيادة جورج بوش الابن وباراك أوباما، بأن الرئيسين فشلا في أهم مسؤولية بصفتهما قائدين للقوات المسلحة، وهي وضع استراتيجية واضحة للحرب وأهداف دقيقة ومنطقية. كما أقر دبلوماسيون وقادة عسكريون بأنهم واجهوا صعوبة في الإجابة على سؤال بسيط: “من هو العدو؟ من الذين يمكن اعتبارهم حلفاء؟ كيف سنعرف أننا فزنا؟”
اتسمت استراتيجية الرئيسين جورج بوش الابن وباراك أوباما بالتناقض الحاد، وارتكب كلاهما أخطاء مبكرة كان مستحيلا تداركها، بحسب إفادات المسؤولين. وبعد سلسلة من الانتصارات العسكرية في 2001 وبداية 2002، قرر بوش الإبقاء على عدد محدود من القوات الأمريكية في أفغانستان دون قيد زمني، من أجل تعقب الإرهابيين المحتملين. ولكن سرعان ما وضع الرئيس السابق خطة لغزو دولة أخرى هي العراق، وباتت أفغانستان بالنسبة له مسألة ثانوية.
في حوار له مع مسؤولين حكوميين، قال جيمس دوبنز، الديبلوماسي المخضرم الذي تم تعيينه كمبعوث خاص لأفغانستان في إدارتي بوش وأوباما، إن ذلك القرار المتغطرس كان خاطئا، وهذا الأمر كان يفترض أن يكون واضحا منذ البداية. وأضاف دوبنز بحسب نسخة مكتوبة من إفادته: “أولا وبكل بساطة، يجب عليك أن تغزو بلدا واحدا في كل مرة. أنا أتكلم بكل جدية. إن غزو أكثر من بلد أمر يتطلب الكثير من الوقت والاهتمام، وقد تعقدت مهمتنا بغزو أكثر من بلد واحد في نفس الوقت”.
مع وصول أوباما إلى البيت الأبيض في 2009، كانت القاعدة قد اختفت تقريبا من أفغانستان، لكن طالبان تمكنت من العودة بقوة. حينها، قرر أوباما رمي استراتيجية بوش لمكافحة الإرهاب في القمامة، والمصادقة على مخطط آخر معاكس تماما، يتمثل في حملة مكافحة تمرد ضخمة، قوامها 150 ألف جندي من الجيش الأمريكي وحلف الناتو، إلى جانب أطنان من المساعدات للحكومة الأفغانية الضعيفة.
على عكس بوش، فرض أوباما تواريخ نهائية صارمة وتعهد بعودة كل القوات المسلحة إلى أرض الوطن بنهاية عهدته الرئاسية. إلا أن استراتيجية أوباما كان مصيرها الفشل. وذكر مسؤولون أفغان وأمريكان وآخرون من حلف الناتو في إفاداتهم أن إدارة أوباما حاولت تحقيق الكثير من الإنجازات في وقت قصير، واعتمدت على حكومة أفغانية فاسدة وعاجزة.
والأسوأ من ذلك حسب هذه الإفادات، أن أوباما حاول وضع مواعيد غير واقعية لنهاية الحرب قبل أن تنتهي فعلا. حينها، لم يكن على مقاتلي طالبان إلا انتظار انقضاء تلك المواعيد. وذكر بوب كراولي، العقيد المتقاعد من الجيش الأمريكي، والذي خدم كمستشار لمكافحة التمرد في 2013 و2014: “لقد كانت هناك مجموعة من الافتراضات الخاطئة في استراتيجية أوباما: وهي أن أفغانستان مستعدة للديمقراطية بين عشية وضحاها، وأن الشعب سيدعم الحكومة ضمن مخطط قصير المدى، وأن الإكثار من كل شيء سيجعل الأمور أفضل”.
على مدى 18 سنة الماضية، تم نشر أكثر من 775 ألف جندي أمريكي في أفغانستان، منهم من تم إرسالهم مرات عديدة. ومن بين هؤلاء، توفي 2300 جنديا وجُرح 20589، بحسب أرقام وزارة الدفاع.
اليوم، لا يزال حوالي 13 ألف عسكري أمريكي في أفغانستان. وتقر واشنطن بأن طالبان باتت اليوم أقوى من أي وقت مضى منذ حرب 2001، ولكن رغم كل هذا لا نسمع اعترافا علنيا وشاملا بأن أطول حرب في تاريخ الجيش الأمريكي قد فشلت.
لم نر على سبيل المثال تشكيل لجنة أفغانستان على غرار لجنة هجمات 11 أيلول/ سبتمبر التي حملت الحكومة مسؤولية أسوأ هجوم إرهابي على الأراضي الأمريكية. ولم نر النسخة الأفغانية من جلسات استماع فولبرايت، التي استجوب فيها أعضاء مجلس الشيوخ بكل شراسة المسؤولين عن حرب فيتنام. ولم نر النسخة الأفغانية من التقرير الرسمي للجيش، على غرار ذلك التقرير المكون من 1300 صفحة حول الحرب في العراق.
في 2014، قررت وكالة فدرالية صغيرة أنشأها الكونغرس ملء هذا الفراغ. أطلق مكتب المفتش العام لإعادة الإعمار في أفغانستان، والمسمى اختصارا “مكتب سيغار”، مشروعا بتكلفة 11 مليون دولار تحت شعار “الدروس المستفادة”، بهدف دراسة الأخطاء الجوهرية في الحرب. وبعد استجواب أكثر من 600 شخص، نشر موظفو هذه الوكالة سبعة تقارير تضمنت توصيات بتعديلات سياسية.
لتجنب أي جدل، عمد “مكتب سيغار” إلى تعويم كل الانتقادات الحادة التي وردت في الإفادات ضمن تقرير “الدروس المستفادة”، كما حذف أسماء أكثر من 90 بالمئة من الأشخاص الذين تم التحدث معهم، وتخلى عن خطة لنشر تقرير منفصل حول نقاط الضعف في استراتيجية حرب أفغانستان.
بعد معركة قضائية دامت ثلاث سنوات، تمكنت واشنطن بوست من الحصول على مراسلات ونسخ مكتوبة إلى جانب العديد من التسجيلات الصوتية لأكثر من 400 مقابلة. وكشفت هذه الوثائق أن الشخصيات المسؤولة بشكل مباشر عن الحرب، لم تتمكن من تحديد الاستراتيجية والأهداف بدقة، حتى عندما كان بوش ثم أوباما ومن بعدهما ترامب يخبرون الشعب الأمريكي بأنه من الضروري مواصلة القتال.
قال مسؤول أمريكي لم تكُشف هويته تولى سابقا مهمة تنسيقية لدى حلف الناتو: “ما الذي كنا نفعله في ذلك البلد؟ ما هي أهدافنا؟ بناء أمة؟ حقوق المرأة؟ لم يكن أبدا واضحا في أذهاننا ما هي الأهداف المحددة والمواعيد الزمنية”. وقد ذكر جيفري إيغرز، الضابط المتقاعد من البحرية والمسؤول في البيت الأبيض في فترتي رئاسة بوش وأوباما، أن أشخاصا قليلين طرحوا أسئلة حول المغزى من الإبقاء على قوات أمريكية في أفغانستان.
قال إيغرز في إفادته ضمن تقرير الدروس المستفادة: “لماذا جعلنا من طالبان عدوا، بينما تنظيم القاعدة هو من هاجمنا؟ لماذا أردنا أن نقضي على طالبان؟ لم يستطع المسؤولون السياسيون أخذ خطوة إلى الوراء وإعادة النظر في الأهداف. كما اعتبر بوشيه، وهو دبلوماسي مخضرم ومتحدث سابق باسم وزارة الخارجية في إدارة بوش أن “المسؤولين الأمريكيين لم يكونوا يدركون ما يقومون به”.
قال بوشيه في سلسلة المقابلات مع الجهات الحكومية التي أعدت التقرير: “في البداية ذهبنا وراء القاعدة، ونجحنا في إخراجها من أفغانستان دون أن نقتل بن لادن. كان مقاتلو طالبان يردّون علينا بإطلاق النار، فبدأنا نحن أيضا بمهاجمتهم، وهكذا أصبحوا هم العدو. وفي النهاية قمنا بتمديد المهمة”.
في إحدى المقابلات الصحفية مع قناة “أم أس أن بي سي” الأمريكية، قال وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد في معرض حديثه عن طالبان والقاعدة: “الشيء الوحيد الذي يسعك فعله هو قصفهم ومحاولة قتلهم. وهذا ما قمنا به وقد نجح الأمر. لقد اختفوا”.
يمكن اعتبار هذا التصريح من دونالد رامسفيلد، واحدا من مرات عديدة أخطأ فيها قادة أمريكيون حين اعتقدوا أنهم سينهون الحرب وفقا لشروطهم، بينما كانت طالبان قد تعرضت لضربات قوية ولكنها حافظت على وجودها.
وقعت إدارة بوش في فخ الثقة المفرطة بعد أن اعتقدت أنها تستطيع تحقيق انتصار سهل في أفغانستان، ورفضت الجلوس مع قادة طالبان المهزومين من أجل التفاوض على سلام دائم، وهو موقف ندم عليه عدة مسؤولين في وقت لاحق.
تم إقصاء طالبان من المؤتمرات الدولية والاجتماعات بشأن أفغانستان خلال الفترة بين 2001 و2003، التي تم خلالها تشكيل حكومة أفغانية جديدة، وذلك على الرغم من أن بعض قيادات طالبان أظهروا استعدادا للمشاركة. عوضا عن ذلك، عرضت الولايات المتحدة مكافأة على من يقبض على قادة الحركة وأرسلت المئات منهم للسجن العسكري في غوانتانامو.
يذكر بارنيت روبن، الأكاديمي الأمريكي والخبير في شؤون أفغانستان، الذي عمل كخبير لدى الأمم المتحدة في ذلك الوقت: “إن الخطأ الجسيم الذي وقعنا فيه كان التعامل مع طالبان على أنها مثل القاعدة. كان القادة الكبار في طالبان مهتمين بالمشاركة في بناء نظام جديد، لكننا رفضنا منحهم تلك الفرصة”.
يُذكر أن حركة طالبان لم تتورط في هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، ولم يكن أيٌّ من المخططين ومختطفي الطائرات من أفغانستان، إلا أن إدارة بوش صنفت قادة طالبان كإرهابيين، لأنهم وفروا للقاعدة ملاذا آمنا ورفضوا تسليم أسامة بن لادن. كان من السهل للأمريكيين “شيطنة” طالبان بسبب عنفها وتطرفها الديني، لكن الحركة أثبتت أنها متجذرة بعمق في المجتمع الأفغاني وليس من السهل اجتثاثها.
قال روبن في مقابلة ثانية ضمن تقرير الدروس المستفادة: “الجميع أراد أن تختفي طالبان، لم يكن هناك حماس تجاه خيار خفض التصعيد والمسار الدبلوماسي وجلب طالبان إلى مفاوضات سلام”. ويؤكد هذا الرأي أيضا مسؤول أممي آخر رفض الكشف عن اسمه، اعتبر خلال المقابلة معه أن هذا التفكير أضاع على الولايات المتحدة أكبر فرصة في هذه الحرب.
قال المسؤول الأممي في إشارة إلى ميليشيات أفغانية أخرى حاربت القوات الأمريكية: “في ذلك الوقت، كان أغلب قادة الحزب الإسلامي وطالبان مهتمين بالانضمام للحكومة. والدرس المستفاد هنا هو أنك إذا وجدت فرصة للتحدث مع طالبان، يجب أن تستغلها”.
بعد فوات الأوان، فهم المسؤولون الأمريكيون أنه من المستحيل اجتثاث طالبان. واليوم يقول مسؤولو البنتاغون إن الحل الوحيد لإنهاء الحرب هو التسوية السياسية التي تتصالح فيها طالبان مع الحكومة الأفغانية. وخلال العام الماضي، كانت الحكومة الأمريكية قد انخرطت في محادثات سلام مباشرة ورفيعة المستوى مع طالبان، للمرة الاولى على الإطلاق.
يُشار إلى أن خمسة من المفاوضين الذين أرسلتهم طالبان هم في الحقيقة سجناء حرب سابقون، قضى كل منهم 12 سنة سجنا في معتقل غوانتانامو. كما أن كبير المبعوثين من جانب الولايات المتحدة زلماي خليل زاده، هو أمريكي أفغاني خدم كسفير لواشنطن في أفغانستان بين 2003 و2005، وسفيرا في العراق بعد ذلك.
في مقابلة أُجريت في كانون الأول/ ديسمبر 2016، في إطار تقرير الدروس المستفادة، أقر خليل زادة بأنه كان يرفض التحدث مع طالبان، وبأن إدارة بوش ربما أضاعت فرصة لإنهاء الحرب بعد وقت قصير من اندلاعها. وقال: “ربما لم نمتلك الحكمة والسرعة اللازمة للتواصل مع طالبان في وقت مبكر، وقد اعتقدنا أنهم انهزموا ويجب أن يتم جلبهم للعدالة. كان ينبغي استيعابهم والبحث عن نوع من المصالحة”.
بعد مرور سنة على تلك المقابلة مع خليل زاده، قام ترامب بإعادته إلى النشاط الدبلوماسي من خلال تعيينه كمبعوث أمريكي للمفاوضات مع طالبان. وقام مسؤولون فدراليون بحذف أجزاء كبيرة من المقابلة مع خليل زاده في حزيران/ يونيو الماضي قبل نشر النسخة المكتوبة في واشنطن بوست، بحجة أنها تتضمن معلومات سرية. وفي دعوى قضائية أثيرت حول الموضوع، قالت وزارة العدل إن كشف تلك المعلومات السرية يؤثر سلبا على المفاوضات الدبلوماسية الجارية.
طلبت الصحيفة من قاض فدرالي مراجعة مدى وجاهة تصنيف تصريحات خليل زادة على أنها سرية، وإلى حد الآن لم يصدر قراره. وفي المقابلات التي أجريت في إطار تقرير الدروس المستفادة، قال مسؤولون آخرون إن إدارة بوش أتبعت خطأها الأول مع طالبان بارتكاب خطأ آخر، وهو معاملة باكستان كبلد صديق.
جاء في إفادات أخرى أن الجنرال برويز مشرف الحاكم العسكري لباكستان، منح البنتاغون تصريحا لاستخدام الأجواء الباكستانية، وسمح لوكالة المخابرات المركزية بتعقب قادة القاعدة في الأراضي الباكستانية. نتيجة لذلك، تأخرت إدارة بوش في اكتشاف أن باكستان كانت تدعم طالبان بشكل سري.
قال مارين سترميكي، المستشار الأول السابق لرامسفيلد في هذه الإفادات: “بسبب الثقة الشخصية في مشرف، والأمور التي واصل القيام بها للمساعدة في ملاحقة بعض أعضاء القاعدة في باكستان، فشل المسؤولون في رؤية اللعبة المزدوجة التي كان يلعبها في أواخر 2002 وبداية 2003”. وأضاف سترميكي: “أعتقد أن الأفغان والرئيس حامد كرزاي نفسه كانوا يثيرون هذا الموضوع باستمرار منذ 2002. ولكن كلامهم كان يُقابل بالتجاهل بسبب الاعتقاد بأن باكستان كانت تساعدنا كثيرا ضد القاعدة. لم نقم بمواجهة باكستان بسبب دورها في دعم طالبان”.
بحلول أواخر 2002، باتت أفغانستان شيئا من الماضي بالنسبة لإدارة بوش التي كانت بصدد الاستعداد لغزو العراق. وبحسب مذكرة لم تنشر سابقا، فإنه في 21 تشرين الأول/ أكتوبر، بعد عدة اجتماعات في البيت الأبيض حول العراق، كان رامسفيلد نفسه متفاجئا من مدى تجاهل بوش للوضع في أفغانستان.
قبل الساعة الثالثة مساء، التقى رامسفيلد بالرئيس بوش لبضعة دقائق، وسأله ما إذا كان يريد تنظيم لقاء مع الفريق أول تومي فرانكس، قائد القيادة الأمريكية الوسطى، والفريق دان ماكنيل، الذي كان قائدا للقوات الأمريكية في أفغانستان لستة أشهر. ظهرت على بوش علامات الاضطراب، وكتب رامسفيلد في مذكراته: “قال لي بوش: من هو الجنرال ماكنيل؟ قلت له إنه الجنرال المسؤول عن أفغانستان. فقال لي حسنا لا أحتاج مقابلته”.
تم الحصول على هذه المذكرة في إطار دعوى قضائية استندت إلى قانون حرية المعلومات، رفعتها منظمة بحثية غير ربحية تسمى “أرشيف الأمن القومي” ومقرها في جامعة جورج واشنطن، وهي التي أرسلت المذكرة إلى واشنطن بوست. من جانبه، قال الفريق ماكنيل خلال إفادته إنه لم يحصل على ما يكفي من التوجيه الإستراتيجي، حيث أن البنتاغون كان حريصا على إخفاء تعداد القوات الأمريكية. وأضاف: “لم تكن هناك خطة للحملة في الأيام الأولى، ورامسفيلد كان يشعر بالحماس تجاه أي زيادة في عدد الجنود على الأرض”.
في ذلك الوقت، كان ماكنيل يقود ثمانية آلاف جندي، وهو جزء صغير مما وصل إليه تعداد الجنود في أفغانستان لاحقا. وفي ذلك الوقت، لم يكن هناك الكثير من المعارضين لهذا التمشي في إدارة بوش.
أكد ريتشارد هاس، وهو دبلوماسي رفيع المستوى عينته إدارة بوش كمنسق خاص في أفغانستان بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، للمحققين الحكوميين أنه طرح مقترحا بنشر ما بين 20 إلى 25 ألف جندي، إلى جانب عدد مماثل من طرف قوات التحالف، لكن هذا المقترح قوبل بالرفض.
قال هاس في مقابلة ضمن تقرير الدروس المستفادة: “لم أتمكن من إقناعهم بفكرتي، لم يكن هناك أي حماس، كانت هناك حالة يأس تجاه أفغانستان. أنا لم أكن أتحدث عن نشر مئة ألف جندي، بل اقترحت مهمة محدودة جدا، وهي مهمة لا تختلف كثيرا عن المهمة الموجودة الآن، يقتصر دورها على تقديم التدريب والتسليح. لكن في ذلك الوقت بدا العدد الذي اقترحته ضخما جدا، وهذه مفارقة ساخرة بالنظر إلى ما انتهينا إليه. الآن عندما ننظر إلى الخلف نرى أن تلك الفكرة كانت جيدة”.
من خلال الإبقاء على عدد الجنود في أفغانستان عند الحد الأدنى، كانت إدارة بوش تبحث عن إعلان انتصارات سريعة على واجهتين في الوقت ذاته. في 1 أيار/ مايو 2003، كان بوش يقف على متن حاملة طائرات تحت لافتة كتُب عليها “تم إنجاز المهمة”، وأعلن نهاية العمليات القتالية الكبرى في العراق. في اليوم ذاته، زار رامسفيلد العاصمة كابول وأعلن نهاية العمليات القتالية الكبرى في أفغانستان.
كان لتلك التصريحات تأثير عكسي مذهل، حيث غرق العراق في مستنقع الحرب الأهلية، وفي وقت انشغلت فيه الحكومة الأمريكية بالأوضاع هناك، كانت طالبان تعيد تنظيم صفوفها. ويرى نيكولاس بيرنز، الدبلوماسي الأمريكي المخضرم، الذي عمل كسفير لحلف الناتو في إدارة بوش أن “الإدارة الأمريكية غفلت عن النظر إلى الصورة الكبرى في أفغانستان في وقت مفصلي. بين 2003 و2004، لا أتذكر أننا تساءلنا حول وجاهة البقاء هناك، والفائدة من وجودنا، وهل نحن بصدد تحقيق الانتصار”.
وأضاف: “أعتقد أنه كان بإمكاننا القيام بما هو أفضل لو أننا وضعنا افتراضات أكثر دقة وحددنا ما إذا كنا سنبقى هناك لوقت طويل يصل إلى 10 أو 15 أو 20 عاما، أم أننا نريد وضع حد للوجود الأمريكي هناك. لا أتذكر أننا طرحنا الأسئلة الصعبة”.
من بين مئات الناس الذين تم استجوابهم في إطار مهمة “مكتب سيغار”، كان بيرنز واحدا من القلائل الذين أقروا بمسؤوليتهم الشخصية ودورهم في فشل الحرب في أفغانستان. ويقول بيرنز في هذا السياق: “في ذلك الوقت، وفي السنوات اللاحقة، كنت كثيرا ما أتساءل إذا ما كنا قد ارتكبنا خطأ ما، ومن الواضح بأنني جزء من كل ذلك، وبالتالي عليّ تحمل مسؤوليتي بسبب عدم اتخاذ قرارات استراتيجية أو تحديد نقطة النهاية. أنا ألوم نفسي، وكان يجب علينا طرح هذه الأسئلة بوضوح أكبر بين 2005 و2006”.
بحلول الوقت الذي تولى فيه الجنرال البريطاني ديفيد ريتشاردز مسؤولية قوات حلف الناتو في أفغانستان في 2006، كانت طالبان تشكل تهديدا كبيرا للقوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها في المناطق الشرقية والجنوبية من البلاد. وقد أقر الجنرال ريتشاردز بأن التحالف فشل في التأقلم مع ذلك الوضع.
قال الجنرال ريتشاردز: “لقد كنا نحاول اعتماد مقاربة موحدة ومتناسقة وطويلة المدى ووضع استراتيجية صحيحة، ولكن عوضا عن ذلك كانت لدينا العديد من التكتيكات وافتقدنا لمقاربة طويلة المدى”.
خلال المقابلة التي أجريت معه في إطار تقرير الدروس المستفادة، يذكر الجنرال ريتشاردز نقاشا حادّا دار بينه وبين رامسفيلد في 2006. يقول ريتشاردز إن رامسفيلد سأله عن سبب تدهور الأوضاع في الجنوب، وكان رد الجنرال البريطاني بأن السبب هو قلة الموارد. تساءل رامسفيلد عن معنى ذلك، فرد عليه ريتشاردز: “ليس لدينا ما يكفي من القوات والموارد، وفي المقابل هناك انتظارات كبيرة”. فكان رد وزير الدفاع الأمريكي: “لا أتفق معك يا جنرال، واصل التقدم”.
في السنة الموالية، تولى الجنرال ماكنيل – الذي نسي الرئيس بوش اسمه في إحدى المناسبات- قيادة قوات الناتو في أفغانستان. تلقى ماكنيل أوامر بالعودة لأفغانستان للإمساك بزمام الأمور مرة ثانية، بعد أن أطلقت طالبان موجة من الهجمات الانتحارية وكانت تزرع المتفجرات في كل أنحاء البلاد.
بحلول مارس/ آذار 2007، ارتفع تعداد قوات الولايات المتحدة وحلف الناتو في أفغانستان إلى 50 ألفا. ولكن رغم ذلك، يقر ماكنيل بأنه لا أحد من المسؤولين كان قادرا على وضع استراتيجية واضحة، ويقول: “لقد حاولت أن أفهم من أحدهم معنى الإنتصار في هذه الحرب، ولا أحد قدم لي تعريفا محددا. بعض الناس كانوا يفكرون في الأمر من منطلق الديمقراطية الجفرسونية (نسبة إلى توماس جفرسون)، ولكن هذا الأمر لم يكن واردا في أفغانستان”.
تابع ماكنيل حديثه قائلا: “لم تكن هناك خطة لحملة الناتو، فقط الكثير من الخطابات والحديث بدون أي خطة. والكثير مما قمنا به هناك كان في إطار رد الفعل على الأوضاع الميدانية، لقد تصرفنا بانتهازية”.
بعد أن تولى رئاسة الولايات المتحدة، أعلن باراك أوباما في خطاب له أمام طلبة الجيش في الأكاديمية العسكرية في نيويورك، عن إرسال عن 30 ألف جندي إضافي إلى أفغانستان قائلا: “بصفتي القائد الأعلى للقوات المسلحة، أنتم مدينون لي بخطة واضحة المعالم”. وحتى قبل وصول الرئيس الجديد إلى البيت الأبيض، كان قادة الجيش الأمريكي يعترفون بالحاجة لخطة حرب جديدة، حيث أن سنوات من اصطياد الإرهابيين المحتملين كانت فاشلة، بينما واصلت طالبان تقدمها.
في لقاء معه، قال الجنرال إدوارد ريدر، قائد العمليات الخاصة الذي أُرسل إلى مناطق القتال في أفغانستان عدة مرات قبل التقاعد في 2015: “في ذلك الوقت كنت أنظر إلى أفغانستان وأقول إننا بحاجة إلى أفكار أخرى لحل هذا المشكل عوضا عن قتل الناس، ولكن هذا بالضبط ما كنا نقوم به. وفي كل مرة أعود إلى أفغانستان أجد أن الوضع الأمني ازداد تعقيدا”.
راهن قادة الجيش على استراتيجية مكافحة التمرد، وكان الهدف هو كسب عقول وقلوب الشعب الأفغاني، من خلال حمايته من طالبان والحد من الضحايا المدنيين وحشد الدعم الشعبي اعتمادا على تقديم المعونات. لكن هذه الاستراتيجية كانت تتطلب عددا أكبر بكثير من القوات، ومزيدا من المساعدات للحكومة الأفغانية. وفي الأثناء، كانت هناك استراتيجية مشابهة يتم تنفيذها في العراق، وقد بدت ناجحة.
في آب/ أغسطس سنة 2009، أرسل الجنرال ستانلي ماكريستال، الذي كان حينها قائد قوات التحالف، تقييما سريا للحرب من 66 صفحة، دعا فيه إلى توفير الموارد المناسبة لحملة مكافحة التمرد، وعرض استراتيجيته بالتفصيل. لكن خلال إفاداتهم ضمن تقرير الدروس المستفادة، أكد المسؤولون الأمريكيون والحلفاء أن الجنرال ماكريستال وإدارة أوباما فشلا في الإجابة على سؤالين واضحين: “من كنا نقاتل؟ ولماذا؟”.
أعلن أوباما في عدة مناسبات أن هدف الحرب كان تقويض وتفكيك وهزيمة تنظيم القاعدة، إلا أن النسخة الأولى من المراجعة الاستراتيجية للجنرال ماكريستال لم تشر من قريب أو من بعيد للقاعدة، حيث أن هذا التنظيم اختفى تقريبا من أفغانستان، وذلك بحسب مسؤول في حلف الناتو لم يكشف عن اسمه، شارك في تلك المراجعة.
وقال هذا المسؤول: “في 2009، سرى اعتقاد بأن القاعدة لم تعد تمثل مشكلة. ولكن السبب الأصلي لوجودنا في أفغانستان هو القاعدة. لذلك فإن المسودة الثانية لهذه المراجعة الاستراتيجية تضمنت اسم هذا التنظيم”.
ومن المظاهر الأخرى لنقص التواصل والتنسيق، فشل الولايات المتحدة وحلفائها في الاتفاق في وصف المهمة في أفغانستان، هل هي حرب فعلية أن شيء آخر. ويقول مسؤول الناتو: “كانت هناك تبعات كبيرة لتسمية ما نقوم به حربا وفق القانون الدولي. لذلك تشاورنا مع الفريق القانوني واتفقنا على أن ما نخوضه ليس حربا”. ومن أجل تجاوز هذا الإشكال، أضاف ماكريستال سطرا في تقريره يشير فيه إلى أن “هذا الصراع لم يكن حربا بالمعنى التقليدي”.
لكن هذا التوصيف الرسمي للمهمة كان أكثر تعقيدا. كان التعريف المطول الذي تم ذكره يفيد بأن هدف الولايات المتحدة وحلف الناتو هو تقويض قدرات وعزيمة المتمردين، ودعم القوات الأمنية الوطنية الأفغانية، وتحسين أساليب الحوكمة وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، من أجل ضمان مناخ من الاستقرار المستدام والملموس.
بعد أشهر من الجدل في البيت الأبيض، وافق باراك أوباما على استراتيجية مكافحة التمرد. وفي خطابه في كانون الأول/ ديسمبر 2009 في أكاديمية ويست بوينت العسكرية، أعلن أوباما عن نشر 30 ألف جندي إضافي في أفغانستان إلى جانب 70 ألفا كان بوش قد وافق على إرسالهم. ورفع الناتو وبقية الحلفاء عدد قواتهم إلى 50 ألف.
لكن أوباما أضاف تفصيلا صغيرا في آخر خطابه فاجأ الكثيرين من كبار مستشاريه، حيث فرض جدولا زمنيا لإنهاء المهمة، وقال إن القوات الإضافية ستشرع في الرجوع للوطن بعد 18 شهرا.
قال الجنرال ديفيد بترايوس، قائد القيادة الأمريكية الوسطى في ذلك الوقت: “ذلك الجدول الزمني كان مفروضا علينا بكل بساطة. قبل يومين فقط من خطاب الرئيس، أي يوم الأحد، تم الاتصال بنا جميعا وأخبرونا بأن نكون في المكتب البيضاوي في الليل حتى يكشف لنا الرئيس عما يعتزم إعلانه بعد يومين. قدم لنا نواياه، وفوجئنا بهذا الأمر. وعندما سألنا الرئيس: ما رأيكم بهذا؟ اضطر الجميع للقبول وكان الموقف محرجا”.
في ذلك الوقت، كان بارنيت روبن الخبير في الشأن الأفغاني يعمل كمستشار لوزارة الخارجية. وقد ذكر خلال إفادته أنه أصيب مثل مسؤولين آخرين بالذهول عندما سمع أوباما يعلن عن الجدول الزمني في خطابه في أكاديمية ويست بوينت، إذ أنه أعطى الفرصة لطالبان للاختباء حتى ترحل قوات الجيش الأمريكي وحلف الناتو. واعتبر روبن أنه من المفهوم أن يرغب أوباما في تحذير الحكومة الأفغانية بأن القوات الأمريكية لن تحارب معها إلى الأبد، ولكن لم يكن هناك تناسب بين الموعد النهائي والاستراتيجية، بمعنى أنه لا يمكنك تطبيق الخطة خلال ذلك الحيز الزمني.
على غرار بوش، افتقد أوباما إلى الاستراتيجية الدبلوماسية الفعالة في التعامل مع طالبان، إذ أن إدارته كانت في العلن تدعو للمصالحة بين الحكومة الأفغانية وقادة المتمردين، لكنها كانت في الواقع منقسمة بهذا الشأن. تُظهر الإفادات المقدمة ضمن تقرير الدروس المستخلصة أن مستشاري الرئيس كان بينهم خلاف حول معنى هذه الشعارات، حيث أن روبن الذي كان يفضل التحدث مع طالبان، قال إن الصقور في الادارة الأميركية كانوا يفسرون المصالحة على أنها المعاملة الجيدة لمن يلقون السلاح. وبشكل خاص، كانت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون مترددة بهذا الشأن بسبب طموحاتها السياسية.
قال روبن في إفادته: “النساء من أهم الفئات التي كانت هيلاري تعول عليها في الانتخابات، ولم يكن ممكنا إقناعهن بالصفقة مع طالبان. إذا كنت تريدين أن تصبحي أول رئيسة للبلاد، لا يمكنك قبول أي تلميح بأنك لست شخصا شديد الصرامة حيال الأمن القومي”.
اعتبر دبلوماسيون آخرون أن أي محاولة للتواصل مع طالبان كان مضيعة للوقت. يقول رايان كروكر، الذي كان سفيرا في أفغانستان ضمن إدارة أوباما: “لم أصدق أبدا أن المفاوضات مع طالبان، مهما كان الشخص الذي يديرها، ستقود إلى أي نتيجة. لقد شعرت بأن أقصى ما يمكننا فعله هو تحييد بعض الشخصيات من طالبان وإلحاقها بصفوف بالحكومة، ولكن هذا الأمر سيكون تدريجيا، ولن يحدث أي تغيير جذري”.
أقر مسؤولو إدارة أوباما خلال تقرير الدروس المستفادة بأنهم فشلوا في تجاوز تحد استراتيجي آخر واجه إدارة بوش، وهو باكستان، حيث أن واشنطن واصلت تقديم مليارات الدولارات سنويا لمساعدة باكستان في مكافحة الإرهاب، إلا أن الجيش الباكستاني وقيادات المخابرات لم يتوقفوا عن دعم طالبان أفغانستان وتوفير الملاذ لقادتهم.
في مقابلة أجرت في 2015، اشتكى مسؤول آخر من أن إدارة أوباما لم تسمح للقوات الأمريكية بمهاجمة معسكرات طالبان في الجانب الآخر من الحدود داخل باكستان، وقال: “رغم ذلك مازلنا إلى اليوم نتساءل حول هذا المشكل. لقد تحدثت مع الجنرال بترايوس وقلت له: إذا أصابت رصاصة أحد جنودي يجب أن أتعقب مصدرها. ولكن بترايوس رد بالقول: اذهب وقل هذا الكلام لواشنطن”. وذكر كروكر، الذي عمل كسفير في باكستان بين 2004 و2007، أن القادة الباكستانيين لم يتكبدوا عناء إخفاء خططهم المزدوجة.
روى كروكر حوارا مع الجنرال أشرف كياني الذي كان وقتها مديرا للمخابرات الباكستانية، قال فيه كياني: “نعم أنتم تعرفون، أعرف أنكم تدركون أننا نحاول الرهان على كلا الطرفين. أنتم محقون. نحن نقوم بذلك لأنه في يوم ما سوف ترحلون مجددا، وسنكون نحن هنا لأنه لا يمكننا الانتقال إلى مكان آخر. ستعود أفغانستان كما كانت، وآخر شيء نرغب فيه هو أن نضيف إلى مشاكلنا تحويل طالبان إلى عدو لدود. لذلك لا ننكر بأننا نراهن على الطرفين”.
في إفادة أخرى في كانون الأول/ ديسمبر 2016، اعتبر كروكر أن الطريقة الوحيدة لإجبار باكستان على تغيير أسلوبها، هو أن يترك ترامب القوات الأمريكية في أفغانستان إلى ما لا نهاية، ويمنحها ضوءا أخضر لملاحقة طالبان فوق الأراضي الباكستانية. ويتابع كروكر: “لو كنت مخولا، لقلت له: أنتم قلقون حول مصداقيتكم، وخائفون من انسحابنا من أفغانستان. حسنا، أنا هنا لأخبركم بأننا سنبقي على القوات هنا طالما اقتضت الحاجة، ودون سقف زمني. هذه هي الأخبار الجيدة، أما الأخبار السيئة بالنسبة لكم، فهي أننا سوف نقتل قادة طالبان في أي مكان نجدهم فيه سواء كان بلوشستان أو البنجاب أو في وسط إسلام آباد. سوف نعثر عليهم، ولذلك ربما يجب عليكم مراجعة حساباتكم”.
في البداية كانت الآمال عريضة حيال استراتيجية أوباما، ولكن المسؤولين العسكريين والمدنيين الذين تم استجوابهم في إطار تقرير “مكتب سيغار” قالوا إنه بعد ذلك سرعان ما بات واضحا أن الدروس المستفادة من حرب معينة لا تنطبق بالضرورة على حرب أخرى. ورأى ضابط في القوات الخاصة خدم في أفغانستان في 2013 أن كل القيادات التقليدية ظنت أن الأمر يشبه العراق، وكانوا دائما يشيرون إلى التجربة العراقية، معتقدين أن التشابه في سلوك القرويين ولباسهم يعني أننا في البلد ذاته.
واعتبر ضابط آخر أن استراتيجية مكافحة التمرد الجديدة كانت متسرعة، وأن الجنود تلقوا توجيهات غير كاملة من القيادات. ويقول الضابط: “لم يرسلوا لنا وثائق تتضمن توجيهات حول دورنا، وقدموا لنا أولويات استراتيجية غامضة وتعليمات غير مفهومة، مع تفضيل السرعة على الثبات”.
اعتبر مسؤولون آخرون أن تلك الاستراتيجية اعتمدت على كلمات رنانة وافتقدت للعمق، حيث ردد القادة شعارات مثل “إخلاء المواقع والتمسك بها والبناء فيها”، ما يعني طرد المتمردين من المحافظات الأفغانية والبقاء هناك إلى أن يتمكن المسؤولون الحكوميون والقوات النظامية من فرض الاستقرار.
بسبب ضغط الجدول الزمني، حاول القادة في البداية إخلاء المواقع التي يتحصن فيها مقاتلو طالبان بالقوة، على غرار هلمند وقندهار في جنوب البلاد. ولكن نتائج هذا الأسلوب كانت عكسية، حيث قدموا كميات كبيرة من المساعدات للسكان الذين ظلوا يدعمون طالبان، وتجاهلوا في المقابل المناطق المسالمة التي دعمت الحكومة الأفغانية.
في إفادته ضمن تقرير الدروس المستفادة، قال مسؤول رفيع المستوى في الوكالة اﻷمريكية للتنمية الدولية إن “حكام المحافظات الصديقة كانوا يأتون إلى كابول ويتساءلون: ماذا علينا أن نفعل حتى يحبنا الأمريكان؟ هل نقوم ببعض التفجيرات؟”
وأضاف: “كان علينا أن نتوجه أولا للمحايدين والمناطق التي يسهل إقناعها، ونكافئهم على سلوكهم الجيد. كان يتوجب على واشنطن وحلفائها دعم السكان المتعاونين، حتى نُظهر للبقية فوائد التعاون معنا ونحثهم على ذلك. ولكن هذا الأمر كان يتطلب وقتا، ونحن لم نتحلّ بالصبر”.
في سنة 2014، كثرت المؤشرات على أن خطة أوباما كانت تتهاوى، وقالت مسؤولة رفيعة المستوى في وزارة الخارجية إن تلك المهمة افتقدت للتركيز منذ البداية. وأضافت: “لقد سئمت من سماع أوباما يقول سئمنا من الحرب. في الواقع، خمسة بالمئة فقط من الأمريكيين كانوا متأثرين بهذا الأمر، والبقية لا علاقة لهم بالحرب. لو قدر لي تأليف كتاب، سيكون عنوانه: أمريكا تذهب للحرب دون معرفة السبب. لقد ذهبنا إلى أفغانستان كردة فعل بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، دون أن نحدد ما نرغب في تحقيقه. أريد أن أؤلف كتابا حول أهمية امتلاك مخطط وأهداف نهائية قبل أن تخوض معركة”.
تحدّث العشرات من المسؤولين الأمريكيين والأفغان حول المشاكل والأخطاء العميقة في السياسة الأمريكية، التي عجزت بعد سنوات طويلة من الحرب عن فهم دوافع القتال لدى الأعداء. وقال مسؤول في وكالة التعاون الدولي إن “وجود طالبان كان فقط من أعراض الداء، ونحن فشلنا في تشخيص أصل المرض”. كما ذكر ضابط آخر في إفادته: “من أجل تحقيق الانتصار يجب أن تعرف عدوك. لم نكن نعرف عدونا، وقمنا فقط بتدمير كل شيء وإثارة غضب الناس.” في السياق نفسه، يقول المسؤول الأفغاني شاه محمود ميخائيل، الذي يشغل حاليا منصب حاكم ننغرهار: “كانت هناك طريقة بسيطة لمعرفة ما إذا كانت الاستراتيجية الأمريكية ناجحة أم لا”.
وأضاف: “لقد أخبرت بترايوس أنه عندما تحارب التمرد وأنت لا تعرف صديقك ولا تعرف عدوك ولا تعرف البيئة، سوف تفشل لا محالة. نصحته بمراجعة قائمة المطلوبين للتصفية أو الاعتقال، ليرى ما إذا كانت قد أصبحت أطول أو أقصر. إذا ازدادت طولا فهذا يعني أن خطتكم فاشلة”.
في آذار/ مارس 2011، عندما كان قائدا لقوات التحالف، أصدر بترايوس تقريرا يفيد بأن عدد مقاتلي طالبان يقدر بحوالي 25 ألف مقاتل، واليوم يقدر الجيش الأمريكي أن عددهم وصل إلى 60 ألفا.
المصدر: واشنطن بوست