لم يستقر الباحثون بعد على إجابة جامعة مانعة للسؤال الأكثر جدلًا: أيهما أصدق وأكثر ثباتًا وديمومة.. التاريخ أم الجغرافيا؟ سؤال حارت في كشف كواليسه عقول الخبراء منذ بدء دراسة التضاريس والأحداث التاريخية كعلوم مستقلة لها أبجدياتها ونظرياتها ومدارسها الخاصة.
وفي سبيل هذا السؤال الزئبقي انقسمت الآراء إلى قسمين: فريق يرى التاريخ هو الأكثر ثباتًا كونه بات بمعزل عن التلاعب والتغيير وفق ظرفيته الزمنية الفائتة، فيما ذهب آخرون إلى أن الجغرافيا الأحق بهذا الوصف، بصفتها تكتب برمالها وجبالها ووديانها سطور التاريخ وتحدد هويته ومساره، ومن ثم فهي الأسبق، خاصة في ظل التزييف المتعمد الذي ربما يتعرض له التاريخ إرضاءً لكيانات أو شخوص بعينهم.
وبعيدًا عن هذا الانقسام الجدلي الأزلي فإن أفغانستان كدولة ضاربة في جذور التاريخ، لها حيثية استثنائية، إذ تجمع بين الجغرافيا والتاريخ في إناء مشترك، دولة تكونت فيها تضاريس الجغرافيا على ألواح الزمن الصخرية المرسومة على جدران الشخصية الأفغانية، فاختزلت كل المفاهيم في مفهوم واحد.
فرضت تلك الدولة حضورها على موائد الاهتمام العالمي مرة أخرى، بعد الزلزال الطالباني المدوي، الذي أخرج كل السجلات من أدراجها، وفتح الأبواب على مصراعيها لإعادة قراءة تاريخ هذا البلد بمنظور جغرافي بحت، أملًا في استقراء ما يمكن أن تكون عليه مستقبلًا وفق أبجديات الماضي المفعم بعبق التاريخ وغبار الجغرافيا معًا.
خراسان.. الدولة العنيدة
منذ أن تشكلت هوية خراسان (المسمى القديم لأفغانستان التي كانت تضم شمال غرب أفعانستان حاليًّا مع أجزاء من تركمانستان وخراسان وتتبع بلاد فارس) وهي تتميز بالعناد والصلف، والوحشية أحيانًا أخرى، وقد وصف الرحالة ابن بطوطة عند زيارته لمدينة كابل وما جاورها أهلها بـ”القوة والبأس الشديد”.
ومع بداية الفتح الإسلامي لتلك البلاد قاومت مقاومة شرسة جيوش المسلمين، وكانت الجغرافيا سلاح شعبها في الصمود والتحدي، ورغم سيطرة المسلمين عليها في ظل خلافة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بعد معركة نهاوند الشهيرة (642م) فإنها كبدت جيوش الفاتحين خسائر جمة.
لم تخضع دولة لأسر جغرافيتها كما خضعت أفغانستان، فتضاريسها هي نظام الحكم الأكثر ديكتاتورية في تاريخها، والمكون الرئيسي لأبجديات سلطتها بفروعها المختلفة
وليس هناك أدل على رباطة جأش الأفغان من المقولة الخالدة للفاروق عمر حين تلقى خطاب النصر من قائد جيوش المسلمين وقتها، الأحنف بن قيس التميمي، حيث قال: “لوددت أني لم أكن بعثت إليها جندًا ولوددت أنه كان بيننا وبينها بحر من نار”، ومع مرور الوقت تبين صدق حدس الخليفة في المخاوف التي ساورته من دخول بلاد الأفغان.
لم يترك الأفغان، المسلمين، يهنأون بفتحهم، إذ أحدثوا الفتن والاضطرابات التي قوضت سيطرة المسلمين على خراسان، ورغم استعادة الأوضاع مرة أخرى عن طريق عبد الله بن عامر بن كريز العبشمي، في عهد عثمان بن عفان – رضي الله عنه – فإن الفوضى لم تنته بعد، حتى في خلافة معاوية.
يؤمن الشعب الأفغاني إيمانًا شديدًا بمعتقداته الدينية، أيًا كانت، فبينما كانوا ندًا قويًا في مواجهة المسلمين قبل الفتح، تحولوا إلى واحدة من أكبر قلاع نشر الإسلام في العالم، فكانوا بوابة عبور الدين الجديد للهند وما وراء النهر، ودافعوا عن الإسلام بكل ما أوتوا من قوة، فخرج من بين أصلابهم كبار علماء الأمة، أشهرهم البخاري ومسلم وابن سينا والخوارزمي والفارابي وعمر الخيام.
ديكتاتورية الجغرافيا
لم تخضع دولة لأسر جغرافيتها كما خضعت أفغانستان، فتضاريسها هي نظام الحكم الأكثر ديكتاتورية في تاريخها، والمكون الرئيسي لأبجديات سلطتها بفروعها المختلفة، والمقاوم الأبرز لكل محاولات التطوير والتحديث عبر مناهج وأفكار ونظم أجنبية.
تلك الدولة الحبيسة التي تعاني من العزلة البحرية، والمغطاة بسلاسل جبال شاهقة الارتفاع، والممتدة عبر مساحات صحاري شاسعة، وتعاني من يتم حضاري لحساب أبوية ريفية تسيطر على المشهد، ما زالت قابعة في وادي القبلية، فالقبيلة هي المكون الأساسي للنسيج المجتمعي، الذي يحدد هوية البلد ويصنع منظومة قيمه وبوصلة توجهاته الاجتماعية والثقافية، ومن ثم السياسية والاقتصادية.
أغرى الانسحاب البريطاني من أفغانستان السوفييت لتعزيز نفوذهم في تلك البقعة الإستراتيجية من العالم، فتدخل الجيش الأحمر عام 1929، لترسيخ حكومة شيوعية موالية له
الطبيعة الجبلية لأفغانستان والميل نحو القبلية كانت لها تأثيرها الواضح في رسم الشخصية الأفغانية التي تشربت جل سماتها في بوتقة الريف، رافضة كل ما له علاقة بالتمدن، مقاومة لأي مساعي تطوير عبر الاستيراد من الخارج، مؤمنة أن التأهيل الداخلي ولو كان بطيئًا أفضل مئة مرة من الأفكار الخارجية المعلبة، التي تغلب عليها الطابع التآمري، هكذا يعتقد الجزء الأكبر من الأفعان.
كانت الجغرافيا، هي الديكتاتور الطاغي الذي حكم البلاد لمئات السنين، والعامل الأبرز حضورًا في نجاح الشعب الأفغاني في إسقاط الإمبراطوريات الغازية على مر التاريخ، كما كانت الباب الأكثر اتساعًا لسيطرة حركة طالبان على المشهد بتلك الكيفية رغم إحكام أمريكا قبضتها على البلاد لعقدين كاملين.
مقبرة الإمبراطوريات
كان لموقع أفغانستان الإستراتيجي، دور تاريخي في إسالة لعاب القوى الدولية والإقليمية، التي حاولت بين الحين والآخر التنافس على الاستفادة من تلك الكعكة، رغم مذاقها المر أحيانًا، والموضوعة على “سفرة” الاضطرابات والفوضى والحروب الأهلية طيلة العقود الماضية.
ورغم الفارق الكبير في الإمكانيات العسكرية والاقتصادية بين الأفغان والقوى الغازية، فإنهم استطاعوا تلقين تلك الإمبراطوريات الدروس والعبر، حتى تحولت بلادهم إلى مقبرة حقيقية لغزاة العالم، شرقًا وغربًا، وذلك منذ سقوطها في براثن الاستعمار في القرن التاسع عشر.
البداية كانت مع بريطانيا العظمى، تلك الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، التي حاولت تعزيز نفوذها جنوب آسيا بما يمهد الطريق أمامها نحو الهند، وكانت أفغانستان جواز السفر البريطاني لتحقيق هذا الهدف، فسقطت الدولة في أيدي القوة العظمى عام 1839.
على عكس ما كان يتوقع البريطانيون، لم تكن أفغانستان نزهة خلوية لجنود بلادهم، فبعد 3 سنوات فقط مكثوها هناك، إذ بهم يواجهون واحدة من أكبر الانتفاضات القبلية في التاريخ، الأمر الذي دفع الإمبراطورية العظمى إلى الانسحاب، كان ذلك عام 1842، في مشهد فاضح وصفته أدبيات التاريخ البريطاني بـ”الشتاء المهين”.
أغرى الانسحاب البريطاني من أفغانستان السوفييت لتعزيز نفوذهم في تلك البقعة الإستراتيجية من العالم، فتدخل الجيش الأحمر عام 1929، لترسيخ حكومة شيوعية موالية له، فكان حكم أمان الله خان، لكن ثبت بالدليل أن التدخل الناعم من الخارج لم يجد نفعًا، لا سيما بعد تصاعد الأصوات الرافضة للحكم الشيوعي.
وفي 1979 قرر الاتحاد السوفيتي الدخول بصورة رسمية داخل الأراضي الأفغانية لحماية الحكومة الشيوعية من هجمات المعارضين، وعلى مدار عشر سنوات كاملة لم ينجح السوفييت فيما ذهبوا إليه، وإذ بهم يغوصون في أوحال أفغانية أجبرتهم على الخروج بعدما سقط أكثر من 15 جنديًا سوفيتيًا على أيدي الافغان، فكان الانسحاب المذل عام 1988 عبر اتفاق جنيف.
تعد الشخصية الأفغانية من أكثر الشخصيات تعقيدًا في مكوناتها، والأكثر تطرفًا فيما تتبناه من معتقدات (أيًا كانت تلك المعتقدات، سياسية كانت أو دينية)، وتحتاج إلى جهود مضنية لفك طلاسمها
دخلت البلاد في آتون حرب أهلية بسبب الفوضى التي أحدثها التدخل السوفيتي ثم الخروج بتلك الطريقة، الأمر الذي مهد الطريق نحو سيطرة حركة طالبان على الحكم عام 1996، ورغم الدعم الأمريكي للحركة بداية نشأتها حين كانت شوكة في خاصرة السوفييت، فقد انقلبت عليها بعد ذلك بعد أحداث 11 سبمتبر/أيلول عام 2001.
يبدو أن الأمريكان لم يستفيدوا من الدروس القاسية التي تلقتها الإمبراطورية البريطانية والسوفيتية قبل ذلك، فقرروا الاستفادة بأنفسهم عبر الغوص في الوحل الأفغاني، وعلى مدار 20 عامًا كاملة فشل الأمريكان في فرض السيطرة على البلاد في مواجهة حركة لا يتجاوز عدد مقاتليها 40 ألف شخص.
مئات المليارات ضختها أمريكا ودول أوروبا لكبح جماح الدولة الأفغانية وترويض شعبها والحركات المسلحة بها، توازيًا مع خسائر كبيرة في الأرواح التي تساقطت على مدار السنوات الماضية، وكان لها صداها المدوي في الشارع الأمريكي بعيدًا عن التصريحات الإعلامية المخدرة.
وفي الأخير وجدت أمريكا نفسها مضطرة لجر ذيولها من المستنقع الأفغاني الذي غاصت فيه دون أجندة محددة، معتمدة على جيش هش وضع مصالحه الشخصية فوق مصلحة بلاده العليا، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في ظل نزيف الخسائر المتواصل، في مقابل التطور النوعي والحركي لطالبان التي أجبرت واشنطن على الجلوس معها على مائدة مفاوضات واحدة رغم إدراجها على لائحة الإرهاب.
الشخصية الأفغانية.. طلاسم تحتاج إلى قراءة مغايرة
تعد الشخصية الأفغانية من أكثر الشخصيات تعقيدًا في مكوناتها، والأكثر تطرفًا فيما تتبناه من معتقدات (أيًا كانت تلك المعتقدات، سياسية كانت أو دينية)، وتحتاج إلى جهود مضنية لفك طلاسمها من أجل التعامل معها بما يسمح بالفهم ومن ثم تحديد المداخل الإقناعية ثم الاستئناس والسيطرة.
ولعل الفشل في قراءة رموز تلك الشخصية التي سقطت أسيرة الجغرافيا والتاريخ معًا، أحد أبرز الأسباب وراء السقوط المدوي للإمبراطوريات الكبرى التي غاصت في الوحل الأفغاني قبل ذلك، وذلك رغم قدرة تلك القوى على شراء بعض الولاءات الداخلية لكنها لم تكن بالقوة ولا بالكيفية القادرة على هزيمة الشخصية الأفغانية بسماتها المعقدة.
المواطن الأفغاني يدين بالولاء للقبيلة أكثر من النظام، ويلتزم بطقوسها أكثر من خضوعه للقوانين المعمول بها رسميًا، ويؤمن بمعتقداته القبلية والمجتمعية أعمق من مذاهب الدولة التمدنية الحديثة، ويتعامل مع كل ما هو قادم من خارج بلاده على أنه عدو يجب مقاومته.
هذا التكوين الميتافيزيقي جعل الريف قبلة الأفغان الأولى، ومستقرهم الأكثر كثافة، وهو ما لم تأخذه الأنظمة الحاكمة ولا القوى الداعمة لها من الخارج أو حتى المستعمرة للبلاد، في حسبانها، إذ كان التركيز على المدينة والعواصم الكبيرة، فيما تُرك الريف والمناطق النائية ذات الكثافات الكبرى مهملة وخارج دائرة الاهتمام، وهو ما لعبت عليه طالبان في تحقيق انتصارها الأخير تحديدًا رغم الفارق الكبير في الإمكانات والعدة والمؤهلات بينها وبين القوات الأجنبية.
المنطق البرغماتي نفسه هو ما تميل الحركة للتعامل به بعد إحكامها السيطرة على معظم مناطق أفغانستان، فقد تبنت سياسة انفتاحية على كل الدول، حتى المعادية لها في السابق
تسكين الحدود ودبلوماسية الجوار
انعكست حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي خيمت على الدولة الأفغانية خلال تاريخها الحديث على علاقاتها الخارجية، إذ كان الأمن واستتباب الوضع الهدف الأسمى لدول الجوار في تعاملها مع الدولة التي لم تهنأ يومًا بالاستقلال عن أطماع القوى الغازية.
ورغم تحفظ العديد من الدول الحدودية الملاصقة لأفغانستان للاستعمار الأجنبي لها، لما يمثله من تهديد لأمنها واستقراها ومصالحها في المنطقة، فإن فرض الأمن وتطويق البلاد في مواجهة استهداف تلك الدول كان الهدف الذي دفع تلك القوى لقبول هذه الوضعية المرفوضة سياسيًا.
الرباعي، روسيا والصين وإيران وباكستان، تعامل مع كابل بمنطق برغماتي بحت، فتبريد الأجواء مع الحكومة الأفغانية المدعومة أمريكيًا لم يكن إلا مسعى تطميني فرضته حالة اللااستقرار التي شهدتها البلاد على مدار العقود الماضية، وكان لها تبعاتها السلبية على أمن دول الجوار.
الإستراتيجية ذاتها هي ما دفعت تلك القوى لفتح قنوات اتصال مع طالبان بعد سيطرتها على الساحة، رغم الخلاف السياسي بينهما، فبعض تلك الدول ما زال يضع الحركة في قائمة الكيانات المحظورة، بل وبادرت بالاعتراف الرسمي بها في ظل انقسام الغرب حيال هذا الملف.
المنطق البرغماتي نفسه هو ما تميل الحركة للتعامل به بعد إحكامها السيطرة على معظم مناطق أفغانستان، إذ تبنت سياسة انفتاحية على كل الدول، حتى المعادية لها في السابق، وهو ما يمكن أن يشير إلى خريطة إقليمية جديدة قد تشهدها المنطقة خلال المرحلة المقبلة، تتماشى والمستجدات الأخيرة والدروس المستفادة تاريخيًا.
وفي الأخير.. فإن مسار الأحداث في أفغانستان يحكمه عاملان رئيسيان، بحسب الدبلوماسي المصري، أحمد مجاهد، الأول يخص الجانب الطالباني وينقسم إلى ثلاثة أقسام، مدى قدرة الحركة على السيطرة على الحكم فى كامل الإقليم الأفغاني، وقدرتها على إدارة الحكومة والحياة في أفغانستان بعقلية وسياسات جديدة، توافقية لا عنفية أو تحكمية، وأخيرًا مدى قدرة الحركة على الاستفادة من التناقضات بين القوى الكبرى والإقليمية المعنية لتعظيم المكاسب الطالبانية.
أما العامل الثاني فيتعلق بالجانب الأمريكي، ويتمثل في مدى رغبة إدارة الرئيس جو بايدن فى الاستثمار بحركة طالبان وقدرتها على تحويلها إلى حليف ورأس حربة ضد الصين وروسيا وإيران، غير أن هذا التوجه يتطلب من رفقاء بايدن تقديم عروض مغرية للحركة مقارنة بالعروض التى قد تقدمها بكين وموسكو لاستقطاب وتحجيم أفغانستان تحت حكم طالبان.