بلغ عدد الأحزاب التونسية بعد الثورة يناير/كانون الثاني 2011 أكثر من 200 حزب، أغلبها أحزاب سياسية مجهرية يصفها البعض بالدكاكين الحزبية، لكنها مع ذلك تصدر البيانات وتتخذ المواقف وتتكلم في الشأن العام وتعطي رأيها فيه.
ليلة 25 من يوليو/تموز الماضي، التي شهدت فيها تونس انقلاب الرئيس قيس سعيد على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية، ركنت هذه الأحزاب للبطالة ودخلت في إجازة غير محددة المدة، إلا قلة قليلة منها تكلمت معلنة رفضها لإجراءات الرئيس وأخرى رحبت بها.
مرت الأيام وبدأ صوت الأحزاب يخفت شيئًا فشيئًا، خشية من اتخاذ موقف واضح إزاء الأزمة التي يشهدها هذا البلد العربي، ما من شأنه، وفق العديد من المتابعين، أن يفتح الطريق أمام سعيد لتنزيل برنامجه الغامض على أرض الواقع، فهو لا يخفي رفضه للأحزاب وسعيه لإقصائها من الحياة السياسية ذلك أن دورها انتهى وفق تصوره، فهل حكمت أحزاب تونس على نفسها بالزوال؟
إجازة مطولة
أصابت إجراءات الرئيس قيس سعيد المتعلقة بتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإقالة رئيس الحكومة، أغلب الأحزاب التونسية في مقتل، ما جعلها تركن إلى الراحة عل هذه الرياح العاتية تمر بسلام.
أغلب الأحزاب السياسية التونسية لم تعبر صراحة عن موقفها لما حصل ويحصل في البلاد، رغم أن قادتها كانوا يتسابقون للظهور الإعلامي وإصدار البيانات عن كل صغيرة وكبيرة في تونس أو حتى خارجها، فالمهم عندهم أن يتم تداول اسمهم في الوسائل الإعلامية.
الأمر الآن اختلف كثيرًا، أولئك القادة تواروا عن الأنظار إلا قلة قليلة، حتى إن اتصلت بهم لا يجيبون وإن أجابوا على الهاتف يتعللون بمرضهم أو انشغالهم ببعض الأعمال الشخصية حتى لا يجيبوا عن أسئلتك المتعلقة بالوضع العام للبلاد.
يبدو من ذلك أن أغلب الأحزاب تخشى الحديث عما يجري في البلاد، إما خوفًا من التعبير صراحة عن موقفهم مما يجري إلى أن تتوضح الأمور ويعرفون في أي صف يقفون، وإما لأن لا موقف لهم، فقد وجدوا للحديث عن المواضيع الصغيرة أما كبار الأمور فلا علاقة لهم بها.
غياب الأحزاب السياسية عن الساحة من شأنه أن يخدم مشروع قيس سعيد لا إراديًا
حتى الأحزاب التي تكلمت على غرار حركة النهضة والتيار الديمقراطي وحزب العمال وحركة الشعب، اكتفت بإصدار مواقف متفرقة ومتناقضة في بعض الأحيان في علاقة بما جد في البلاد من تحولات كبرى ولم نر لها أي تحرك ميداني، ربما خشية من انكشاف حقيقة أمرها في الميدان أو لأنها تخشى غضب الرئيس عليها أو ربما تنتظر جزءًا من كعكة قادمة لا يبدو أن قيس سعيد ينوي أن يُقاسمه أحد فيها.
يرجع المحلل السياسي سعيد عطية غياب الأحزاب عن الساحة خلال الآونة الأخيرة لسببين رئيسين وفق قوله، وهما غياب المقبولية الشعبية والخوف من أن تطالها المحاسبة خاصة فيما يتعلق بمسائل التمويل الخارجي للحملات الانتخابية.
خدمة مشروع سعيد لا إراديًا
يرى العديد من المتابعين للشأن التونسي أن غياب الأحزاب السياسية عن الساحة من شأنه أن يخدم مشروع قيس سعيد لا إراديًا، في هذا الشأن يقول سعيد عطية لنون بوست: “من المعلوم أن مشروع قيس سعيد يقوم على فسخ الحياة الحزبية تمامًا وتعويضها بما يسميه النظام المجالسي الذي يعتمد أساسًا على الوكالة التي يسحبها الناخبون متى قرروا ذلك”.
يتابع “المثير للانتباه خلال الفترة الأخيرة هو انحسار دور الأحزاب وغياب فعاليتها عن المشهد تمامًا، فبعد الانقلاب الدستوري مساء 25 من يوليو/تموز 2021 غابت الأحزاب عن المشهد الإعلامي والسياسي بصفة شبه كلية وأصبحت مواقفها تصدر على استحياء، والملاحظة الأبرز أن الأحزاب أصبحت في مرمى النيران الشعبية التي تتهمها أنها السبب الرئيسي لتعكر الوضع الاقتصادي والاجتماعي طيلة 10 سنوات نتيجة خياراتها الخاطئة وجشعها”.
ويعتقد محدثنا أن غياب الأحزاب يخدم مشروع الرئيس قيس سعيد، “ففي ظل نقمة فئة كبيرة من الشعب على كل المنظومة الحزبية والجمعياتية، فإن الرئيس سيكون أمام طريق واسع لفرض رؤيته السياسية على أرض الواقع وسيجد في البداية دعمًا شعبيًا كبيرًا، لكن تواصل هذا الدعم سيكون مشروطًا بتحقيق إنجازات اقتصادية واجتماعية على أرض الميدان وهذا لن يكون بالأمر الهين”.
ومن المهم التذكير ببعض الخطوط العريضة لبرنامج الرئيس سعيد، إذ يرى الرئيس أن عهد الأحزاب مرحلة وانتهت في التاريخ، ويرى أن الأحزاب التونسية عاجزة عن قيادة المرحلة التي تمر بها البلاد، وسبق أن قال سعيد: “عشتُ مستقلًا وسأبقى مستقلًا وسأواري الثرى مستقلًا لوحدي”.
يذكر أن قيس سعيد أقام خطابه منذ بداية حملته التفسيرية التي سبقت الانتخابات الرئاسية على نقيض من المنظومة الحزبية، فقد أوضح وبين في أكثر من مرة أنه لا يؤمن بها كأداة للفعل السياسي، وأنه يسعى للقضاء عليها، حتى يستفرد بالحكم بحجة أن الشعب له أن يحكم مباشرة دون وساطة.
هذا الأمر يفسِر تنكر الرئيس للأحزاب السياسية الفائزة في البرلمان وتعيينه رئيس حكومة خارجها، ورفضه حتى استقبال ممثلين عنها لتقديم مقترحاتهم لرئاسة الحكومة، وكان ذلك في مرتَين، فهو لا يفلت أي فرصة لتنزيل برنامجه أرض الواقع ويمعن في إذلال الأحزاب السياسية حتى التي ساندته مساندة مطلقة.
سقوط أبرز دعائم الديمقراطية
رغم تأكيده أن الوقت ما زال مبكرًا للتكهن بما تخفيه الأيام القادمة للشعب وللرئيس نفسه، يقر سعيد عطية أن تونس أمام مجازفة غير محمودة العواقب قد تزيد تعكير الأوضاع وتنسف كل مقومات التجربة الديمقراطية من جذورها.
الأحزاب السياسية التي تستثمر في التعفن السياسي في البلاد وسكتت على ممارسات الرئيس وبدأت تبرر له حتى تصفي حساباتها السياسية مع بعض خصومها، هم أنفسهم مهددون
بدوره يرى الناشط السياسي فارس التارزي في حديثه لنون بوست أن “ما تشهده تونس يؤكد أن الديمقراطية الفتية للبلاد في خطر، فإجراءات سعيد وصمت الأحزاب من شأنه أن ينهي الحياة السياسية التي تعتبر عماد الديمقراطية”، وتابع محدثنا “أخطر ما يهدد الديمقراطية هو الشعبوية والذهاب نحو ما يُعرف بالسلطوية الشعبوية أي شخص شعبوي على رأس السلطة يستثمر في التعفن السياسي والأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي كان سببًا فيها”.
“حتى الأحزاب السياسية التي تستثمر في التعفن السياسي في البلاد وسكتت على ممارسات الرئيس وبدأت تبرر له حتى تصفي حساباتها السياسية مع بعض خصومها، هم أنفسهم مهددون لأن نظام قيس سعيد ضد كل الأحزاب وضد المنظومة السياسية برمتها” وفق قوله.
وأضاف التارزي في حديثه لنون بوست “الخوف الحقيقي والأساسي من الفئة المهمشة اقتصاديًا واجتماعيًا التي تضررت من المنظومة السياسية وآمنت بقيس سعيد وصدقت سعيه لمكافحة الفساد ورأته منقذًا، ستكتشف بعد وقت أن سعيد ليس ذلك المنقذ الذي له أن يقود السفينة بكل ركابها إلى بر الأمان”.
“هذه الفئة ستصاب بخيبة أمل كبيرة ما سيدفعها للاحتجاج مرة أخرى، حينها ستكون البلاد في خطر كبير لا أحد له أن يتوقع كيف سيكون”، وختم فارس التارزي بقوله: “انطلقنا في بناء ديمقراطي منذ 2011، وعلينا أن نصبر قليلًا على الديمقراطية حتى تتقدم البلاد اقتصاديًا واجتماعيًا، وأن نعيد تقييم التجربة ونبني ونراكم عليها ونقوم بالإصلاحات الضرورية اللازمة لكن في إطار الدستور والمؤسسات الدستورية التي كانت قائمة قبل 25 من يوليو/تموز”.
لا شك أن الأحزاب التونسية فشلت في الاستجابة لتطلعات الشعب وتنزيل مطالبه على أرض الواقع بعد ثورة يناير، لكن ذلك لا يعني تحميلها مسؤولية الوضع الذي وصلت له البلاد بغية التخلص منها، ذلك أن زوال الأحزاب سيمهد الطريق لزوال الديمقراطية ودخول البلاد لمرحلة الحكم الفردي الاستبدادي الذي لم يقدم للتونسيين إلا مزيدًا من القمع.