ترجمة وتحرير: نون بوست
وثقت صحيفة “واشنطن بوست” في سلسلة تقارير تتكون من 6 أجزاء بعنوان “الحرب مع الحقيقة“، وترجمها “نون بوست”، تمادي الإدارة الأمريكية وقياداتها العسكرية في قول الأكاذيب وتضليل الرأي العام طوال الحملة العسكرية التي استمرت 18 سنة في أفغانستان، وذلك عبر اختلاق الأدلة وتحريف الإحصائيات وقمع الانتقادات اللاذعة والشكوك حول الحرب، لجعل الولايات المتحدة تبدو وكأنها تكسب الحرب بينما لم يكن الأمر كذلك على أرض الواقع.
إليك نص الجزء الخامس من هذه السلسلة:
على مدى ما يقرب من عقدين من الزمان، أكد القادة العسكريون الأميركيون أنهم يحرزون تقدماً بشأن المحور الأساسي من استراتيجيتهم العسكرية، أي بناء قوات جيش وشرطة أفغانية قادرة على الدفاع عن البلاد بمفردها.
في 2010، قال الجنرال جيم ماتيس في استجواب أمام الكونغرس: “نحن على المسار الصحيح الآن”. وفي 2012، قال الجنرال جون ألين: “القوات الأفغانية أفضل مما كنا نظن”.
في 2014، قال الجنرال جوزيف أندرسون للصحفيين: “قوات الأمن الأفغانية تحقق النصر”.
ولكن في مجموعة كبيرة من المقابلات الحكومية السرية التي حصلت عليها واشنطن بوست، وصف المسؤولون في الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وأفغانستان جهودهم الرامية إلى إنشاء قوة محلية متطورة بأنها فاشلة. تحدث معظمهم في المقابلات على أساس أن ملاحظاتهم ستبقى سرية، وقد أكدوا أن قوات الأمن الأفغانية غير كفؤة وتفتقد للدوافع وسيئة التدريب وفاسدة ومليئة بالدخلاء.
في إحدى المقابلات، يقول توماس جونسون، الذي عمل مستشارًا لمكافحة التمرد في ولاية قندهار، إن الأفغان ينظرون إلى الشرطة على أنها عصابات ويصفونها بـ”المؤسسة الأكثر سوءا” في أفغانستان. ويقول مسؤول نرويجي لم يذكر اسمه إنه يقدر أن 30 المئة من عناصر الشرطة الأفغانية فروا بأسلحتهم حتى يتمكنوا من “إقامة نقاط تفتيش خاصة بهم” وابتزاز الأموال من الشعب الأفغاني.
يقول رايان كروكر، سفير الولايات المتحدة السابق في كابول، في هذه المقابلات إن الشرطة الأفغانية لم تكن تقوم بدورها و”عديمة الفائدة كقوة أمنية، وهي قوة فاسدة حتى أدنى المستويات”.
وقد وصف فيكتور غلافيانو، الذي عمل كمستشار للجيش الأفغاني من 2007 إلى 2008، الجنود الأفغان بأنهم “لصوص حمقى” اعتادوا على نهب المعدات التي يوفرها البنتاغون. واشتكى غلافيانو في المقابلات من أن القوات الأفغانية كانت تمتلك “بنادق جيدة، لكنها لا تعرف كيفية استخدامها” وأنهم مقاتلون غير منضبطين، يهدرون الذخيرة لأنهم “يريدون إطلاق النار باستمرار”.
منذ سنة 2002، خصصت الولايات المتحدة أكثر من 83 مليار دولار كمساعدات أمنية لأفغانستان، وهو مبلغ ضخم جدا مقارنة بميزانيات الدفاع في دول نامية أخرى. في ذروة الحرب سنة 2011، تلقت أفغانستان 11 مليار دولار من المساعدات الأمنية من واشنطن، أي أكثر بـ3 مليارات دولار مما أنفقته باكستان المجاورة في تلك السنة، وهي التي تمتلك مخزونًا من الأسلحة النووية وجيشًا أكبر بكثير.
بعد ما يقرب من عقدين من المساعدات الأمريكية، لا يزال الجيش والشرطة الأفغانيان عاجزين عن مواجهة طالبان أو داعش أو غيرهما من الحركات المتمردة دون دعم عسكري أمريكي.
تحدث المسؤولون الحكوميون والصحفيون عن أوجه قصور كبيرة في عملية بناء قوات الأمن الأفغانية على مر السنين، لكن سجلات المقابلات التي حصلت عليها واشنطن بوست تتضمن رؤى جديدة حول طبيعة الأخطاء التي حدثت وتكشف التناقضات الهائلة بين ما قاله المسؤولون الأمريكيون علنًا وما يعتقدونه حقا.
على الورق، تبدو قوات الأمن الأفغانية كافية، بوجود 352 ألف عنصر وضابط شرطة، لكن وثائق الحكومة الأفغانية تثبت أن 254 ألفًا فقط موجودون فعلا في الخدمة.
وفقًا لمراجعات الحكومة الأمريكية، قام القادة الأفغان لسنوات بتضخيم الأرقام حتى يتمكنوا من الحصول على مبالغ أكبر من المساعدات الأمريكية. نتيجة لذلك، أصبحت واشنطن تطلب من الأفغان إصدار بيانات بيومترية، بما في ذلك بصمات الأصابع ومسح الوجه، للتحقق من أعداد المجندين.
خسر الجيش والشرطة أعدادا كبيرة من عناصرهما في الحرب لدرجة أن الحكومة الأفغانية أخفت الأرقام الحقيقية للمحافظة على الروح المعنوية. تشير التقديرات إلى مقتل أكثر من 60.000 من قوات الأمن الأفغانية، أي حوالي 17 ضعف عدد قتلى القوات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي.
يضم الجيش الأفغاني حوالي 162 ألف جندي، ويتبع وزارة الدفاع. ويبلغ عدد أفراد الشرطة حوالي 91000، ويتبعون وزارة الداخلية، وهم أقرب إلى القوة العسكرية من قوات مكافحة الجريمة. يقوم رجال الشرطة بحراسة الحدود والإشراف على نقاط التفتيش وعلى المناطق التي يطهرها الجيش من المسلحين.
في ظل ضعف قوات الأمن الأفغانية، لم يتمكن الجيش الأمريكي من السيطرة على الوضع في أفغانستان. ومع تراجع عدد القوات الأمريكية في البلاد من 100 ألف قبل ثماني سنوات، إلى 13 ألفا في الوقت الحالي، فإن إدارة ترامب كانت مضطرة إلى تصعيد عملياتها الجوية لمنع طالبان من السيطرة.
قال الرئيس ترامب إنه يريد سحب المزيد من القوات الأمريكية، في ظل انخراط إدارته في محادثات سلام مع طالبان. لكن خلال فترة رئاسته، قصفت الطائرات الأمريكية أفغانستان شهريا بثلاثة أضعاف عدد القنابل والصواريخ التي كان يتم استخدامها شهريًا خلال الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما، وفقًا لإحصاءات الجيش الأمريكي.
في الوثائق التي حصلت عليها واشنطن بوست، اعتبر مسؤولو الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي أنهم مسؤولون جزئيًا عما حدث، وقالوا إنهم تحركوا ببطء شديد لبناء القوات الأفغانية خلال السنوات القليلة الأولى من الحرب عندما كانت تهديدات طالبان عند الحد الأدنى. وبعد أن تطورت قدرات طالبان، كانت هناك رغبة في تدريب القوات الأفغانية بسرعة كبيرة.
أكد مارين سترميكي، المستشار المدني لوزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد، في مقابلة أُجريت سنة 2015، أن التوقيت السيء والتخطيط غير الجيد سببا انتكاسات حادة.
وقال سترميكي: “كانت تلك عواقب استراتيجية لما قمنا به. هذا ليس مجرد عمل سهل. إنها مهمة صعبة، إما أن تنجح فيها، أو تفشل في القيام بهذه الأمور في الوقت المناسب”.
تم إجراء المقابلات من قبل مكتب المفتش العام لإعادة إعمار أفغانستان، وهي وكالة أنشأها الكونغرس لكشف عمليات الاحتيال والتبذير في حرب أفغانستان. في 2014، أطلقت الوكالة مشروعًا خاصًا بعنوان “الدروس المستفادة” لفحص إخفاقات السياسة الأمريكية في أفغانستان، وأجرت مقابلات مع أكثر من 600 شخص لعبوا دورًا مباشرًا في الصراع، من القادة العسكريين إلى عمال الإغاثة.
بالاعتماد على تلك المقابلات ووثائق حكومية أخرى، نشر مكتب المفتش العام تقريرين عن الدروس المستفادة في 2017 و2019، مسلطا الضوء على مجموعة من الأخطاء في عملية تشكيل قوات الأمن الأفغانية. وجاءت هذه التقارير في أعقاب العديد من عمليات التدقيق والتحقيقات التي قام بها مكتب المفتش العام والتي كشفت مشاكل مماثلة مع الجيش والشرطة الأفغانيين.
لكن تقارير الدروس المستفادة حذفت أسماء الغالبية العظمى من المسؤولين الذين تمت مقابلتهم، بالإضافة إلى حذف انتقاداتهم الأكثر حدّة. حصلت واشنطن بوست على ملاحظات ونسخ من المقابلات بموجب قانون حرية المعلومات بعد معركة قانونية استمرت ثلاث سنوات.
يقول دوغلاس لوت، وهو ملازم أول بالجيش خدم في أفغانستان خلال فترتي الرئيسين جورج دبليو بوش وأوباما: “لقد حصلنا على مستوى القوات الأفغانية الذي نستحقه“.
يضيف لوت أنه لو عززت الحكومة الأمريكية التدريبات بين عامي 2002 و2006، “عندما كانت حركة طالبان ضعيفة وغير منظمة، لكانت الأمور مختلفة. بدلا من ذلك، ذهبنا إلى العراق. لو التزمنا بتخصيص المال بشكل تلقائي وعاجل، كنا سنحصل على نتيجة مختلفة”.
أصبح الاختلاف بين ما يعتقده المسؤولون الأمريكيون عن قوات الأمن الأفغانية وما يقولونه في العلن واضحا منذ المراحل الأولى من الحرب. في تشرين الأول/ أكتوبر 2004، وزّع البنتاغون وثيقة تشيد بالجيش والشرطة الأفغانيين. وصفت الوثيقة خمسة عشر ألف جندي في الجيش الأفغاني الناشئ بأنهم “قوة محترفة ومتعددة الأعراق ستتحول بسرعة إلى ركيزة من ركائز أمن البلاد”.
كما أكدت الوثيقة أن الشرطة الأفغانية، التي تعد جزئيًا تحت وصاية ألمانيا، لديها 25000 ضابط تم تدريبهم تدريبا حديثا. لكن على صعيد سري، كشف مسؤولو إدارة بوش عن مخاوفهم وأطلقوا عدة تحذيرات. في شباط/ فبراير 2005، أرسل رامسفيلد تقريرا سريا إلى وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس حول الشرطة الأفغانية. كان التقرير بعنوان “قصص مروعة عن الشرطة الوطنية الأفغانية”، ووصف معظم أفراد الشرطة بأنهم أميون ويفتقرون للتجهيزات والتدريبات الضرورية.
كتب رامسفيلد في مذكرة مرفقة بالتقرير: “ألق نظرة من فضلك. هذا هو وضع الشرطة الوطنية الأفغانية، وهي مشكلة خطيرة. انطباعي هو أن هاتين الصفحتين قد كُتبتا بطريقة بسيطة وغير تحريضيّة قدر الإمكان”. بعد شهر واحد، أرسل رامسفيلد مذكرة سرية أخرى إلى مستشار الأمن القومي، ستيفن هادلي، يشكو فيها من وجود اتفاق بين البنتاغون ووزارة الخارجية لتدريب الشرطة الأفغانية، لم يأت بأي نتيجة.
يضيف رامسفيلد: “أنا أفكر في التوقف عن هذه المحاولات. نحن بحاجة إلى رسم خارطة طريق لنسير إلى الأمام. لقد عملت بجدّ على تحسين الوضع، لكنني على وشك أن أصل إلى خلاصة أنه ليس من الممكن للبيروقراطية الحكومية الأمريكية أن تنفرد باتخاذ الإجراء المعقول الوحيد”.
كشف رامسفيلد عن الملاحظتين المتعلقتين بالشرطة الأفغانية عندما نشر مذكراته سنة 2011. وتُظهر الملاحظات والوثائق الأخرى أن رامسفيلد شجّع على تدريب القوات الأفغانية بسرعة، لكنه أراد إبقاء عددها محدودا حتى لا تواجه الحكومة الأمريكية صعوبة في نفقاتها.
لكن خلال مقابلات الدروس المستفادة، قال مسؤولون آخرون في إدارة بوش إن رامسفيلد كان ضيّق الأفق، وأكدوا أنه كان بإمكان واشنطن توفير الأموال على المدى الطويل، وإخضاع طالبان، إذا عملت على بناء جيش وقوات شرطة أفغانية أكبر عددا وأفضل تسليحا.
يقول مسؤول أمريكي سابق، لم يذكر اسمه، في تقرير الدروس المستفادة، إن السنوات الأولى من الحرب استمت بـ”خطة أمريكية غير منظمة ومثيرة للسخرية” لتدريب قوات الأمن الأفغانية. في البداية، أصرت إدارة بوش على توفير 50 ألف جندي وشرطي أفغاني، وأشار المسؤول إلى أن هذا الرقم “لم يكن واقعيا بالنظر إلى حجم الاحتياجات الأمنية“.
وقال زلماي خليل زاد، الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة في أفغانستان من 2003 إلى 2004، إن الحكومة الأفغانية طلبت من واشنطن تمويل قوات أمن تتراوح أعدادها بين 100 ألف و120 ألف فرد. لكن خليل زاد أكد في تقرير “الدروس المستفادة” أن رامسفيلد اتخذ موقفا متشددا وجمّد برنامج التدريب إلى أن وافق الأفغان على الالتزام بالعدد الأقصى، وهو 50 ألف جندي، مما تسبب في تأخير عملية تشكيل قوات الأمن بشكل كبير.
وقال خليل زاد: “لقد كنا نتناقش في 2002 و2003 حول هذه الأعداد“، مشيرا إلى أنه كانت هناك حاجة واضحة لتجنيد أعداد أكبر، و”الآن نحن نتحدث عن قرابة 300 ألف جندي“.
يقول سترميكي إن النزاع استمر حتى بعد أن اتضح للجميع في سنتي 2004 و2005 أن القوات الأفغانية بحاجة إلى التوسع بسرعة لمحاربة حركة طالبان. ويضيف أن “الطريقة التي سيتم بها حل هذا المشكل هي الطريقة ذاتها التي يتم بها حل جميع المسائل في واشنطن، وذلك من خلال عدم حلها”. وفي المقابلة التي أجراها ضمن تقرير “الدروس المستفادة”، قال سترميكي إن هناك مشكلة أساسية أخرى تتمثل في افتقار الحكومة الأمريكية إلى القدرة على تدريب وتجهيز الجيوش الأجنبية الكبيرة من نقطة الصفر.
وأضاف سترميكي قائلا: “لا يعد تنفيذ عمليات المشاة ولا حتى التدريب على استخدام المدفعية أمرا جديدا. كل هذه العمليات منظمة ولا تتطلب أي عقيدة. لكن عندما تعمل على تدريب قوات أمن لمجتمع آخر، فهذا أهم عمل سياسي قد تقوم به على الإطلاق، ويتطلب قدرا هائلا من التفكير والتطور”.
عندما تولى أوباما منصبه في كانون الثاني/ يناير 2009، كانت الحرب تسير على نحو سيء. في النهاية، كشف أوباما النقاب عن استراتيجية جديدة لمكافحة التمرد وأوشك على مضاعفة عدد القوات الأمريكية في أفغانستان ثلاث مرات لتبلغ 100 ألف جندي. أكد أوباما للشعب الأمريكي أن زيادة القوات الأمريكية في أفغانستان كانت مؤقتة، ووعد لاحقا بإعادة جميع القوات الأمريكية إلى الوطن بنهاية فترته الرئاسية في كانون الثاني/ يناير 2017.
كانت استراتيجية أوباما تعتمد على زيادة أعداد قوات الأمن الأفغانية من 200 ألف إلى 350 ألف جندي وشرطي. تمثّلت الفكرة الرئيسية في إشراف القوات الأمريكية وقوات الناتو على تدريب الأفغان وتقديم المشورة حتى يتمكنوا القتال بمفردهم لاحقا.
ورغم النقص المستمر في عدد المدربين والمجندين، أكد القادة العسكريون الأمريكيون وغيرهم من كبار المسؤولين للشعب الأمريكي مرارا وتكرارا أن قوات الأمن الأفغانية تتحسن باستمرار وأن القوات الأمريكية لن تكون بحاجة في النهاية للمشاركة في العمليات القتالية.
في هذا السياق، أكد الجنرال جيمس ماتيس، الذي شغل لاحقا منصب وزير الدفاع في إدارة ترامب، أمام مجلس الشيوخ في تموز/ يوليو 2010 أن “أسوأ كابوس لطالبان، هو أن تتضاعف قوة الجيش الأفغاني، وأن يشارك مع قواتنا ويتحرك ضد عدو يعرفونه أكثر من أي شخص آخر. وأعتقد أن ذلك أمر مشجع للغاية”.
بعد خمسة أشهر، قال وزير الدفاع السابق روبرت غيتس، في مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض، إن قوات الأمن الأفغانية تتقدم “قبل الموعد المحدد”، مضيفا: “إنها تعمل بشكل جيد بالشراكة مع قوات التحالف، وستستمر في التحسن من خلال تلقي التدريب المناسب، وتوفير المعدات والدعم”. كما أثنى أعضاء الكونغرس من كلا الحزبين على التقدم الذي أحرزه الأفغان.
وقال رئيس لجنة القوات المسلحة، كارل ليفين (ديمقراطي من ميشيغان)، الذي كان آنذاك عضوا بمجلس الشيوخ، في جلسة استماع في آذار/ مارس 2011: “إن التطور في حجم وقدرة قوات الأمن الأفغانية وسيطرتها على الأراضي يقوّض أهداف طالبان ويقربنا من النجاح في مهمتنا”.
من جانبه، أكد السيناتور جون ماكين (من الحزب الجمهوري من أريزونا) والعضو الجمهوري البارز في اللجنة في ذلك الوقت، أن “قوات الأمن الأفغانية تتطور من حيث العدد والفعالية بشكل أسرع مما كان مخططًا له”. لذلك، “نحن نغيّر موازين الحرب”.
في سنة 2011، أمر أوباما بانسحاب جزئي تدريجي للقوات الأمريكية. مع وجود عدد أقل من الأمريكيين في القتال، بدأت النكسات تتراكم لقوات الأمن الأفغانية، واستولت طالبان ببطء على المزيد من الأراضي. في المقابل، استمر القادة الأمريكيون في إخبار الجمهور بأن كل الأمور تسير وفقًا للخطة.
في هذا الصدد، صرح الجنرال في الجيش آنذاك، مارك إيه ميلي، خلال مؤتمر صحفي سنة 2013 من كابول: “كان هذا الجيش وقوة الشرطة فعالين للغاية في القتال ضد المتمردين”. هل كان هناك واحد أو اثنان من المخافر التي وقع اجتياحها؟ نعم فعلا. لكن هذا الرقم ضئيل من جملة 3000 إلى 4000 من المخافر الأمامية موجودة في البلاد”.
في الوقت الراهن، يعمل ميلي جنرالا من فئة أربع نجوم ورئيس هيئة الأركان المشتركة. مع استمرار الحرب، أوضحت التقارير الإخبارية من الجبهة أن قوات الأمن الأفغانية كانت تكافح للتصدي لحركة طالبان. وفي العلن، بدأ مسؤولو البنتاغون في مراجعة تقييماتهم. لكنهم ما زالوا يقولون إن قوات الأمن تحرز تقدما لكنهم أقروا بأنهم ربما بالغوا في قدرات الأفغان في الماضي.
في شأن ذي صلة، أوضح وزير الدفاع، آشتون بي كارتر، خلال زيارة إلى قندهار في شباط/ فبراير سنة 2015، لا يتعلق الأمر بكفاءة الأفغان في القتال. لكن قبل بضع سنوات فقط، لم تكن هناك قوة أمن قومية أفغانية على الإطلاق”. وخلال زيارة أخرى أداها إلى منطقة الحرب بعد 10 أشهر، قال كارتر إنه “أصبح هناك قوات الأمن الأفغانية… وإذا طلبت مني أن أراهن على هذا الأمر قبل خمس سنوات، ربما أجبت أنني لا أعلم. ربما كنت سأقدم لك احتمالات على ذلك أو شيء من هذا القبيل. لكننا نجحنا في ذلك بفضل جهودنا المتظافرة”.
بحلول الوقت الذي غادر فيه أوباما منصبه خلال شهر كانون الثاني/ يناير سنة 2017، فشلت الخطة. بدلا من إنهاء الحرب كما وعد، ترك أوباما 8400 جنديا أمريكيا في أفغانستان. وبعد أقل من سنة، قرّر خليفته في البيت الأبيض أن ذلك لم يكن كافيًا وأعاد عدة آلاف من القوات الأمريكية لمساعدة الأفغان. وفي الوقت الراهن، لا يزال هناك حوالي 13 ألف من القوات الأمريكية في البلاد. في شأن ذي صلة، صرّح الرئيس ترامب في آب/ أغسطس سنة 2017 خلال خطاب ألقاه في فورت ماير بولاية فرجينيا: “كلما أصبحت قوات الأمن الأفغانية أقوى، قلّ ما يتعين علينا القيام به”.
في مقابلات الدروس المستفادة، قال مسؤولو الولايات المتحدة وحلف الناتو إن تقارير التقدم المتفائلة التي تم تسليمها للجمهور كانت إلى حد كبير وهمية، لاسيما بعد التستر عن أوجه القصور الرئيسية التي كانت مرئية منذ البداية. في البداية، يمكن لحوالي اثنين من كل 10 مجندين أفغان فقط القراءة أو الكتابة. قام المدربون من الولايات المتحدة وحلف الناتو بإخضاعهم لدورات محو الأمية المكثفة، لكنها لم تستمر سوى بضعة أسابيع.
كان لابد من سدّ الفجوات الأخرى في المعارف الأساسية. أخبر أحد مدربي القوات الخاصة الأمريكية المحاورين الحكوميين أن الأفغان أخطأوا في استخدام حنفيات المراحيض في الثكنات على أنها نوافير للشرب. من جانبه، صرّح مدرب أمريكي آخر أنه كان ينبغي عليه أن يعلم المجندين أساسيات علم التشريح البشري: “لم يفهموا كيف يمكن أن تساعد الضمادات في وقف النزيف إذا لم تضعها على الجرح”.
وفقًا للمقابلات، توغلت الدوافع والولاءات المشكوك فيها في صفوف الجيش والشرطة. شكلت التوترات العرقية والقبلية معضلة دائمة، حيث سيطر أمراء الحرب على سلك الضباط الذين تحصلوا الترقيات على أساس المحسوبية. واستغرق الأمر ما يقارب عقد من الزمان لتأسيس القوات الجوية الأفغانية، ليس فقط بسبب نقص الطيارين المؤهلين، وإنما أيضًا بسبب ندرة الميكانيكيين الذين يمكنهم قراءة دليل الإصلاح.
من جانب آخر، أخبر أحد المستشارين العسكريين الأمريكيين الذي عمل مع القوات الجوية الأفغانية المحاورين الحكوميين أن “الأفغان كانوا يأتون إليهم بشارة الطيار التي “عثروا عليها أو اشتروها، بدعوى أنهم طيارون ولكنهم لا يملكون في الحقيقة أية خبرة في مجال الطيران”.
قال المستشار الأمريكي، الذي لم يذكر اسمه، إن القاعدة الجوية التي كان يعمل بها كانت تعاني من”الخدع”، حيث أن العديد من الأفغان كانت تفوح منهم وقود الطائرات عندما يغادرون كل يوم لأنهم كانوا يهربون حاويات صغيرة منها لبيعها في السوق السوداء.
في الحقيقة، كان مستوى الفساد مستشريًا في المستويات الدنيا من الدوائر في أفغانستان. وفي مقابلة خاصة ببرنامج الدروس المستفادة أجريت سنة 2015، وصف مسؤول في الأمم المتحدة لم يذكر اسمه، كيف كان مجندو الشرطة الأفغانية الذين يخضعون للتدريب لمدة أسبوعين ويحصلون على زيهم الرسمي، يبيعونه عندما يعودون إلى المقاطعة. وأضاف المصدر ذاته أنهم لا يأبهون لاحتمال وقوعهم في المشاكل، فحتى إذا وقع تجنيدهم من جديد سيعودون لفعل ذلك مرة أخرى”.
حاول المستشارون الأمريكيون باستمرار سد ثغرات في النظام لمنع النهب والسرقة، لكنهم قالوا إنهم تعرضوا في الكثير من الأحيان للإحباط من قبل المسؤولين الحكوميين الأفغان الذين لا يريدون تغيير الوضع الراهن. بالإضافة إلى ذلك، أوضح مسؤول أمريكي سابق للمحاورين حكوميين سنة 2015: “كلما تراجع تفاعلهم مع الإجراءات الجديدة، زاد المال الذي نصرفه عليهم. في الواقع، لم يكن هناك حافز حقيقي للإصلاح”.
خلال معظم فترات الحرب، دفعت واشنطن رواتب قوات الأمن عن طريق تحويل مبالغ ضخمة من المال إلى الحكومة الأفغانية التي كانت بدورها تدفع للجنود وضباط الشرطة نقدًا، بعد أن يأخذ القادة في الكثير من الأحيان حصة غير مشروعة من الأموال، وذلك وفقًا لما ورد في المقابلات والتقارير الإخبارية.
لوقف جرائم الاختلاس، يتلقى معظم قوات الأمن رواتبهم عن طريق تحويلات الحسابات المصرفية الإلكترونية، لكن الكسب غير المشروع لا يزال قائما. في مقابلة أجريت سنة 2015 خاصة ببرنامج الدروس المستفادة، أشار مايكل كالين، الاقتصادي المتخصص في القطاع العام الأفغاني، إلى أنه عمل مع كولونيل أمريكي وصل حديثًا أراد إنشاء نظام آمن من شأنه أن يساهم في حصول ضباط الشرطة الأفغان على أجورهم عن طريق التحويلات عبر الهاتف المحمول بدلا من نقدا.
قال كالين: “كان هذا العقيد لايزال مفعما بالحيوية والأمل والنشاط وكان متحمسًا حقًا وقال إننا سنقوم بدفع أموال الهاتف المحمول”. كما أشار كالين إلى أنه حاول مع الكولونيل إقناع مسؤول في وزارة الداخلية لم يرغب في ذكر اسمه، بالفكرة التي من الواضح أنها لم ترق له؛ حيث أن رده على مقترحهم كان كالآتي، “بالتأكيد، إذا كنت تريد القيام بذلك، فافعل ذلك في أماكن لا يوجد بها وكلاء للمعاملات المالية بالهاتف المحمول. اذهب وافعل ذلك في الأماكن التي لا تعمل فيها الهواتف المحمولة. لماذا يبدو وزير الداخلية الجالس هنا شبه نائم وفي نفس الوقت يتدخل بأمورك؟ لأن لديه مصلحة راسخة في التأكد من ألا ينجح الأمر”.
تنتشر الهواتف المحمولة بشكل كبير في أفغانستان، وقد أنشأت وزارة الداخلية في نهاية المطاف برنامجا تجريبيا لدفع رواتب عدد صغير من ضباط الشرطة من خلال الهاتف المحمول. وقال المسؤولون الأمريكيون إن التجربة نجحت، ولكن الحكومة الأفغانية لم تنفذها على نطاق واسع.
عرّض الفساد المتفشي قوات الأمن للخطر بطرق أخرى. بمرور الوقت، أصبح الرأي العام الأفغاني يشعر بالاشمئزاز من عمليات الرشوة والابتزاز، إلى الحد الذي جعل الكثيرين يتساءلون عمن يمثل الشر الأكبر ـ طالبان أم الحكومة الأفغانية.
وفي إحدى المقابلات التي أُجريت معه في إطار تقرير “الدروس المستفادة” سنة 2017، قال شاه محمود مياخل، المستشار السابق لوزارة الداخلية الأفغانية، إنه تلقى ذات مرة توبيخا قاسيا من زعماء القبائل في المناطق التي لم يتمكنوا فيها من فرض الأمن.
وتابع مياخل، الذي يشغل حاليا منصب حاكم إقليم ننكرهار شرقي أفغانستان: “تساءلت لماذا لا تستطيع قوة أمنية متكونة من حوالي 500 عنصر، من هزيمة حوالي 20 أو 30 عنصرا من طالبان. رد زعماء القبائل أن رجال الأمن ليسوا هناك للدفاع عن الشعب ومحاربة طالبان، بل لكسب المال” من خلال بيع أسلحتهم أو وقودهم.
وأضاف: “سألت كبار السن: حسنا الحكومة لا تحميكم، لكن عددكم حوالي 30 ألف شخص في المنطقة. إذا كنتم لا تحبون طالبان فعليكم محاربتها. أجابوا بأنهم لا يريدون أن تأتي هذه الحكومة الفاسدة ولا يريدون طالبان أيضا، لذلك فهم ينتظرون ليروا من سيفوز”.
على الرغم من مشاكله، هناك إجماع على أن الجيش الأفغاني قطع أشواطا إلى الأمام وحاز على قدر من الاحترام لدى الجمهور الأفغاني، على عكس قوات الشرطة، وغالبا ما يتم الثناء على وحدات العمليات الخاصة بفضل فعاليتها القتالية.
وفي المقابلات التي أُجريت في إطار مشروع “الدروس المستفادة”، وجه المسؤولون الأمريكيون الكثير من انتقاداتهم إلى الشرطة الأفغانية، التي تعمل كقوة شبه عسكرية.
وُجّهت الانتقادات أساسا إلى الوحدات المعروفة باسم الشرطة المحلية الأفغانية. تعدّ الشرطة المحلية، التي تضم حوالي 30 ألف عنصر، بمثابة ميليشيات منظمة في المناطق القروية. رغم تأسيسها سنة 2010 بناءً على طلب من الولايات المتحدة – وتدريبها من قبل الجيش الأمريكي – إلا أنها سرعان ما اكتسبت سمعة سيئة بسبب وحشيتها، وأصدرت ضدها منظمات حقوق الإنسان العديد من الشكاوى.
وقد أكد مسؤول عسكري أمريكي، لم يذكر اسمه، في إفادته سنة 2016 أن حوالي ثلث أفراد الشرطة المحلية “مدمنون على المخدرات أو ينتمون إلى حركة طالبان”، مضيفا أن “هدفهم الرئيسي هو الحصول على الوقود من الوحدة الأمريكية، لقد كانوا يلهثون دائما وراء الوقود”.
من جانبه، دافع الجنرال جون ألين، الذي شغل منصب قائد القوات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي في أفغانستان من سنة 2011 إلى 2013، عن الشرطة المحلية ووصفها بالناجحة.
وقال ألين في تقرير “الدروس المستفادة” إن “الشرطة المحلية الأفغانية صمدت أمام 80 بالمئة من الهجمات. في الواقع، كانت طالبان أكثر قلقًا بشأن الشرطة المحلية الأفغانية من أي قوة أخرى مسؤولة عن حماية الشعب الأفغاني”.
لكن لم يوافق أي مسؤول آخر في مشروع “الدروس المستفادة” على هذا الرأي. وقد وصف روبرت بيريتو، المحلل السابق في المعهد الأمريكي للسلام، الشرطة المحلية الأفغانية بأنها “مفككة“، وقال إنها كانت في العديد من المناطق بمثابة “قوة فاسدة يديرها أمراء الحرب“.
أخبر أحد مستشاري فريق العمليات الخاصة الأمريكية الذي لم يذكر اسمه، المحاورين الحكوميين في سنة 2016 أن وحدته عملت مع رئيس الشرطة المحلية الأفغانية الذي كان “فاسدا بالتأكيد” وأن ميليشياته تعج باللصوص والمتمردين.
قال المستشار إنهم “كانوا يقولون إنهم يواجهون عطلا ما، أو يطلبون الوقود ثم يبيعونه في السوق. أو يقولون إن سيارتهم تعطلت. وكانت هناك حالة واحدة عندما أخذ الميكانيكي التابع لنا الشاحنات واكتشف أنها خُرّبت عمدا. لقد كان الأمر جليا بالفعل، فقد قطعوا أنبوبًا أو شيئا من هذا القبيل”.
أخبر سكوت مان، وهو ضابط متقاعد من الجيش، المحققين الحكوميين أن تدريب الشرطة المحلية توسع بسرعة كبيرة بين سنتي 2011 و2013، مما تسبب في تقويض البرنامج. وأوضح مان قائلا: “إذا كنت تستخدم بدائل أو تتبع طرقا مختصرة، فإنك تحصل على ما تريد. وتحصل بذلك ميليشيات غير خاضعة للمساءلة تستغل السكان”.
في مقابلات “الدروس المستفادة”، قال المسؤولون إن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يتحملان النصيب الأكبر من المسؤولية. وأفاد المسؤولون أن برامج التدريب لقوات الأمن الأفغانية، وليس الشرطة فحسب، كانت سيئة من ناحية التصميم والتنسيق وتعاني من شحّ الموظفين.
صرّح أحد المدربين الأمريكيين السابقين إنه عُيّن في هذه الوظيفة لأنه “كان على دراية بما يحدث“. وعندما سأله المحققون الحكوميون في سنة 2017 عن المسؤول الأمريكي المسؤول عن أفراد تدريب الشرطة، أجاب بأنه لا يوجد شخص واحد وأنه “ليس متأكدا من هوية الشخص الذي يعتقد أنه يؤدي دورا يمكن اعتباره كذلك”. وقال آخرون إن البرامج غير متسقة وتُعيقها حقيقة أن مدربي الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يتمتعون بخبرة من ستة إلى 12 شهرا فقط في كل مرة. وقد وصف أحدهم هذا الافتقار للمعرفة المؤسسية “بعملية جراحة دقيقة سنوية“.
على امتداد سنوات، لم تستطع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي العثور على عدد كافٍ من المتخصصين المعتمدين في مجال إنفاذ القانون لتدريب الشرطة الأفغانية. ومن أجل سد هذه الفجوة، كلّف البنتاغون القوات النظامية بالمهمة، على الرغم من أنهم لا يعلمون سوى القليل عن عمل الشرطة.
أخبر فيكتور جلافيانو، المستشار القتالي السابق، المحاورين الحكوميين أنه “ليس من المنطقي” أن تُدرّب قوات المشاة الأمريكية الشرطة. مع ذلك، قال جلافيانو، الذي كان يتمتع بخبرة باعتباره ضابط شرطة عسكرية، إن الشرطة الأفغانية كانت تتمتع بسمعة سيئة لدرجة أنه “لم يشتك” عندما كُلف بالعمل مع وحدة الجيش الأفغاني بدلا من ذلك.
قال مسؤول أمريكي سابق، لم يذكر اسمه، للمحاورين حكوميين في سنة 2016، إن “التفكير في أننا نستطيع بناء (قوات الأمن) بهذه السرعة والكفاءة كان محض جنون. لا يمكننا حتى إنشاء وحدة شرطة محلية مستدامة في الولايات المتحدة في 18 شهرا. فكيف يمكن أن نتوقع إنشاء المئات منهم عبر أفغانستان في ذلك الإطار الزمني؟”
المصدر: واشنطن بوست