لم تشهد الساحة الفلسطينية أي انتخابات تشريعية منذ عام 2006، حين حصلت حركة حماس على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي، أي البرلمان المنتخب في الأعراف الدولية، والانقسام الداخلي الحاصل في أعقابه إثر رفض حركة فتح نتائج الانتخابات، ما أدى حينها لفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية إداريًا وسلطويًا، فبينما تدير السلطة الفلسطينية ممثلة بحركة فتح الضفة الغربية، تدير حركة حماس شؤون قطاع غزة.
منذ ذلك الوقت، تنفرد حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس الفلسطيني محمود عباس بإدارة الشؤون الفلسطينية وإصدار القوانين والتشريعات وتمثيل فلسطين رسميًا في الخارج، بينما تمارس من الجهة الأخرى شتى الضغوطات على قطاع غزة المحاصر من الاحتلال، وذلك بقطع رواتب الموظفين الحكوميين هناك وتقليص الدعم الحكومي في أحيان ومنعه في أحيان أخرى، بهدف سعيها لإرضاخ حركة حماس، وباليد الأخرى التضييق على المقاومة الفلسطينية في إطار التنسيق الأمني بين سلطة أوسلو والاحتلال.
مع تفرد محمود عباس بالسلطة منذ عام 2005 في أعقاب وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات، أخذت الحكومة الفلسطينية تتحول شيئًا فشيئًا إلى سلطة الفرد الواحد والحركة الواحدة، فسعت حركة فتح والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية – في أعقاب الانقسام – إلى ملاحقة جميع عناصر حركة حماس، ومن كان ينجو من زنازين الاحتلال من أبناء الحركة الإسلامية كانت سجون السلطة تشرع أبوابها له، وإلى جانب ذلك كله، فقد استأثر عباس بإصدار قرارات خارج صلاحياته الرئاسية وعدل الدستور بما يتوافق مع ديمومة حكمه.
مجلس تشريعي “مغيب”
عام 2016، أصدر عباس قرارًا رئاسيًا يقضي بتشكيل محكمة دستورية عليا، أي أعلى جهة قضائية في البلاد، وعلى خلاف نص الدستور باستقلال أفراد القضاء عن أي حزب، عيّن أبو مازن أعضاء المحكمة الدستورية من أبناء حركة فتح، الأمر الذي حمل موجة انتقادات واسعة من الأحزاب السياسية والمؤسسات الحقوقية، ووصفوا القرار بـ”إجراء غير قانوني ويعكس حالة التفرد والتنكر للشراكة الوطنية”.
لاحقًا، وبعد عامين من تأسيسها، أصدرت المحكمة الدستورية العليا التي شكلها الرئيس الفلسطيني المنتهية ولايته محمود عباس قرارًا بحل المجلس التشريعي، وجاء في نص القرار: “إن المجلس التشريعي في حالة تعطل وغياب تام وعدم انعقاد منذ تاريخ 5-7-2007، وقد انتهت مدة ولايته بتاريخ 25-1-2010”.
في الأثناء، بينما حُلّ المجلس التشريعي بسبب انتهاء ولايته، لم تجرِ أي انتخابات تشريعية لاختيار نواب جدد في مجلس تشريعي جديد، بيد أنه في عام 2020 صدر مرسوم رئاسي يقضي بإجراء انتخابات تشريعية تليها انتخابات رئاسية، وبدأت الكتل والأحزاب والمستقلون بالفعل بتشكيل قوائمهم الانتخابية وإعداد حملاتهم الدعائية.
إلا أن أجواء الديمقراطية التي استبشر بها الفلسطينيون بعد عقد ونصف على فقدانها لم تدم طويلًا، إذ صدر قرار رئاسي قبيل يوم بدء الدعاية الانتخابية في أبريل/نيسان 2021 يقضي بتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، تحت حجة “لا انتخابات دون القدس”، وهو ما رآه الفلسطينيون تمسكًا بالحجج الواهية، إذ اقترحت المؤسسات المدنية حلولًا لتجاوز هذه المعضلة، بينما اقترحت الفصائل فرض الانتخابات في القدس على الاحتلال، فضلًا عما رآه حقوقيون في قرار الرئيس من تعدٍ على صلاحيات لجنة الانتخابات المركزية المخولة الوحيدة بقرارات الشأن الانتخابي.
التغول على السلطة القضائية
في خضم تفردها بالقرارات، لم يقتصر تعدي السلطة على المجلس التشريعي المنتخب من الشعب ديمقراطيًا لحله، بل تعدى الأمر إلى تغول واضح على السلطة القضائية، ولا بد حين الحديث عن تعدي السلطة الفلسطينية على القضاء وهيبته واستقلاليته، أن نشير إلى حقيقة أن قاضي قضاة فلسطين – المستقل دستوريًا المُحزّب واقعيًا – هو محمود هباش وقد التحق بصفوف حركة فتح بعد دخول السلطة الأراضي الفلسطينية.
مع غياب المجلس التشريعي، أصدر الرئيس محمود عباس مرسومًا رئاسيًا عام 2019 يقضي بحل مجلس القضاء الأعلى، وإنشاء مجلس انتقالي لمدة عام لغايات إصلاح القضاء، قبل أن يمدد ولايته لاحقًا، وجاء قرار عباس بحل مجلس القضاء حينها بشكل مفاجئ، ورصدت عدسات الكاميرات أجهزة الأمن الفلسطينية تمنع القضاة من دخول مجمع المحاكم في رام الله، لمنعهم من عقد مؤتمر صحفي مطالبين بحل المجلس الانتقالي وإعادة الهيبة للقضاء الفلسطيني وعدالته.
الأمن الفلسطيني يغلق مجمع المحاكم في مدينة رام الله – 2020
وفي السياق، أصدر عباس، مطلع العام الحاليّ، قرارًا بقانون لتشكيل محاكم نظامية جديدة، وقرارًا بقانون بإنشاء قضاء إداري مستقل على درجتين، وقرارًا بقانون ثالث يتعلق بإدخال تعديلات على قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002، كما قرر ترقية عددٍ من قضاة البداية إلى قضاة استئناف، وإحالة ستة قضاة إلى التقاعد المبكر بناءً على تنسيب من مجلس القضاء الأعلى الانتقالي.
أكدت المنظمات الحقوقية حينها أن أي تعديل لقانون السلطة القضائية يجب أن يكون من خلال برلمان منتخب بشكل ديمقراطي وبالتشاور مع مجلس القضاء الأعلى، فيما أكدت أن المدخل لتصحيح ما يجري من مس وتدهور داخلي، هو احترام مبدأ سيادة القانون وفصل السلطات.
نرحل ويبقون: الثابت من الوزراء
خلال ولاية الرئيس عباس، تعاقب ثلاثة رؤساء وزراء على الحكومة الفلسطينية، ومع تشكيل الحكومات الثلاثة توافدت وجوه جديدة على المناصب الوزارية، ومع ذلك، فإن المراقب الجيد للحالة الحكومية الفلسطينية يرى ثابتًا من وزراء لم يتغيروا مع تغير الحكومات أو التعديلات الوزارية، واستقروا كوزراء بشكل غير دستوري، تمامًا كما استقر الرئيس في عرشه بمدينة رام الله بشكل غير دستوري كذلك.
الحكومة الفلسطينية الأخيرة برئاسة رئيس الوزراء محمد أشتية
لعل أبرز الوزراء رياض المالكي الذي يشغل منصب وزير منذ عام 2007، الذي شغل وزير الإعلام قبل أن يستقر وزيرًا للخارجية منذ عام 2009 حتى اللحظة، وأحمد مجدلاني الذي تنقل منذ عام 2005 بين وزير شؤون الجدار والاستيطان والعمل والزراعة، وانتهى إلى وزارة التنمية الاجتماعية منذ تولي الحكومة الجديدة مهامها، وشكري بشارة الذي يشغل منذ 8 أعوام منصب وزير المالية في الحكومة الفلسطينية.
ومع قراءة سريعة للوزارات أعلاه، نرى أن الوزراء الثلاث استقروا في أكثر الحقائب الوزارية حساسية في الحكومة الفلسطينية، الخارجية والمالية والتنمية الاجتماعية، وشهدت هذه الحقائب انتقادات في عملها خلال السنوات الماضية، بتقصير وزارة الخارجية في شؤون المغتربين واللاجئين الفلسطينيين، وضعف التمثيل الفلسطيني الخارجي، ووزارة المالية التي كان لها دور في أزمة رواتب المعلمين عام 2016، ويد في قطع رواتب موظفي قطاع غزة، أما التنمية الاجتماعية فيذكر الفلسطينيون جيدًا المظاهرات التي عمت أرجاء البلاد قبل عامين ونيف بسبب قانون الضمان الاجتماعي الذي يأكل للموظف حقه من راتب بسيط تقدمه الدولة له.
الغياب القسري للمجلس التشريعي المنتخب وتفرد رجل واحد بالسلطة، يقود الديمقراطية إلى نفقها المظلم، عدا عن القرارات التي تقوض استقلال السلطة القضائية وتفسح المجال للهيمنة المطلقة عليها، ما يعني تعديًا واضحًا على حق المواطن الفلسطيني بقضاء عادل ومستقل بعيدًا عن الساسة والأحزاب.