رغم أن الرئيس الأميركي جو بايدن خرجَ بكل بساطة ليعلن الانسحاب من أفغانستان، كان الرئيس الألمان يفرانك-فالتر شتاينماير يشارك في موجة غضب كبيرة أثارها كثير من الألمان حول الانسحاب، واصفًا الأمر بأنه “وصمة عار في جبين الغرب”، و”كيف يمكن أن نترك ملايين الأفغان تحت حكم الإسلاميين؟” كما تقول المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
تثير هذه المزايدات أسئلةً كثيرة، حول سبب الانتفاض الألماني على حقوق ملايين الأفغان فجأة، بينما لا تثير حقوق ملايين المصريين الذين يدهسهم عبد الفتاح السيسي حفظيتها مثلًا! ما الذي جعل الأفغان “هامّين” إلى هذا الحد فجأةً؟
في تقرير لها، تقول قناة CNBC الأميركية إن ألمانيا كانت تضع عينَيها على الليثيوم، الضروري في صناعة السيارات الكهربائية، الموجود في أفغانستان، حتى أنها كانت قد عقدت اتفاقًا مع الرئيس أشرف غني لاستخراجه.. وإذا ما أضفنا النحاس والغاز إلى القائمة، تتّضح الآن الصورة في سبب تباكي الدول على الأفغان مؤخرًا.
الليثيوم.. ومعادن أخرى
في العام 2007، أصدرت هيئة المسح الجيولوجي والبحري الأميركية تقريرًا، قالت فيه إن أفغانستان تحوي رواسب معدنية ضخمة، يمكن أن تحوّلها إلى أشبه بالمملكة العربية السعودية لليثيوم.
كما يقول التقرير أيضًا، والذي تمّ تضمينه في مذكرة أخرى للجيش الأميركي عام 2010، إن قيمة هذه الاحتياطيات المعدنية تصل إلى تريليون دولار أهمها الليثيوم، واعتبرَ أفغانستان حاملة أكبر احتياطيات له في العالم، وبحسب هيئة المسح الأميركية تتوافر كميات كبيرة من الأسبودومين الذي يحمل الليثيوم في إقليم هلمند.
تكمن أهمية الليثيوم في الاحتياج المتزايد إليه في أوروبا وأميركا، مع تفضيل الشركات استخدام الطاقة الكهربائية في النقل، خاصة مع ازدياد ظاهرة الاحتباس الحراري، حيث يمكن القول إن الليثيوم سينافسُ النفط في كثير من البلدان الصناعية.
من ناحية أخرى، قدّرَ تقرير صدر عام 2019 عن وزارة المناجم والبترول الأفغانية، مواردَ النحاس في البلاد بنحو 30 مليون طن، حيث ذكرت خارطة طريق لقطاع التعدين الأفغاني نشرتها الوزارة في العام نفسه، أن هناك 28.5 مليون طن أخرى من النحاس في رواسب البورفير غير المكتشَفة.
من شأن ذلك أن يجعل المجموع يقترب من 60 مليون طن، ما يعادلُ مئات المليارات من الدولارات مع نمو الطلب على المعدن، لكن هذه الثروة العملاقة لا تزال قيد التطوير وغير مستخدَمة.
ذكر تقرير 2019 أيضًا أن أفغانستان لديها أكثر من 2.2 مليار طن من خام الحديد لصناعة الصُّلب، بقيمة تزيد عن 350 مليار دولار بأسعار السوق الحالية، بينما موارد الذهب أكثر تواضعًا حيث تقدَّر بنحو 2700 كيلوغرام ، بقيمة تقارب 170 مليون دولار، في حين أن الوزارة الأفغانية عرّبت عن أن المعادن الأساسية مثل الألومنيوم والقصدير والرصاص والزنك “توجد في مناطق متعدِّدة من البلاد”.
ومع وجود إيران وتركمانستان الغنيتَين بالنفط والغاز في الغرب، تضمّ أفغانستان حوالي 1.6 مليار برميل من النفط الخام و16 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي و500 مليون برميل أخرى من سوائل الغاز الطبيعي.
هذه الأرقام وفقًا لتقرير أفغانستان لعام 2019، الذي استشهدَ بتقييمٍ أميركي أفغاني مشترَك، ينطوي على قيمة 107 مليار دولار للنفط الخام وحده بأسعار السوق الحالية، وذكر التقرير أن “معظم النفط الخام غير المكتشَف موجود في الحوض الأفغاني الطاجيكي، ومعظم الغاز الطبيعي غير المكتشَف موجود في حوض أمو داريا.
هناك الأحجار الكريمة أيضًا، فلطالما كانت أفغانستان مصدرًا رئيسيًّا للازورد، وهو حجر أزرق غامق وشبه كريم يتمّ استخراجه في مقاطعة بدخشان شمال البلاد منذ آلاف السنين، بالإضافة إلى الأحجار الكريمة الأخرى مثل الياقوت والزمرد.
يمكن أن تصل أجود درجات اللازورد إلى 150 دولارًا للقيراط، وفق تقرير أفغانستان لعام 2019، والذي يشير مع ذلك إلى أن غالبية الأحجار الكريمة المستخرَجة في البلاد تغادرُ البلاد بشكل غير قانوني، معظمها إلى بيشاور في باكستان، ما يحرمُ أفغانستان من الإيرادات الحيوية.
صورة توضِّح توزيع المعادن في أفغانستان – المصدر: رويترز.
سؤال المليون دولار
ما الذي كان يمنع استخراج هذه المعادن كلها؟ لمَ بقيت كل هذه الخطط على الورق فقط؟ الجواب: طالبان! فخلال الـ 20 عامًا الأخيرة، لم تكن الحركة مختبئة في الجبال كما يتصوَّر، وإنما كانت تتحكم فعليًّا بكثير من المناطق بصورة كاملة، وكان لديها القدرة على شنِّ هجمات في عمق المناطق التي تسيطر عليها القوات الأميركية والحكومة الأفغانية، ضمنها العاصمة كابول.
كما لم يسمح الوضع الأمني بإنشاء محطات لاستخراج الليثيوم أو النحاس أو إنشاء مصانع للحديد الصلب، فطبيعة الأرض وحجم القوات الأميركية لم يكن ليسمحا بحمايتها، وهو ما ينقلنا إلى النقطة الأهم: من الذي سيستخرج هذه الثروات إذًا؟
تتسابق الدول الآن للتباحُث مع طالبان لتسوية المشاريع الاقتصادية، فروسيا والصين وألمانيا أجرَت محادثات رسمية مع طالبان، واعترفت ضمنًا بحكمها.
لا تبحث هذه الدول تشكيل الحكومة الأفغانية بالطبع، فالجميع يعلمُ أن طالبان ستكون صاحبة القرار بغضّ النظر عن المسؤولين فيها، كما أنها لا تبحث مواضيع حقوق المرأة لأن المتابعين صاروا يعلمون أن الأفغان أنفسهم حلّوا في الأولوية الثالثة بعد علب البيرة والكلاب على الطائرات.. ما بالكم بمحادثات دولية من هذا الحجم!
طالبان وكل أفغانستان لا تملكُ الموارد البشرية ولا المادية للتنقيب عن هذه المعادن والاستفادة منها، لذا سيكون الاتفاق ربما مشابهًا للاتفاقات التي عقدتها دول الاستعمار مع البلدان العربية في فترات ما قبل التحرُّر، أن تقوم تلك الدول بعمل كل شيء، من المسح إلى التنقيب إلى الاستخراج إلى التصدير، مقابل أن تحصل الدولة الأصلية على نسبة من أرباح هذه العملية.
لا يُعرَف بالضبط، في حال عقدت طالبان هذا الاتفاق، كيف سيكون وجه الإنفاق وما هي الخطة التي يمكن أن تعتمدها الحركة لإدارة البلاد، فقد أثبتت الأحداث أن الحركة تعلّمَت الكثير في السياسة، فهل تعلّمت مثل ذلك في الاقتصاد والتنمية في بناء بلد من الصفر تقريبًا؟
الإجابة عن هذا السؤال هو ما سيحدِّد مستقبل أفغانستان، البلد الذي كان يصدِّر الأفيون سابقًا.. وقد يصدّر أحد أعصاب الصناعة العالمية مستقبلًا!