“أنا رياض الصالح حسين.. عمري اثنتان وعشرون برتقالةٍ قاحلة
ومئات المجازر والانقلابات.. وللمرة الألف يداي مبادتان”.
كانت هذه أولى الجمل التي عرفتُ رياض من خلالها، ودهشت لرغبة أحدهم بأن يحسب سنوات عمره بالبرتقال والانقلابات. ولكن كيف لا وهو ابن بلد لم يمرّ عليه عام دون أن يُقلَب رأسًا على عقب.
حين ولدت أنا، كان قد مضى على وفاة رياض ١٦ عامًا. غادر الحياة كما تمنّى في قصيدته أن يموت صغيرًا، فمات قبل أن يرى الثورة، التي كانت آخر كلمة كتبها، وقبل أن يرى سوريا كعظمة بين أسنان كلب، حقيقةً لا مجازًا.
يمضي بي العمر، وتكبر ثورتنا عامًا بعد آخر، وهو لا يزال في الثامنة والعشرين. نكبرُ ويبقى رياض في أول شبابه، بينما أصبحنا نحسب سنين عمرنا بأعداد شهدائنا وخيباتنا ومدن سوريا المسلوبة.
أعرف رياض منذ 3 سنوات ولكن لم أجرؤ على الكتابة عنه، فماذا يمكن أن يُقال في شاعر يملك من الحضور ما لا يضاهيه حضور أيّ شاعر آخر في الشِّعر السوري؟ وماذا يمكن أن يقال في شاعر دفعنا للثورة كما يُدفع الموج من باطن البحر؟ لا شيء.
قصة الرجل السيّئ
ولد رياض الصالح الحسين في 10 من مارس/ آذار 1953، في درعا جنوب سوريا كما في بطاقته الشخصية، لأبٍ من بلدة مارع شمال حلب، وبألم كبير جرّاء التهاب المجاري البولية، تطوّر ليصبح قصور كلوي حاد، قاده في نهاية المطاف لإجراء عملية جراحية في مشفى المواساة بدمشق عام 1967، كان من نتائجها أنه فقد السمع والقدرة الطبيعية على النطق.
انتقل لاحقًا إلى مدينة حلب، وسكنَ في حيّ القصاع ليعمل موظفًا في شركة خاصة للغزل بحيّ التل، حينها فقط بدأت رحلته في التعرُّف إلى عالم الشعراء بلقائه بالشاعر علي كتخدا، وانتقالهما للعمل معًا بفرز الأوراق في مؤسسة الأمالي الجامعية، التابعة لاتّحاد طلبة جامعة حلب.
لم يمضِ وقت طويل حتى شكّلت صداقته مع الشاعر بشير البكر مفصلًا هامًّا في حياته، نتيجة إدخاله في الوسط الثقافي وجو الأدب والشعر، ورغم تنقّله لاحقًا بين العديد من الوظائف والأعمال، وعدم حيازته على شهادة تثبت أنه أنهى دراسة المرحلة الثانوية -حسب ما يتذكر الكثيرون ممن كانوا حوله-، إلا أنه كان صاحب فكر وقلم جميلَين قاداه للمشاركة في إصدار نشرة “الكراس الأدبي” مع عدد من الكتّاب والشعراء السوريين حينها.
لاحقًا ما لبثت يد الكتم والاعتقال أن طالتهم جميعًا، بعد صدور 9 أعداد فقط من الكرّاس، وتعرّض رياض للسجن والمزيد من التعذيب بغية التأكد من صممه وتعثُّر نطقه، الأمر الذي كان كافيًا ليحدد موقفه السياسي حتى لحظة موته.
وجدَ الشعر طريقه نحو رياض كما لو أنه كان ضالًّا دونه، فنشرَ أولى قصائده بشكل جدّي عام 1976 في مجلة “جيل الثورة”، تلتها أخرى عام 1977 هي “الرجل السيّئ”، حتى أصدر عام 1979 أول مجموعة شعرية له عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي في دمشق، لم تتضمن سوى قصائد نثرية بعنوان “خراب الدورة الدموية”.
تلت مجموعته مجموعة ثانية بعد عام فقط، 1980، بعنوان “أساطير يومية” أيضًا عن دار الثقافة، وقبل وفاته بـ 5 أشهر فقط نُشرت آخر مجموعة له وهو حيّ تحت اسم “بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس”، عن دار الجرمق الفلسطينية، ليكون بهذا قد حجزَ لنفسه مكانًا أبديًّا في تاريخ الشعراء السوريين على الأقل.
ولعل أدقّ توصيف يمكن أن يقال عن شعر رياض هو أنه يدعنا نقرأه هو شخصيًّا من خلال قصائده، يدعونا لنتعرّف إليه وإلى أفكاره، فيكتب انطلاقًا من نفسه وتنتهي القصيدة كسيرةٍ شخصية.
يرتكز رياض في انتقالاته بين البيت والآخر على معانٍ تمسّ كل قارئ: الموت والحياة والفقر والثراء والثورة والخنوع وأيضًا الحب. ولا يكتفي بالشرح البسيط للمعنى، بل يوغل بمضاعفة الكلمة ودلالاتها حتى تكاد القصيدة تُختزل في سطر واحد. يتماهى مع كل شيء حوله، وله القدرة على أن يضع نفسه في كل شيء تقريبًا، ثم يكتب نفسه من داخلها. ويحسب عمره بها.
أنا الرجل السيء
كان عليّ أن أموت صغيرًا
قبل أن تفترسني الوردة
و ينحت الفنان النظيف من عظامي القلائد
و الأقراط
والجمادات في عالمه ليست جامدة، بل كائنات حيّة تتكلم بصوته هو. يبثّ فيها خياله ويشبّهها بأخرى، ويكسبها حياةً وتجارب وأفكار تحملها، ترفضها أو تتقبّلها.
“الجمادات ليست الأشياء، بل هي الأغنياء والسلطويّون والقادة الذين هم جزءًا جامدًا من أشيائهم الحيّة: بعد قليل ستتقدّم البذلة الأنيقة/ التي تحتوي رجلًا لامعًا؛ لوحات تشكيليّة فاشلة/ ربطة عنق ناجحة.
أمّا البسطاء فلا معنى للأشياء في حياتهم، الأشياء متماهيةٌ معهم كما تماهت مع شاعرهم، أو خرجت من دنياهم لتبقى الأجساد فقط بكلّ رهافتها وهشاشتها:
أحبّ صبيّةً بعيون وأضراس وأنف وقدمين/ صغيرتين مُقشَّرتين بمساحيق غسل الثّياب/ وفي إحدى زوايا غرفتي قميصٌ وبنطالٌ/ وحذاءٌ للرقص زائد عن الحاجة”.
سيرة ناقصة
” لم يمت الطفل وإن مات، ولم يعش الطفل وإن عاش ثانيةً”
هكذا وصفَ رياض موته وحياته في قصيدة “الدرّاجة”، كمن يؤكّد غيابه ووجوده في آن واحد.
ورغم أن كثيرين ممّن عرفوه عن قرب وقضوا معه أيامه وساعاته الأخيرة، وممّن كان يحسبهم من الأصدقاء، وقال فيهم: “أصدقائي كثيرون والذين يحبونني لا يتركون لي فرصةً للموت”، لم يحملوا مسؤولية تعريف السوريين به، وتقديمه للأجيال القادمة بالسعي وراء جمع قصائده في كتاب ونشرها، أو بمحاولة إدخال نتاجه ضمن المنهاج التعليمي.
بل حتى لم يكتبوا عنه أو يذكروا به وبنثره في المحافل الثقافية السورية والعربية، أو حتى عن اعتقاله وتعذيبه، الحدث الذي كان السبب في حسم رياض لرأيه تجاه السلطة السياسية الحاكمة، والذي انعكس في شعره وقصائده. لقد خُذل رياض من أقرب الناس إليه، الذين بعد 10 سنوات لم يستطيعوا أن يكونوا أفضل منه لا في الشعر ولا في غيره.
لم تكن لتصلني قصائد رياض، ولم تكن لتصل الكثيرين من جيلي ممن أحبوه ورأوا أنفسهم وواقعهم في نثره، لولا جهود ابن اخته عماد نجار، في جمع قصائده وترتيبها في كتاب واحد، بعد محاولات كثيرة فاشلة في عرضه على العديد من دور النشر.
وحتى صدور الكتاب عن دار المتوسط، وهي النسخة الوحيدة حتى يومنا هذا، لم يُقدِم أحد من أصدقائه على كتابة مقال واحد عنه، أو رواية تفاصيل اعتقاله حتى بعد خروجهم من سوريا واتّخاذهم موقفًا واضحًا من السلطة السياسية الحاكمة.
باختصار، لم يكن طريق رياض في الشعر سهلًا معبّدًا بالورود، لقد كانت كل محاولاته ومغامراته المرتبِكة في الشعر بين قصيدة التفعيلة والنثر واضحةً جدًّا، ولهذا كان يستحقّ منا أن نهتم أكثر ونبحث أكثر في شعره، وفي تغيُّرات شخصيته، وفي العديد من مراحل حياته التي ما زالت تفاصيلها مجهولة حتى اليوم.
ساعة الذهاب
في عصر يوم الجمعة الموافق لـ 19 من نوفمبر/ تشرين الثاني 1982، وجد الشاعران مهدي محمد علي وهاشم شفيق، رياض في غرفته الصغيرة على إحدى الأبنية القديمة، حيث كان يسكن في فقر مدقع، متكوّرًا على نفسه وعلى شفير الموت، يرتجف، ويهلوس، ويطلب الماء، وقاما بنقله في حالة إسعافية إلى مشفى المواساة في دمشق، والتي كانت محطته الأخيرة.
في مساء يوم السبت 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 1982، الساعة الرابعة بتوقيت دمشق، أعطى الموت أوامره ورحل رياض عن عالمنا وهو ممدَّد على سرير المشفى وحيدًا دون أيّ من أصدقائه، وبعيدًا عن عائلته.. مات ولم يتجاوز عمره الـ 28 عامًا، ونُقل جثمانه إلى بلدته مارع، شمال مدينة حلب حيث دُفن، بينما كان ينتظر الثورة.
اعددت لكِ فنجان القهوة
فنجان قهوة ساخنة
القهوة بردت
و ما جئتِ
..
وضعت وردة في كأس ماء
وردة حمراء حمراء
الوردة ذبلت
و ما أتيتِ
..
كل يوم أفتح النافذة
فأرى الأوراق تتساقط
و المطر ينهمر
و الطيور تئن
و لا أراك
..
لقد اعتدتُ
أن أعدّ القهوة كل صباح لإثنين
أن أضع وردة حمراء في كأس ماء
أن أفتح النوافذ للريح و المطر و الشمس
لقد اعتدت
أن أنتظرك أيتها الثورة