ماذا لو طلب منك دفع رسوم نظير ركن سيارتك أمام منزلك؟ سؤال قد يبدو ساخرًا في ظاهره، فليس من المعقول أن يدفع المواطن رسومًا على أرض هي في الأساس ملكًا له، باعتبار أن كل عقار يُترك أمامه بضعة أمتار من ملكيته الخاصة لمثل تلك الأغراض التي تدخل في إطار ما يسمى “الخدمات”.
رغم ابتعاد التساؤل عن المنطق نسبيًا، بات أمرًا واقعًا في مصر، فقد أصدرت الحكومة قانونًا رسميًا بهذا الأمر، تحت مسمى “قانون السايس” رقم 150 لسنة 2020 (السايس هو الشخص المخول له ركن السيارات في الشوارع والمناطق العامة نظير رسوم)، وبالفعل دخل حيز التنفيذ في بعض المحافظات، أبرزها محافظة الجيزة ذات الكثافة السكانية العالية.
القانون قوبل بداية الأمر بموجة من السخرية، إذ شكك البعض في صحته من الأساس، مستبعدًا أن تصل الدولة المصرية إلى هذا الحد من التفنن في “حلب المواطنين” حتى إن كان عبر طرق وأدوات تناقض العقل والمنطق والمقبول، فضلًا عن القانون والدستور وأبجديات حقوق الإنسان.
لكن سرعان ما انكسرت موجة السخرية، مع تأكيد ما تم تداوله، لتحل مكانها موجة جديدة صادمة من هول تلك الممارسات التي تستنزف جيوب الشعب المصري، وتسعى لتفريغها تمامًا لأجل تسديد فاتورة الاقتراض التي تبنتها الدولة خلال السنوات الأخيرة التي قفزت بحجم الديون إلى أرقام خيالية.
حاجه مستفزة اوى
تعرف على أسعار الركنات الجديدة في #مصر بعد موافقة مجلس النواب على قانون تنظيم عمل السايس pic.twitter.com/QkILrqxQb6— مظلوم (@elmazloooom) August 24, 2021
قانون مثير للجدل
ينظم القانون الجديد انتظار السيارات في الشوارع الرئيسية والجانبية وأسفل العقارات وفى ساحات الانتظار في مصر، بحسب ما كشفه مساعد وزير التنمية المحلية، خالد القاسم، الذي أضاف أنه “سيجري تحديد مساحة كل ساحة وعدد السيارات المسموح لها بالانتظار وعدد الأفراد الواجب وجودهم لإدارة هذه الساحات، وسيكون لكل فرد منهم كارنيه خاص به” .
ووضع القانون عددًا من الاشتراط الواجب توافرها في الشخص المزاول لمهنة تنظيم المركبات “السايس” أبرزها ألا يقل عمره عن 21 عامًا، وأن يجيد القراءة والكتابة، بجانب أدائه للخدمة العسكرية أو تم إعفاؤه منها، وأن يكون حاصلًا على رخصة قيادة سارية، وأخيرًا ألا يكون قد حكم عليه بعقوبة جناية أو في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة.
محافظة الجيزة، وهي الأولى التي بدأت في تطبيق القانون، وضعت لائحة أولية لرسوم الانتظار في منطقة “الدقي”، جاءت كالتالي: 10 جنيهات للانتظار المؤقت للسيارة الملاكي، 20 جنيهًا للانتظار المؤقت للسيارة نص النقل، 30 جنيهًا للانتظار المؤقت للحافلات الكبيرة، أما من يريد ركن سيارته أسفل العقار الذي يسكن فيه، فقد حددت المحافظة رسومًا قدرها 300 جنيه شهريًا على السيارة الواحدة.
أوضح مساعد وزير التنمية المحلية أن الهدف من هذا القانون “إعادة الوجه الحضاري للشوارع المصرية ومنع تكدس السيارات ومواجهة بلطجة “سائسي” السيارات غير المرخصين، إذ يقوم السايس بأخذ أموال لا يستحقها ودون حد معين”.
وكانت الحكومة المصرية قد أقرت هذا القانون العام الماضي، دون مشاورات مجتمعية، ليفاجأ المصريون خلال الساعات الماضية بدخوله حيز التنفيذ عمليًا بعد تصديق الرئيس عبد الفتاح السيسي عليه في يوليو/تموز الماضي، الأمر الذي أثار حالة من الغضب لدى الشارع المصري.
لم يكن قانون السياس هو الوحيد الذي يلجأ إليه النظام لحلب المواطن، فخلال السنوات السبعة الأخيرة شهدت الدولة المصرية عشرات القوانين والرسوم التي أفرغت جيوب الشعب مما تبقى فيها
غضب شعبي وسجال إعلامي
مع بداية تطبيق القانون رسميًا عبر رواد مواقع التواصل الاجتماعي عن استنكارهم لتلك الممارسات التي وصفوها بأنها “إتاوات” تفرضها الحكومة على الشعب الذي يعاني معظمه من واقع معيشي متدنٍ في ظل تلك الظروف الاقتصادية الصعبة التي عززتها جائحة كورونا خلال العامين الماضيين.
الأكاديمي المصري خالد صالح، في منشور له على صفحته الشخصية على فيسبوك، علق على القانون قائلًا “بكل صراحة الناس تعبانة جدًا.. الناس معدتش قادرة بجد على المبالغة في الرسوم والضرائب ورفع أسعار الخدمات والمرافق.. من أجل سد عجز الموازنة وسداد فوائد الديون المتصاعدة”.
وأضاف “كل يوم قانون جديد من أجل لم البقية الباقية من فلوس الناس.. في وقت الكورونا اللي العالم كله بيسهل على الناس مراعاة لوقف الحال.. خطورة سياسة الجباية الحالية المستعرة مش بس قتل الاقتصاد (لعدم وجود أموال عند الناس للشراء) بل قتل روح الانتماء للوطن.. عندما تستحيل الحياة في الوطن.. يصبح الخطر داهمًا”، مختتمًا بـ”يا حكومة.. أفيقي قبل فوات الأوان.. اللهم احم مصر وشعبها”.
أما الكاتب مدحت البسيوني، فأشار إلى أن المادة التي تضمنها القانون الخاصة بسداد 300 جنيه نظير ركن السيارة أمام العقار “لا يمكن وصفها بالمستفزة فقط، بل إنها قنبلة معدة لانفجار المواطنين ضد الحكومة وأن من وضعها واحد من اثنين غبي من مجموعة الدببة (الدبة التي قتلت صاحبها) المشرعين أو كاره من محترفي وضع الألغام والأفخاخ لإشعال الغضب والاحتجاج وإن كنت أرجح الأول ولا تسأل عن الذين أقروه هؤلاء يحبون الحكومة ولا يستطيعون إنكار جميلها في الجلوس على مقاعدهم”.
وأوضح الصحفي المصري أن الهدف من هذا القانون زيادة موارد الدولة، لكنه في الوقت ذاته ألمح إلى أن هناك طرقًا عدةً وضعتها الحكومة لتحقيق هذا الهدف منها “زيادة رسوم تسجيل السيارات والشهر العقاري وكل المستخرجات الحكومية”، وتابع “ابحثوا عن مصادر أخرى لزيادة الموارد بعيدًا عن جيوب الموظفين، طبقوا قانون الضرائب المتصاعدة على الأثرياء”.
الرأي ذاته ذهب إليه الصحفي أحمد إبراهيم، الذي وصف هذا القانون وغيره من القوانين المشابهة بأنها “قوانين جباية، بعدما أفلس التاجر، واقترض من الغرب والشرق، فلم يجد سوى مص قوت المصريين، وتفليس جيوبهم، بقوانين يتم تمريرها ليلًا من برلمان تحت الخدمة، الشعب “الذي لم يجد من يحنو عليه” بات ينفق على الحكومة، ويتكفل بمرتباتها وقصورها”.
السجال بشأن قانون السايس انتقل إلى المنصات الإعلامية، فبينما أشاد بعض الإعلاميين الداعمين لنظام السيسي بهذا القانون وتأثيره في إنعاش خزانة الدولة والقضاء على فوضى الجراحات العشوائية، اعترض آخرون عليه من بينهم المذيع المقرب من الأجهزة الأمنية أحمد موسى.
موسى في برنامجه “على مسؤوليتي” على فضائية “صدى البلد” المملوكة لرجل الأعمال وعضو مجلس النواب المقرب من السيسي محمد أبو العنين، قال: “المشكلة مش في القانون، لكن في الجهات التنفيذية، يعني إيه الواحد يدفع 300 جنيه علشان يركن عربيته قدام بيته، يعني يبيع العربية؟ وإيه ذنبه إن صاحب البيت حول الكراج لمحلات”، وتساءل موسى: “اللي بيعمل القانون المفروض بيعمله لمصر كلها مش القاهرة والإسكندرية، طب في باقي المحافظات والقرى هتعمل إيه؟ هتاخد من القرى فلوس للي يركن عربيته قدام بيته”.
أتعجب من”قانون السايس”الذي يمقتضاه يدفع كل صاحب سيارة 300 جنيه نظير مكان لها أمام بيته
هناك دفع في بلاد أخرى لكن توجد شوارع موسعة، وأماكن انتظار مجهزة، وتستني من الدفع المنطقة السكنية لكل مواطن، فهي مجانا طوال اليوم
اعتبروا الشوارع مقابل الضرائب التي تشكل أكثر من 70% من الميزانية— عمار علي حسن Ammar Ali Hassan (@ammaralihassan) August 23, 2021
دولة الجباية
في مقدمته الشهيرة التي ألفها عام 1377 وأسماها باسمه “مقدمة ابن خلدون” حذر رائد علم الاجتماع الشهير من مغبة الإفراط في فرض الضرائب على الشعب، قائلًا “بزيادتها، أي الضرائب، تضعف عزائم الناس عن العمل، لأن ناتج عملهم تأخذه الدولة، وحينئذ تنقص الضرائب بقلة الإنتاج وتدهوره، ويزداد الأمر سوءًا بتدهور الإنتاج باستمرار تناقصه مع زيادة الضرائب، فينتج عن ذلك خراب العمران”.
يبدو أن تحذير ابن خلدون لم يحرك ساكنًا لدى القائمين على أمور الدولة المصرية، أو من باب حسن الظن بهم فربما لم يقرأوا مقدمته في الأساس، كما لم يقرأوا غيرها من المؤلفات والدراسات التي تحذر من سياسة تكبيل المواطنين بسلاسل الضرائب والرسوم التي قد تتحول مع مرور الوقت إلى قنبلة موقوتة، إن انفجرت فستكون الآثار كارثية على الجميع.
لم يكن قانون السياس هو الوحيد الذي يلجأ إليه النظام لحلب المواطن، فخلال السنوات السبعة الأخيرة شهدت الدولة المصرية عشرات القوانين والرسوم التي أفرغت جيوب الشعب مما تبقى فيها في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعاني منها السواد الأعظم من الشعب.
تستهدف وزارة المالية زيادة الإيرادات الضريبية بنحو 12.6% لتصل إلى 964.777 مليار جنيه (61.45 مليار دولار) مقابل 856.616 مليار جنيه بحسب البيان التحليلي لمشروع موازنة السنة المالية 2020-2021
ومن أبرز القوانين التي فُرضت مؤخرًا وأثارت جدلًا واسعًا لدى الشارع المصري، قانون تراخيص المحال التجارية وقانون تراخيص ماكينات الري ومشروع قانون الضريبة العقارية والتصالح في مخالفات البناء وقانون ضريبة القيمة المضافة.
وفي مايو/آيار الماضي أقر مجلس النواب المصري (البرلمان) رسومًا جديدة على استهلاك الوقود بواقع 30 قرشًا على كل لتر بنزين و25 قرشًا على استهلاك كل لتر سولار، وأخرى على فواتير الإنترنت للشركات والمنشآت التجارية بنسبة 2.5%، وثالثة على أجهزة التليفون المحمول وأجزائه وجميع الإكسسوارات الخاصة به بواقع 5% من قيمتها مُضافًا إليها الضريبة على القيمة المضافة.
الأمر لم يقتصر على ذلك، إذ أعدت الحكومة مشروع قانون يتم بموجبه اقتطاع 1% من رواتب العاملين بالدولة للمساعدة في مواجهة وباء كورونا، بما يعادل نحو 3.35 مليار جنيه سنويًا من إجمالي رواتب موظفي الجهاز الإداري البالغ قيمتها 335 مليار جنيه.
أستاذ التمويل والاقتصاد بجامعة إسطنبول صباح الدين زعيم، وصف السياسة التي يتبعها النظام المصري مع المواطنين فيما يتعلق بالتفنن في فرض الرسوم والضرائب، بأنه ينتهج “سياسة اقتصاد الصدمة، وبعد أن تحمل الشعب الصدمات صار يزيد منها”، متسائلًا: “ماذا نفعل حيال ذلك الوضع؟ وحيال الديون التي لها تأثير قاتل على الاقتصاد والشعب حاليًّا وآجلًا وعلى موارد الدولة والثروات”.
أفرزت تلك السياسات قفزة هائلة في أعداد الفقراء في مصر، الذي بلغ عددهم أكثر من 30 مليون مواطن، بنسبة 30% من إجمالي عدد السكان، هذا في الوقت الذي توقعت فيه دراسة لوزارة التخطيط المصرية ارتفاع هذا المعدل لما بين 5.6 و12.5مليون فرد بنحو (38- 40.2 بالمائة) من السكان بسبب جائحة كورونا.
سداد فاتورة الاقتراض
المأزق الاقتصادي الذي تعاني منه مصر دفعها لجيب المواطن لتعويض العجز المتفاقم عامًا تلو الآخر، حتى باتت الضرائب المُحصلة من عامة الشعب هي المورد الأكبر في خريطة موارد الدولة، لا سيما بعد تفاقم الديون الخارجية جراء سياسة الاستدانة المتبعة خلال السنوات الأخيرة تحديدًا.
وتستهدف وزارة المالية زيادة الإيرادات الضريبية بنحو 12.6% لتصل إلى 964.777 مليار جنيه (61.45 مليار دولار) مقابل 856.616 مليار جنيه بحسب البيان التحليلي لمشروع موازنة السنة المالية 2020-2021، ما يعني أن هناك مخططًا لزيادة إيرادات الضرائب بنحو 108 مليارات جنيه، سيتم جمعها من جيب المواطن والموظف.
وكانت الديون الخارجية المصرية قد ارتفعت إلى 134.8 مليار دولار بنهاية مارس/آذار الماضي مقارنة بـ46 مليار دولار حين تولى السيسي الحكم في 2014، أي بزيادة قدرها 193%، الأمر المرجح أن يتحمله المواطن العادي في صورة رسوم وضرائب وتجفيف منابع الدعم الذي كان يحتل الجزء الأكبر من الموازنة.
ومن المقرر أن تسدد الحكومة المصرية هذا العام نحو 12.062 مليار دولار في 2021، تمثل ديونًا خارجية قصيرة الأجل، منها نحو 11.958 مليار دولار أصل الدين، بالإضافة إلى فوائد بنحو 103.76 مليون دولار، وفق تقرير صادر عن البنك المركزي المصري.
ومع كل ضغط على الدولة في التزاماتها المادية نتيجة سياسة الاقتراض الفوضوية التي تورطت فيها لكسب شرعيتها الداخلية، تمارس الحكومة ضغطًا موازيًا على المواطنين بهدف جمع ما يمكن جمعه من ميزانيات تسهم في سداد أقساط القروض والديون وفوائدها.. لكن يبقى السؤال: إلى متى يتحمل البسطاء كل تلك الضغوط؟