بعد أن بسطت طالبان سيطرتها الكاملة على كابل، لا بد أن الجماعات المسلحة في الساحل والصحراء تستشعرُ الآن نمو ريش أجنحتها، ما يطرح سيناريو تكثيف الهجمات الإرهابية ضد الجيوش المحلية والقوات الأجنبية المتدخِّلة في هذه المنطقة الإفريقية منذ سنوات، ولم تتمكّن إلى حد الآن من كسر شوكة الغول الإرهابي.
تعاني المنطقة من أعمال إرهابية يرتكبها فرع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وجماعات متأثِّرة بأيديولوجية طالبان وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، الذين يتابعون عن كثب كيف تحولت أفغانستان بسرعة إلى حظيرة طالبان.
انسحاب الجيوش الأجنبية
يرى مراقبون أن ما حدث في أفغانستان سيزيد من خطر الجماعات المتطرفة في منطقة الساحل والصحراء، ما يعني أن الحرب ضدهم سوف تطول، وترتفع الخسائر في صفوف المدنيين والعسكريين.
ورغم أن القوات الأجنبية المتدخلة في هذه المنطقة المضطربة من إفريقيا تمتلك أحدث العتاد الحربي، إلا أن التنظيمات الإرهابية واجهتها بصمود طويل، ما سيدفع بالجيوش الأجنبية عاجلًا أو آجلًا إلى الانسحاب على غرار ما حدث في أفغانستان.
تصاعدت مؤخّرًا وتيرة الهجمات الإرهابية في عدد من دول الساحل والصحراء، استهدفت السكّان المدنيين في بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ويشكّل هذا مصدرَ قلق بالغ لدول المنطقة، وتهديدًا للأمن الجماعي للقارة السمراء.
ستحوّل باريس وجودها العسكري إلى قوات إقليمية متخصِّصة، وستعتمد بشكل أكبر على الشركاء المحليين.
لقد طال أمد الحرب واتخذت فرنسا قرارًا بالانسحاب من مالي وتشاد، وواشنطن أيضًا في النيجر سارت على المنوال نفسه؛ ففي يوليو/ تموز الماضي، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن قوات بلاده تعمل على الانسحاب تدريجيًّا من منطقة الساحل، وحتى نهاية العام الجاري سيظل في المنطقة حوالي 2500 إلى 3000 جندي في الميدان، كجزء من الحرب الدولية ضد الإرهاب.
كانت حجّة ماكرون هي خفض التواجد العسكري، حيث لا حاجة بعد الآن إلى تلك القوات، ما استدعى، بحسبه، تفكيك عملية “برخان” وإعادة تنظيم عناصرها في المنطقة، أي أن باريس ستحوِّل وجودها العسكري إلى قوات إقليمية متخصِّصة، وستعتمد بشكل أكبر على الشركاء المحليين، وتواصل التركيز على محاربة المتطرِّفين.
جيوش ينخرها الفساد
وفقًا لهذه الخطة تكون فرنسا قد أجبرَت دول المنطقة على تحمُّل مزيد من المسؤولية عن أمنها، ما يقلِّل الخطر عن القوات الأجنبية بعد انتقالها من مكافحة الإرهابيين في الخطوط الأمامية، إلى تقديم الدعم الاستخباراتي وتسيير طائرات من دون طيار والمرافقة بطائرات مقاتلة.
وقد أطلقت فرنسا منذ عام 2014 عملية “برخان” في مالي من أجل استئصال شَأفَة الجماعات الإرهابية في الساحل الإفريقي واستتباب الأمن هناك، ورغم دعم الأمم المتحدة ببعثة قوامها 15 ألف جندي لاستعادة الاستقرار في مالي، إلا أن الهدف المتوخّى لم يتحقَّقْ وظلَّ التهديد الأمني قائمًا.
بل تصاعد القلق من الهجمات الإرهابية المتكرِّرة، وأصبح الخوف يتسيّد شعور الأبرياء من توسُّع رقعة نفوذ الجماعات المسلحة جرّاء الاندحار التدريجي للقوات الأجنبية، ما يجعل الجيوش المحلية ضعيفة في مواجهة المسلحين المتشددين.
ينخر الفساد قدرة جيوش المنطقة على مواجهة انعدام الأمن والإرهاب، كما تشكو معظم القوات من أن الحياة في الثكنات صعبة وأن الرواتب ضئيلة ولا فرصة للتقدُّم أو الترقية، رغم أن ميزانية الجيش أكبر من معظم الخدمات العامة الأخرى.
في نيجيريا مثلًا، أنفق الجيش حوالي 76 مليون دولار على بناء ثكنات وإصلاح أخرى كانت في وضع سيّئ، وطالَ ذلك اتهامات بالفساد في شراء معدات أقل وتحويل الإمدادات إلى جماعة بوكو حرام، ما أدى إلى تراجُع الثقة في الجيش النيجيري وتهديد فاعليته على نحو متزايد.
انقلابات عسكرية متوالية
تعيش دول الساحل والصحراء ظروفًا صعبة في ظل تحولات سياسية، خاصة دولة مالي حيث استولى الجيش فيها على السلطة، بينما احتدّت المعارك ضد المتطرفين في شمال ووسط البلاد.
وفي النيجر، أكبر دولة إسلامية غرب أفريقيا، وأكثرها تعرُّضًا للهجمات الإرهابية، لم تسلَمْ هي الأخرى من محاولة انقلابية قبيل انتقال السلطة إلى الرئيس المنتخَب محمد بوزوم، في مارس/ آذار الماضي، إلا أن محاولة الجيش بالاستيلاء على السلطة أحبطت.
تعدّ عملية حراسة الحدود في منطقة الساحل والصحراء ضعيفة للغاية وسهلة الاختراق من قبل تجّار البشر ومهرِّبي المخدرات والجماعات الإرهابية.
وأصاب المتمردون في تشاد الرئيس إدريس ديبي بجراح أدّت إلى مقتله في أبريل/ نيسان الماضي، وهو الحدث الذي زلزلَ الوضع السياسي في هذا البلد الإفريقي الفقير، الذي يعدّه الغرب طرفًا محوريًّا في حربه ضد الجماعات الإرهابية.
وشهدت بوركينا فاسو أكبر عدد من الانقلابات العسكرية، منذ انعتاقها من الاستعمار الفرنسي عام 1960، فمن أصل 7 محاولات انقلابية فشلَ الجيش مرة واحدة فقط في الاستيلاء على السلطة.
وتعدّ عملية حراسة الحدود في منطقة الساحل والصحراء ضعيفة للغاية، وسهلة الاختراق من قبل تجّار البشر ومهرِّبي المخدرات والجماعات الإرهابية العابرة للحدود.
الهاربون من النار
مشهد حشدٍ من مواطنين أفغان وهم يتشبّثون بطائرة أميركية بصدد أن تقلع، أو أولئك الذين ينتظرون في طابور مكتظّ بالمطار فرصتَهم للطيران بعيدًا عن كابل، لا يختلف كثيرًا عن أولئك الذين ذهبوا أخطر من ذلك، عندما قرروا عبور الصحراء الكبرى كي يصلوا إلى شمال إفريقيا، بوابة عبورهم نحو أوروبا، حيث يتحول البحر الأبيض المتوسط إلى مقبرة لأحلامهم ولا ينجو منهم إلا القليل.
عبور الصحراء الكبرى ليس أهون من البحر، فالكثيرون لقوا حتفهم هناك، ونساء اغتصبهن تجّار البشر تباعًا، ليصلن إلى دول العبور بأطفال لن يعرفوا آباءهم.
وتعتبَر المغرب المنطقة الأكثر أمانًا للعبور نحو أوروبا، لأن البحر يفصل القارتَين 15 كيلومترًا كأدنى مسافة، كما يختار آخرون اجتياز السياج الحدودي للمستعمرتَين الإسبانيتَين سبتة ومليلية اللتين تعلوهما أسلاك لولبية شائكة، وضعت قصدًا للحيلولة دون وصول المهاجرين إلى آخر أرض أوروبية في إفريقيا.
غالبية هؤلاء المهاجرين قادمون من إفريقيا جنوب الصحراء، ليس بحثًا عن جنة بل رغبة في حياة آمنة، تخلو من الفقر والجوع والاقتتال وأصوات الرشاشات، التي تحوّل حياتهم إلى قطعة من جحيم على أرض تزخر بكنوز، يهرول نحوها الطامعون من “بلدان الفردوس”، كما يراها الأفارقة النازحون هربًا من الأزمات في أوطانهم.