لم يكن الموقع الجيوسياسي الإستراتيجي لأفغانستان التي تقع على مفترق طرق بين وسط وجنوب آسيا، السبب الوحيد وراء إسالة لعاب القوى الدولية لإيجاد موضع قدم لها هناك، ورغم الخسائر الفادحة التي تكبدها الغزاة قديمًا، فإن ذلك لم يثن القوى الحديثة من المحاولة وإن غاصت في الوحل الأفغاني.
فالدولة التي تعد واحدةً من أقل دول العالم دخلًا، وفق الإحصاءات الرسمية المعلنة، إذ يعيش قرابة 90% من سكانها على أقل من دولارين يوميًا، وتعتمد بشكل أساسي على المساعدات الخارجية، تحتضن بداخلها ثروات طبيعية ومعدنية ربما تضعها في مصاف الدول المتقدمة اقتصاديًا.
وإن كانت تلك الثروات المهملة قديمًا غير مدرجة على قائمة أولويات المستعمر، إلا أنها اليوم وفي ظل التطورات التكنولوجية وإعادة هيكلة خريطة الموارد الاقتصادية وفق المعايير البيئية والاستثمارية، أصبحت في مقدمة التصنيفات التي يتكالب عليها المستثمرون لما تتضمنه من إمكانات وقدرات هائلة، يمكن أن تدر مئات المليارات على الدولة التي يقبع جل مواطنيها تحت خط الفقر.
كانت الحروب التي أنهكت البلاد لعقود طويلة وحالة الفوضى الناجمة عن تلك الضبابية، السبب الأبرز وراء عدم الاستفادة بتلك الإمكانات والثروات، غير أن الوضع تغير مؤخرًا بعد انسحاب القوات الأجنبية وسيطرة حركة طالبان على المشهد برمته، لتقدم أفغانستان نفسها في ثوب جديد.. قبلة للاستثمار العالمي وساحة تنافسية للقوى الدولية.
ليست دولةً فقيرةً
بداية لا بد من الإشارة إلى أن أفغانستان ليست دولةً فقيرةً جيولوجيًا، فأسفل تلك الجبال الشاهقة والرمال الممتدة توجد ثروات قلما توجد في دولة أخرى، ثروات يمكن أن تنقل الدولة التي يعاني أهلها من فقر مدقع إلى آفاق رحبة من النمو والرخاء والازدهار.
تشير التقديرات الخاصة بوزارة المناجم الأفغانية إلى أن قيمة الثروة المعدنية في البلاد تقدر بنحو تريليون دولار، هذا في الوقت الذي ذهبت فيه تقديرات أخرى إلى أن القيمة الحقيقية تصل إلى 3 تريليونات دولار، كما أشارت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية.
وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) في مذكرة لها عام 2010 تحت عنوان “أفغانستان المملكة العربية السعودية لليثيوم” ذكرت أن البلاد تحتوي على أكبر احتياطي من هذا المعدن الحيوي في العالم، لافتة إلى أن تلك الثروة قد تقود الاقتصاد الوطني الأفغاني إلى نمو متسارع في ظل توقع ارتفاع الطلب العالمي على الليثيوم 40 ضعفًا فوق مستويات 2020 بحلول عام 2040 وفقًا لوكالة الطاقة الدولية.
العقود التي عاشتها أفغانستان في مستنقع الفوضى، ما بين استعمار أجنبي وفساد أنظمة حكم داخلية والاحتراب الأهلي الذي أجهز على ما تبقى من الدولة، كانت السبب الرئيسي وراء عدم الاستفادة من تلك الثروات المدفونة
تنطلق الأهمية الإستراتيجية والاقتصادية لثروات أفغانستان المعدنية (البوكسيت والنحاس والحديد والليثيوم) من احتمالية أن تكون قبلة العالم خلال المرحلة المقبلة في ظل التوجه العام نحو الاستغناء عن الوقود الأحفوري مثل النفط والغاز، إذ يزداد الطلب على تلك المعادن الحيوية.
وفي السياق ذاته تمتلك أفغانستان ثروات من الأتربة النادرة تقدر بنحو 1.4 مليون طن، هذا بجانب امتلاكها 5 مناجم للذهب و400 نوع من الرخام واحتياطيات من البريليوم تقدر بقيمة 88 مليار دولار، فضلًا عن تميزها بالأحجار الكريمة النفيسة مثل اللازورد والزمرد والياقوت والتورمالين.
الحديث عن القدرات الاقتصادية الهائلة لأفغانستان ليس وليد اليوم، إذ تشير بعض المصادر الإعلامية إلى أن بدايات عملية التنقيب والاستكشاف عن تلك الثروات كانت في القرن التاسع عشر، وأنه بحلول عام 1930 تم تسجيل قرابة 571 موقعًا للتنقيب، فيما شاركت القوات السوفيتية في تلك العمليات حينها.
طالبان في مأزق
العقود التي عاشتها أفغانستان في مستنقع الفوضى، ما بين استعمار أجنبي وفساد أنظمة حكم داخلية والاحتراب الأهلي الذي أجهز على ما تبقى من الدولة، كانت السبب الرئيسي وراء عدم الاستفادة من تلك الثروات المدفونة، التي ظلت أسيرة التخلف وغياب المشروع القومي الوطني.
علاوة على ذلك كان الافتقار للبنية التحتية وعدم توافر الإمكانات البنيوية المؤهلة لاستخراج تلك الثروات، أحد الأسباب المحورية، لتفاقم الوضع مع التحديات الأمنية التي فرضت نفسها، ومن ثم كانت المعارك العسكرية ومواجهات الفر والكر هي المسيطرة على عقلية الحكام والمعارضين في آن واحد.
تلك الوضعية جعلت هذه الدولة الثرية معدنيًا، التي ربما تكون الأولى عالميًا، تحيا على المساعدات الأجنبية التي باتت مقومها الأول في بقاء شعبها على قيد الحياة، وكان المانحون الدوليون قد تعهدوا قبل أشهر قليلة بتقديم 12 مليار دولار لدعم أفغانستان خلال الفترة من 2021/2024 وذلك لدعم الاقتصاد في مواجهة تداعيات جائحة كورونا.
لكن بعد سيطرة طالبان، الوضع ربما يتغير، كنوع من الضغوط الدولية الممارسة على الحركة، وهو ما كشفه وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، حين قال صراحة: “لن نعطي سنتًا أكثر إذا استولت طالبان على السلطة وفرضت الشريعة”، علمًا بأن ألمانيا كانت تخصص سنويًا لأفغانستان تحت قبضة الأمريكان 430 مليون يورو.
وهنا تجد طالبان نفسها في مأزق حقيقي في إدارة المشهد الحاليّ، وسط ضغوط تمارس من الداخل والخارج معًا، لإجهاض الانتصار العسكري الذي حققته الحركة الذي كان صادمًا للكثير من القوى الإقليمية، الأمر الذي قد يدفعها للبحث عن كنزها الإستراتيجي المدفون تحت التراب، غير أن غياب الإمكانات سيكون بلا شك عقبة كبيرة أمام تحقيق هذا الهدف، ما قد يرجح احتمالية فتح الباب أمام بعض القوى الأجنبية للمشاركة في استخراج تلك الثروات، وهو ما يمكن أن يحول تلك الدولة إلى ساحة كبيرة للتنافس الدولي.
ساحة للتنافس الاقتصادي
تعلم القوى المجاورة لأفغانستان حجم الثروات التي تمتلكها، وقيمتها الإستراتيجية في هذا التوقيت، ومن ثم ففي أعقاب خروج القوات الأمريكية والأجنبية عمومًا من الأراضي الأفغانية وجدت تلك القوى الفرصة سانحة بقوة لوضع أقدامها ومحاولة توظيف المشهد لصالح أجندات اقتصادية تعتمد وبشكل كبير على المكانة الجيوسياسية والاقتصادية لهذا البلد.
ومن ثم وبينما كان العالم يعزف على وتر إرجاء الاعتراف بطالبان واشتراط ذلك بحزمة من الضوابط والشروط والتحذيرات الصادرة من بعض العواصم الغربية بشأن فتح أي قنوات دبلوماسية مع الحركة، سارعت كل من الصين وروسيا وباكستان لتدشين خط من التواصل والتقارب مع السلطة الجديدة.
ورغم التوترات السياسية التي كانت تخيم على العلاقات بين تلك الدول وطالبان، وصلت إلى وضع الحركة على قوائم الإرهاب والكيانات المحظورة لدى بعض القوى، فإنه وبمبدأ برغماتي بحت تم تنحية تلك الصفحة وبدء مرحلة جديدة من التفاهم والتنسيق، على بعد أمتار قليلة من الاعتراف بالحركة كسلطة جديدة للدولة الأفغانية.
ينطوي الحضور الصيني الباكستاني الروسي أفغانيًا، على ثلاثة أبعاد أساسية، تسعى من خلالها تلك القوى لتحقيق أي منها، ويا حبذا لو كان الثلاثي معًا، الأول: يتعلق بالإسهام في استتباب الوضع الأمني داخل الدولة الأفغانية، وحماية لحدودها من أي اختراقات تهدد استقرارها، هذا بجانب قطع الطريق على أي دعم محتمل من طالبان أفغانستان لنظيرتها في باكستان أو فصائل الإيغور في الصين، كذلك الوضع روسيًا.
تحاول طالبان فرض سردية حكم جديدة تقنع بها الداخل والخارج أنها قادرة على إدارة المشهد وتولي المسؤولية في ظل التشكيك المتعمد بقدراتها
ويأتي في المرتبة الثانية بعد الأمن، البعد الاقتصادي، فالمعادن التي تمتلكها أفغانستان كفيلة أن تنقل اقتصادات تلك الدول إلى آفاق أخرى، في ظل زيادة الطلب العالمي عليها، هذا في الوقت الذي تتناغم فيه تلك الثروات والأجندة الصينية الاقتصادية الرامية إلى إحكام السيطرة على الاقتصاد العالمي.
معلوم أن الصين تصنع ما يقرب من نصف بضائع العالم الصناعية، وتمتلك القدرة على إشعال الطلب العالمي حيال تلك البضائع، وعليه يتوقع أن تكون بكين المستثمر الأجنبي الأكبر والأقوى في أفغانستان، استغلالًا لتلك الثروات المدفونة التي تلبي أحلام الصينيين.
وربما يجتمع الهدفان معًا، الأمن والاقتصاد، كما هو الحال في مبادرة “الحزام والطريق”، فقد تكون شبكة خطوط الأنابيب التي تزود الصين بالنفط والغاز، في دائرة الخطر في حال امتداد أعمال العنف إلى دول آسيا الوسطى الأخرى، وهو ما يهدد المشروع الصيني العملاق “طريق الحرير” الذي تحتاج فيه بكين إلى أفغانستان بصورة كبيرة في ضوء موقعها الجيوسياسي الإستراتيجي للمشروع.
أما البعد الثالث للتنافس على الكعكة الأفغانية، فيتمثل في إذلال الولايات المتحدة وأوروبا على الساحة الدولية على خلفية هروب جنودها أمام طالبان وفشلها في إحكام السيطرة على البلاد رغم 20 عامًا من التدخل ومئات المليارات المنفقة على تقوية الجيش والحكومة الرسمية.
وفي المقابل تحاول طالبان فرض سردية حكم جديدة تقنع بها الداخل والخارج أنها قادرة على إدارة المشهد وتولي المسؤولية في ظل التشكيك المتعمد بقدراتها، الذي في الغالب يستند إلى الإرث القديم للحركة وفشلها في السابق في احتواء الداخل والتعامل مع التحديات.
القراءة الأولية للعقلية الطالبانية في ثوبها الجديد تشير إلى أن الحركة بدأت في تبني المنهج البرغماتي البحت، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال التصريحات الصادرة عن قادتها الجدد، وعليه قد لا تمانع في تحويل البلاد إلى ساحة للتنافس الاقتصادي في محاولة لاستغلال الثروات المهدرة بما قد يساعدها على طمأنة الداخل اقتصاديًا وأمنيًا والهروب من الفخاخ المتوقع أن تواجهها خلال الفترة المقبلة.
ماذا عن الغرب؟
رغم الانسحاب الأمريكي رسيمًا من أفغانستان، يبقى السؤال: هل تخرج الولايات المتحدة بصورة كاملة من المشهد الأفغاني تاركة تلك الثروات الهائلة التي ربما تكون أداةً مؤثرةً لتقوية خصوم الأمريكان اقتصاديًا؟ الإجابة عن هذا السؤال ربما تكون سابقة لأوانها لكن المؤشرات تذهب إلى أنه علميًا من الصعب إنهاء واشنطن وجودها الأفغاني بتلك الصورة.
أمريكا أدخلت إلى العاصمة كابل قرابة 3000 جندي جديد منذ إعلان انسحابها النظري من البلاد، بدعوى توفير الحماية لمغادرة الرعايا، هذا بخلاف وجود بعض القوات التابعة لحلفائها في المنطقة داخل العاصمة، فضلًا عن قوات متمركزة لها في مناطق قريبة من بؤرة الصراع الأفغاني.
هذا بجانب التناغم والتفاهم الواضح بين طالبان وواشنطن، طيلة سنوات ممتدة من المفاوضات المباشرة بين الطرفين، والتنسيق المعروف بينهما لمنح الحركة الشرعية الكاملة لوجودها على رأس السلطة الجديدة بعد سقوط الجيش والحكومة النظاميين وهروب الرئيس أشرف غني للإمارات.
ومن ثم فإن الحديث عن انسحاب أمريكي كامل من الساحة الأفغانية يفتقد للموضوعية الميدانية، ما يعني احتمالية تحول البلاد إلى ساحة حرب اقتصادية للحصول على أكبر قدر من الكعكة المعدنية، بين أمريكا من جانب والصين وروسيا وإيران وباكستان من جانب آخر، وتبقى قدرة حركة طالبان على إحداث التوازن بين المتنافسين وتحقيق أقصى استفادة ممكنة من خلال هذا الوجود لتعزيز اقتصاد بلادها دون الانجرار إلى منزلقات العنف والانقسام هي الفيصل في هذه المعركة.
على أوروبا وأمريكا سرعة اتخاذ قرارات حيال تلك التطورات التي تشهدها كابل، والمفاضلة بين الانخراط في هذا السباق الاقتصادي أو الاكتفاء بمشاهدة القوى المنافسة وهي تقتسم تورتة الثروات الحيوية للدولة التي كانت في قبضة الغرب لعقدين كاملين دون الاستفادة من تلك الثروة.
ومع ذلك يمكن القول إن الغرب بصفة عامة في موقف حرج شعبيًا، فأمام هذا التسابق الدولي للحصول على الفرص الاستثمارية في أفغانستان، قد تواجه أوروبا انتقادات حادة حال إقامة علاقات اقتصادية مع طالبان بسبب التزاماتها الحقوقية التي وضعتها كحجر عثرة أمام فتح قنوات اتصال مع الحركة.
وبعيدًا عن تقييم الموقف الأوروبي حيال الانخراط في سباق التنافس على ثروات أفغانستان، فإن الدولة الفقيرة نظريًا خلال الآونة الأخيرة ستكون بلا شك ساحة كبيرة للقوى العالمية للحصول على أكبر قدر من ثروات البلاد القادرة على ترجيح كفة أي قوة اقتصادية تمتكلها وهو ما يجعل القادم مفتوحًا على الاحتمالات كافة.. فهل تنجح السلطة الجديدة في توظيف هذا التنافس لصالح استمرار حكمها؟