كان فيم فيندرز نتاجًا للجيل الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، حيث وُلد بعد انتهائها بشهور قليلة، وتشكّلت هويته متأثرة بألمانيا ما بعد الحرب المقسِّمة، وقد كان هو ابنًا لألمانيا الغربية، فلذلك كانت أحد العناصر التكوينية في شبابه هو هوسه بثقافة البوب الأميركية، وموسيقى الروك آند رول، لذلك كان معروفًا وسط رفاقه السينمائيين في ألمانيا بأنه الأكثر تأمرُكًا في الحركة الجديدة.
قبل أن يتّجه فيندرز إلى صناعة الأفلام بـ 4 سنوات، كان يدرس في ميونيخ للحصول على رخصة في الطبّ، ولكنه انتقل بعد ذلك لدراسة الفلسفة في فرايبرغ، ثم تركها وعاد إلى دوسلدروف لدراسة علم الاجتماع، كل ذلك في 4 سنوات فقط، حتى استقرَّ على أن يكون مخرجًا عظيمًا في النهاية، إلا أن ذلك التردد والقلق يعبّران عن سمة ستصبح مصاحبة لأبطاله في أفلامه دائمًا، كأبطال مشتَّتين ومترددين بين إقدام وإحجام.
كانت صداقة فيندرز للأديب والشاعر بيتر هاندكه، مؤثِّرة ومثمِرة في حياة الاثنين على حد سواء، وقد تعاونا في بداية حياة فيندرز الإخراجية، حيث أنتجا فيلم فيندرز الأول للتلفزيون الألماني، والمستوحى عن ديوان الشعر الأبرز لبيتر هاندكه.
وتكوّن وعي فيندرز السينمائي أيضًا من خلال سنة الدراسة التي قضاها في باريس، محاولًا الانضمام إلى معهد السينما الشهير آنذاك، ولكن تمّ رفضه ليعمل في مهنة حرّة، ما جعل تلك الفترة من حياته هي الفترة الأكثر عزلة.
ولكن الجمع بين العزلة والشقة الباريسية المتجمِّدة، خلق الظروف المثالية له لدراسة الفيلم بشكل مكثَّف أكثر من أي مكان آخر في العالم، حيث أتاحت له تلك المناسبة مشاهدة أكثر من ألف فيلم.
تأثّر فيندرز أيضًا بموجة الاحتجاج التي عمّت أوروبا كلها عام 1968، حيث انخرط في السياسة آنذاك وألقيَ القبض عليه واتّهامه بمقاومة الاعتقال أثناء التظاهر، وقد كان ناشطًا في الاحتجاج على الحرب في فيتنام، إلا أنه لم يكن قادرًا على زعزعة تناقضه تجاه أميركا، واستمرَّ في حضور عروض الأفلام الأميركية في السينما كل مساء.
لم يتناسب ذلك تمامًا مع البيئة المناهضة للإمبريالية التي نشطَ فيها، لذلك سنجد في أفلام فيندرز تأثُّرًا كبيرًا بالأفلام الأميركية، وحشرًا مستمرًّا لثقافة الروك آند رول الأميركية، وأغاني مغنّيها الأبرز آنذاك هم بوب ديلان ورولينغ ستون، في تناقض صارخ مع هجائه للثقافة الأميركية، بالإضافة إلى تقديم عدة أفلام داخل الولايات المتحدة، كأفلام “الصديق الأميركي”، “هاميت”، “باريس، تكساس” و”حالة الأشياء”.
مُخرج على الطريق
قلّة من المخرجين الذين سافروا على الطريق بين أوروبا وأميركا، بالاهتمام والوعي نفسهما اللذين لدى المخرج الألماني فيم فيندرز، الذي اكتشف هذا الفن على جانبَي المحيط الأطلسي.
كان فيندرز مهتمًّا بالثقافة الأميركية، ويستخدم السيارة لنقد ما يراه نزعة عالمية خطيرة نحو التنقل والسرعة، وتعتبَر أفلام فيندرز تأملات باطنية متأنية وشديدة الدقة.
ففي فيلم “ملوك الطريق”، يلتقي رجلان عندما يحاول أحدهما إغراق نفسه بقيادة سيارته الخنفساء من نوع فولكس فاغن دون تردد باتجاه بحيرة، فينضمّ روبرت الذي كان راغبًا في الانتحار إلى برونو، وهو ميكانيكي متنقّل يُصلح عارضات الأفلام، ومن هنا تبدأ رحلة الاثنَين سويًّة خلال بلدات الحدود في ألمانيا بشقَّيها الشرقي والغربي.
كان فيلم “ملوك الطريق” هو الفيلم الأخير في ثلاثية فيندرز الناطقة بالألمانية عن الطريق، والتي تأتي بالترتيب: “أليس في المدن” (1974)، “خطوة خاطئة” (1975) و”ملوك الطريق” (1976).
ورغم أن الخلفية الاجتماعية لكل منهما تختلف عن الآخر، إلا أنهما يشتركان في حب موسيقى البوب وغير ذلك من الأمور، وكل منهما على حد سواء رحّالة وحيد تمتلئ روحه بالندوب العاطفية، وهما بعيدان عن النساء واستقرار المنزل، كما أنهما يتحدثان بالإيماءات بنحو أكبر من الكلمات، فالسفر والقيام بالأشياء بديلان للمحادثة.
وكان افتقادهما الواضح لاتجاه ومرسى وعدم اليقين بشأن المستقبل، يعبّر عن مشكلة مألوفة للشباب الألماني في حقبة التقسيم تلك، كما أنه يعبّر عن انعكاس من حياة المخرج فيم فيندرز نفسه، حيث كان يدرس الطب ثم تحول للفلسفة قبل أن تصبح مهنة صناعة الأفلام مستقبله في النهاية.
وبينما ينتقل البطلان خلال المشهد الكئيب لأوروبا ما بعد الحرب، يستطيع المُشاهد أن يشعر بالتعب والقلق اللذين انتابا الإنسان الأوروبي آنذاك، وفي دور عرض الأفلام الخربة التي يزورانها، تحّل الأفلام الهوليوودية محل التراث العظيم للسينما الألمانية.
كما أن شظايا الثقافة الأميركية تتناثر في كل مكان، ويعبَّر عن تلك النظرة للغزو الثقافي الأميركي من خلال جملة قالتها إحدى شخصيات الفيلم: “لقد استعمرَّ الأميركيون لا وعينا”.
كان فيلم “ملوك الطريق” هو الفيلم الأخير في ثلاثية فيندرز الناطقة بالألمانية عن الطريق، والتي تأتي بالترتيب: “أليس في المدن” (1974)، “خطوة خاطئة” (1975) و”ملوك الطريق” (1976).
إلا أن حبَّ فيندرز للطريق لم يتوقف عند هذه السلسلة، فقد قدّم أفلامًا على الطريق في أميركا نفسها، كان أبرزها فيلم “باريس، تكساس” عام 1984، وكان الإحساس الشاعري لدى فيندرز بمساعدة الصورة الملهمة لروبي مولر، ساعدًا قويًّا في إطلاق الموجة الألمانية الجديدة التي أعقبت بيان أوبرهاوزن، وتركت علامتها على جيل من المخرجين في أميركا والعالم.
يبدأ الفيلم بلقطة جوية لصحراء تكساس، حيث تستدعي هضابها الملوَّنة في الأذهان أفلام الغرب الأميركي لجون فورد، وبعيدًا في الأسفل هناك رجل يمشي وحيدًا يُدعى ترافيس، ذو لحية كثيفة، يرتدي قبعةً حمراء وربطة عنق صفراء اللون، بينما يسقط منهكًا من السير، ثم يستدعي شقيقه والت من لوس أنجلوس ليصطحبه، وحينها نكتشف أن ترافيس كان مفقودًا منذ 4 سنوات.
وبما أن ترافيس يرفض الطيران معلِّلًا “لا أريد أن أترك الأرض”، يسافر الرجلان بالسيارة، وهي فرصة لتوثيق علاقتهما التي يفسدها صمت ترافيس المتجهّم، ويعدّ الشقيقَين نقيضَين، فواحد ناجح اجتماعي، والآخر منعزل زاهد، ومثل العديد من شركاء الطريق عند فيم فيندرز، فإنهما لا يجيدان التواصل، ويبدو السفر بديلًا للتواصل بينهما.
يبدأ ترافيس في الخروج من قوقعته فقط بعد أن يبدأ والت في عرض بكرة فيلم تجمع ذكريات من حياتهما الماضية، حيث كان هو وزوجته، وأخوه وزوجته، ويُظهِر ذلك الفيديو عطلة العائلة، عائلة متماسكة وسعيدة أثناء الترحال، وتلك الصور البسيطة للفيديوهات المنزلية المشحونة بالحنين المميَّز لحقبة ريغان، وهو توقٌ شديد للمنزل السعيد المثالي قبل تمزُّقه.
يواصل فيلم “باريس، تكساس” في إظهار تركيز فيندرز على الاغتراب العائلي، ولكنه يبدو متفائلًا أكثر من فيلم “ملوك الطريق”، وكذلك يظهر براعة روبي مولر في تصوير الألوان الأساسية الغنية للمناظر الطبيعية، والذي يعمل جنبًا إلى جنب مع موسيقى راي كودر التصويرية المفعَمة بالعاطفة، للتعليق على رحلة ترافيس الطويلة تجاه الخلاص.
يعدّ الفيلم انعكاسًا لرحلة ذاتية باطنية، أكثر ممّا هي رحلة بحث عن مدينة فاضلة، ويضعنا الفيلم دائمًا في حيرة أمام شخصيات محاصَرة في منتصف الطريق بماضيها، وطموحها إلى إعادة تمثيل ماضيها مستقبلًا، ولا تعرفُ أبدًا الطريق الذي يتوجّب عليها سلوكها، بفقدان دائم للإحساس بالغاية والوقت، وفقدان الاتصال بالمحيط والواقع، أو ربما لا تريد الوصول إلى أي مكان.
العودة إلى المكان، برلين
عاش فيندرز في أميركا مدة 8 سنوات من أواخر السبعينيات حتى منتصف الثمانينيات في سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس ونيويورك، وعاد مرةً أخرى للاستقرار في برلين.
حين عاد فيندرز إلى برلين ظلَّ يتجول لأسابيع وشهور محدقًا في المباني والأماكن، ويلتقط الصور، وينصت للغته الأم كما لو أنه يسمعها للمرة الأولى، في تجربة يقول عنها إنها كانت بمنزلة إعادة اكتشاف لبلاده.
أراد فيندرز أن يعرف كل شيء عن سكّان برلين، ماضيهم وأفكارهم، وأراد أن يروي قصة هذه المدينة المنقسِمة بين غرب وشرق، بين شعب يعيش هنا، وشعب يعيش هناك، كان كلاهما يعيشان معًا، يتحدثان اللغة نفسها، ويتشاركان السماء والأرض نفسهما، ولكن لم تكن لديه أي قصة يقصّها، أو شخصيات مرتسمة في ذهنه، كانت مجرد رغبة تداعبه في الحفر عميقًا داخل هذا المكان.
كان فيندرز هو الآخر على وعي كبير بالمدينة وتنوّعها، خصوصًا بعد استقبالها للمهاجرين في أعقاب الحرب من تركيا والعالم العربي وإيطاليا، لذلك نجد تمظهرات داخل شخصياته لتلك الأطياف ولو كانت عابرة.
أثناء تجواله في المدينة، شعر فيندرز أن برلين تريد أن تحكي قصتها، وبسبب صور وتماثيل الملائكة التي رآها تزيّن أكثر البيوت والقبور، كان مندهشًا من تلك الكثرة التي تنتشر فيها تمظهرات الملائكية في المدينة، فقرر أن يروي قصة المدينة من خلال الملائكة في فيلمه الأشهر “أجنحة الرغبة” (1987).
في الواقع، عند بدء تصوير فيلم “أجنحة الرغبة”، لم يكن فيندرز يمتلكُ أي سيناريو للفيلم على الإطلاق، فقط مجموعة من الصور الملصَقة فوق مكتبه للأماكن التي التقطها ومن المفترض أن تظهر في الفيلم، ولمختلف الأشخاص الذين أراد اكتشافهم بواسطة الملائكة، والكثير من الأفكار للمشاهد، وكانت الاحتمالات لا نهائية، فبوسع الملائكة أن يظهروا في أي مكان، ومن خلال إدراكهم الحسي يمكن لأي شيء أن يتكشّف..
وقد كان فيندرز هو الآخر على وعي كبير بالمدينة وتنوُّعها، خصوصًا بعد استقبالها للمهاجرين في أعقاب الحرب من تركيا والعالم العربي وإيطاليا، لذلك نجدُ تمظهرات داخل شخصياته لتلك الأطياف ولو كانت عابرة، كآية قرآنية بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، تأتي من سيارة عابرة لأسرة مسلمة في أحد مشاهد الفيلم.
لقد كان تحقيق فيلم “أجنحة الرغبة” أشبه بكتابة قصيدة شعرية، تعتمدُ على الإلهام والتدفُّق للأفكار التي تأتي الشاعرَ فور أن تشرع يدَيه بالكتابه، هكذا فعلَ فيندرز في تصوير فيلمه هذا، لدرجة أنه لم يكن يعرف ما الذي سيصوّره في اليوم التالي، فكل شيء ممكن مع ملاكَين يستكشفان الشخصيات.
رغم افتقار الفيلم للقصة، إلا أنه احتلَّ مكانه كأحد أهم الأفلام الألمانية، وتعدّى تلك الأهمية الدرامية ليلعب مكانة توثيقية هامّة لمدينة برلين في أواخر الثمانينيات، قبل 4 سنين من هدم الجدار وتشكيل المدينة من جديد.
لقد كان الفيلم هامًّا وملهمًا للعديد من الأفلام التي ستأتي من بعده عن المكان، فقد تحوّر عنه الفيلم الأميركي “مدينة الملائكة”، الذي يصوِّر الحياة في نيويورك.
لقد عاش فيم فيندرز ذروة مجده الإخراجي خلال حقبة السبعينيات والثمانينيات، وقد لوحظ أنه منذ تسعينيات القرن الماضي بدى أن أيام مجده كمخرج قد ولَّت، فبينما كانت أفلامه التي حقّقها تتّسمُ بالرشاقة والبساطة في السابق، أصبحت سمة أفلامه الحديثة رتيبة وبطيئة إلى حدٍّ ما، ويسودها الارتباك.