أعلنت السلطات المصرية بدء تفعيل مقتضيات قانون السايس في محافظة الجيزة، الذي سيؤدّي إلى فرض رسوم باهظة على المواطنين من أجل ركن سياراتهم في الشارع العام، ثم أعلنت محافظة القاهرة، بعدها بساعات قليلة، فرض رسوم باهظة على أيّ حركة تصوير مؤسسية في شوارع المحافظة.
وقد بات سؤال: “الشارع لمين؟” الاستنكاري “تريندًا” على مواقع التواصل الاجتماعي المصرية، الفضاء الوحيد المتبقّي للاحتجاج.. فما القصة؟ وما الأسباب وراء هذه الضرائب الباهظة؟
قانون السايس
غطّت معظم وسائل الإعلام، المرئي والمكتوب والمسموع، بما في ذلك موقع “نون بوست“، في الساعات الأخيرة، الأزمة المجتمعية التي سبّبها تفعيل قانون ما يُعرَف بـ”السايس”، والسايس، في اللهجة المصرية، هو الشخص الذي يتولّى مسؤولية تنظيم ركن السيارات في الشوارع العامة في مصر.
يقول النظام المصري إن هذا الشخص، الذي هو أقرب لـ”المتسوِّل”، أو بلغة أرقى الشخص الخارج عن القانون الخدمي، غير المعروف لا للحكومة أو للمواطنين غالبًا، والذي يتولى مسؤولية تنظيم ركن السيارات في الطرقات العامة، بات عبئًا على نمط المجتمع المحلي في المدينة على مستوى التنظيم.
ونظرًا إلى كونه غالبًا من غير ذوي المؤهّلات التعليمية الأساسية، أو الحدّ الأدنى من التعليم، وعدم خضوعه لأي شكل من أشكال التنظيم والمراقبة الرسمية؛ فإنه كثيرًا ما يسبِّب الفوضى خلال أدائه هذه المهمة، مثل فرض إتاوات غير محدَّدة القيمة على أصحاب السيارات، وفي بعض الحالات التسبُّب في سرقة السيارات بالتنسيق مع العصابات المتخصِّصة في هذا النوع من الجرائم.
لذلك قررت السلطات المصرية، حكومة وبرلمانًا، المضي قدمًا في استحداث قانون عُرف لاحقًا باسم القانون 150 لعام 2020، والذي صدّق عليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في يوليو/ تموز من العام الماضي، لوضع حدٍّ لهذه المشكلة التي تسيء للشارع المصري وتؤرق المواطنين.
ورغم أهمية هذا المسعى، إلا أنه تعرّض إلى هجوم شعبي كبير، وذلك بسبب ما أسماه فريق من المواطنين: “التنظيم المدفوع”، أي أن الحكومة ستختار من يعملون في هذه المهنة وفقًا لشروط جيدة تحدّ من فوضى هذا العمل، ولكنها ستجبي مقابل ذلك أموالًا أكثر بكثير من تلك التي كان يحصل عليها السايس المرفوض شعبيًّا.
المسودة المطروح تطبيقها من القانون، في محافظة الجيزة، والتي تعرّضت لذلك الهجوم، تفرض رسومًا تصل إلى 30 جنيهًا على السيارات الكبرى للحصول على “ركنة” مؤقتة ليوم أو أقل في الشارع، ومتوسّط 300 جنيه شهريًّا (20 دولارًا) لكي تحظى السيارة “الملاكي” العادية بالحق في المبيت أسفل العقار.
رسوم على التصوير
من محافظة الجيزة إلى محافظة القاهرة، ومن الرسوم المفروضة على ركن السيارات “الملاكي” أمام المنازل المملوكة للمواطنين إلى رسوم تصوير أي عمل مؤسسي في الشارع المصري، إعلاميًّا كان أم سينمائيًّا أم دراميًّا.
يرى نقيب الممثلين، أشرف ذكي، أن هذا القرار يفتقد إلى العدالة، وأنهم -كممثلين- لن يمتثلوا إليه، لأنه يضرّ بالصناعة الفنية.
القرار الإداري الذي أعلنت عنه محافظة القاهرة قبل ساعات قليلة، يقضي بفرض رسوم تبدأ من 15 ألف جنيه في الساعة، وتنخفض عند الحصول على تصريح للتصوير يومًا كاملًا في أحد شوارع القاهرة في الإجمالي الأخير إلى 100 ألف جنيه.
بررت محافظة القاهرة ذلك القرار بأنه جزاء لما يحصل من استهلاك وتعطيل للشارع وحركة المرور، وتوفير وسائل أمنية للحماية خلال فترة التصوير، بالإضافة إلى مساعيها إلى زيادة الموارد المحلية للمحافظة من أجل الإنفاق على التنمية.
فيما رأى نقيب الممثلين، أشرف ذكي، المنوط به تمثيل تلك الطبقة والدفاع عن حقوقها في مثل هذه الأزمات، أن هذا القرار يفتقد إلى العدالة، وأنهم -كممثلين- لن يمتثلوا إليه، لأنه يضرّ بالصناعة الفنية من جهة، ويتعارضُ مع تصريحات رئيس الدولة الداعمة للفنّ من جهة أخرى.
ما هي تلك التصريحات؟
بالتزامن مع اندلاع هذا الجدل تقريبًا، قبله بساعات على وجه التحديد، قام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بمداخلة هاتفية، هي الأولى من نوعها، مع برنامج “صالون التحرير” الذي تقدمه الإعلامية عزة مصطفى، على قناة “صدى البلد” المملوكة لرجل الأعمال محمد أبو العينين، مساء الإثنين.
برّرَ السيسي، الذي قام بمداخلة مشابهة أخيرًا، ولكن على قناة رسمية تابعة للدولة، لتهنئة البطلة المصرية في لعبة “الكاراتيه” فريال أشرف، التي حصلت على الميدالية الذهبية في أولمبياد طوكيو الأخير؛ المداخلةَ هذه المرة بإعجابه بضيف الحلقة، الكاتب الفني عبد الرحيم كمال.
طالب السيسي بتعويض مذيعة البرنامج عن هذا الوقت، لأن مدة مداخلته قاربت الـ 10 دقائق، تطرّق خلالها إلى عدة قضايا قومية، من بينها ضرورة إعادة النظر في المعتقدات الموروثة، إسلامية ومسيحية، لدى المصريين، وأولوية الشروع في تنظيم النسل، إذا أراد المواطنون الشعور بآثار التنمية التي يقوم بها النظام الحالي.
ولكنَّ ما يهمنا هنا في هذه المداخلة هو ما أشار إليه نقيب الممثلين، أشرف ذكي، بخصوص الرسوم الجديدة على تصوير أعمال الفنانين في الشارع، حيث قال السيسي لعبد الرحيم كمال إن الدولة مستعدّة لدعم الأعمال الفنية الهادفة ماديًّا، من أجل الوصول إلى المواطنين في بيوتهم وتحقيق هامش ربح مقبول لصنّاع العمل.
ما استنكره ذكي نقيب الممثلين، أنه كيف يمكن الجمع بين ما يطرحه الرئيس لأول مرة من إمكانية تقديم دعم مالي للصناعة الفنية، في الوقت نفسه الذي تقوم فيه الدولة نفسها باستحداث رسوم جديدة معوّقة لنفس الصناعة؟
“لأ طبعًا لن هيحصل، لن يحدث، يعني معقول القيادة السياسية، أعلى سلطة في الدولة بالليل تدعم (السيسي) – ونصحى الصبح نعوق؟ القرار قتل وضرب للصناعة، وليس في مصلحة مصر فنيًّا وسياسيًّا، الدنيا مقلوبة في الوسط”، قال ذكي، نافيًا نفيًا قاطعًا خضوعه لهذه الإجراءات.
أسباب أخرى
ليس ذلك وحسب، فقد استفاضَ العاملون في هذه الصناعة في شرح أسباب رفضهم لهذا القرار، بشكل متزامن، من خلال حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، بمن في ذلك أشرف ذكي نقيب الممثلين أيضًا.
سيؤدي هذا القرار إلى هروب المنتجين المصريين أنفسهم إلى دول أخرى، تسمح بالتصوير الميداني بشكل مجاني، مثل المغرب ولبنان وتركيا.
بالنسبة إلى ذكي، فإنَّ هذا القرار بهذا الشكل سيجترّ في المحصلة النهائية مصاريف أكبر من مبلغ 100 ألف جنيه، المطروح دفعها رسوم تصوير في اليوم الواحد، كما أنه سيفتح الباب أمام هروب المنتجين المصريين للتصوير في الخارج.
وإلى جانب تعارضه مع توجيهات الرئيس، فإنه يتعارض أيضًا مع مقتضى الحال، إذ كيف كان يُسمَح للمنتجين بالتصوير المجاني في العشوائيات التي تسيء للصناعة، ثم تفرَض رسوم عليهم بعدما أصبحت هذه الأماكن “جنة” على حدّ قوله؟
سيؤدي هذا القرار، حال المضيّ قدمًا في تطبيقه، إلى القضاء على أنواع معيّنة من التصوير السينمائي، كالتصوير التسجيلي والتوثيقي، وذلك نظرًا إلى أن هذا النمط من التصوير يتطلب قضاء مدد غير بسيطة في الشارع تصل إلى أيام متواصلة، ولأنه، في الوقت نفسه، قليل العوائد، بالمقارنة مع الأنماط الفنية الدرامية والترفيهية، ومن ثم فإن هذه الرسوم ستؤدي إلى عزوف المنتجين عن هذا النوع الفني المهم.
“من نيازي مصطفى لكمال الشيخ لمحمد خان، توثيق سينمائي ممتد لشوارع القاهرة يُحكَم عليه أن يُمسَح بجرة قلم”، يقول الفني شريف نجيب، ويؤكد الفكرة نفسها زميله في الصناعة إبراهيم عبد المجيد، قائلًا: “ستنتهي الأفلام التسجيلية عن حياة أي كاتب أو أديب مشهور وعن الأماكن التي عاش فيها، “بح” توثيقي”.
ولن يؤدي التعنُّت في هذا الأمر إلى ضياع عملة صعبة محتملة، بسبب لجوء المنتجين الفنيين الأجانب، الذين يبحثون عن مناطق شرقية لتصوير أعمال ذات طابع أصيل، إلى دول أخرى غير مصر فحسب، ولكن سيؤدي إلى هروب المنتجين المصريين أنفسهم إلى دول أخرى، تسمح بالتصوير الميداني بشكل مجاني، مثل المغرب ولبنان وتركيا، وفق خبراء على غرار أحمد فرحات.
ضغوط أمنية على صنّاع الفن
لسبب ما، تراجع نقيب الممثلين ذكي، على الفور، عن تصريحاته الحادة، إزاء رفض هذا القرار والأضرار المحتملة عنه، لصالح موقف أكثر توسُّطًا، مفاده أنه من الممكن الجلوس والتفاهم خلال الأيام القادمة للوصول إلى حلّ معقول.
“نحن لا نقول إننا لن ندفع، بل سندفع، لكن بالمعقول. أنا أعرف أن الدولة عليها أعباء، والمحافظة عليها أعباء، ونحن حين نصوّر في شارع ما فأننا نستهلك هذا الشارع. من حقّ المحافظة أن ندفع، ولكن ندفع ما يتناسب مع الميزانيات، لكي لا نضرّ بالصناعة”، يقول ذكي.
ويردفُ ذكي في السياق نفسه هذا التراجع الفوري عن موقفه السابق الرافض للقرار عبر مداخلة تلفزيونية: “سنجلس ونتفاهم، هناك فرق بين العمل السينمائي والعمل الإعلاني والعمل الدرامي. سنجلس كي نصل إلى ضوابط ترضي جميع الأطراف”.
ووفقًا لمصادر فنية محلية، تحدّث بعضها إلى “نون بوست”، فقد تعرّض ذكي إلى سلسلة اتصالات، من ضبّاط مسؤولين عن التنسيق بين ما هو أمني وبين ما هو فني، لكي يتراجع عن موقفه المتحفّظ على القرار، لا سيما أنه “أساء عرض موقفه بشكل يضرّ بصورة الدولة” كما تقول المصادر، وقد ساهمَ في هذا التراجع أيضًا لقاؤه مع محافظ القاهرة، الذي كان لواءً سابقًا أيضًا.
مسار الجبايات
بحسب ورقةٍ بحثية صغيرة نشرها الباحث في الشأن المصري، أحمد مولانا، في “منتدى العاصمة” منذ أشهر قليلة، فقد توسّع النظام المصري في استحداث ورفع الضرائب على الشرائح الأقل دخلًا منذ بداية جائحة كورونا، وبالأخص من منتصف العام الماضي.
تهدف هذه الضرائب إلى سدّ عجز الموازنة من جيوب المواطنين، والقضاء على الاقتصاد غير الرسمي.
شرعَ النظام المصري في هذا المسار الجبائي الجديد بداية مايو/ أيار عام 2020، بسنّ قانون “المساهمة التكافلية” الذي تقوم الدولة بموجبه بخصم ما يعادل 1% من رواتب جميع الموظفين، في القطاعَين العام والخاص، ونصف هذه النسبة من أصحاب المعاشات، وذلك من أجل دعم قدرات الدولة في التصدي لجائحة كورونا.
منذ ذلك التوقيت، أخذ النظام يستحدث رسومًا مختلفة لفرض الضرائب على المواطنين وزيادة موارده، مثل رسم تنمية موارد الدولة في يونيو/ حزيران من العام نفسه، والذي يفرض مزيدًا من الرسوم على معاملات حيوية يومية مثل استخراج المحررات الرسمية من الشهر العقاري، وبيع الهواتف المحمولة.
غير أنّ “الجباية” الأبرز والأكثر لفتًا للانتباه وإثارةً للأسئلة، كما يقول الباحث، هي ضريبة الإذاعة في يوليو/ تموز 2020، والتي بموجبها تحصِّل إدارة المرور في وزارة الداخلية مبلغ 100 جنيه من أي سيارة مجهّزة لتركيب “راديو”، حتى لو كان لا يعمل أو غير موجود، وذلك بعد أن كانت هذه الرسوم مقدَّرة بـ 36 قرشًا فقط في السابق (الجنيه الواحد يعادل 100 قرش).
وتهدف هذه الضرائب، كما يخلص الباحث، والتي شملت رفع سعر رغيف العيش وقانون السايس وزيادة أسعار مترو الأنفاق، إلى سدّ عجز الموازنة من جيوب المواطنين، والقضاء على الاقتصاد غير الرسمي، ومن ذلك مناقشة الحكومة حصر أعداد العاملين في قطاع جمع المخلفات، وفرض رسوم تصل إلى 40 جنيهًا على كل شقة بعد تقنين هذه الوظيفة، كما يحدث مع السايس في الوقت الحالي.