الأزمة التي يعيشها لبنان على المستويات كافة، بلغت مستوى غير مسبوق في تاريخه المعاصر، وشملت مختلف القطاعات التي تتّصل بحياة اللبنانيين اليومية، من ماء وكهرباء ووسائل تنقُّل واتصالات وعمل وغيرها.
غير أن الوطأة الأكبر والأكثر خطرًا هي في الواقع الصحي، الذي ارتكس إلى مستويات هدّدت حياة اللبنانيين بشكل عام، والمرضى والمصابين بأمراض مزمنة بشكل خاص، كما لم تتهدّد حياتهم من قبل. فما هو الواقع الصحي الذي يعيشه لبنان في ظلّ الأزمة؟ وكيف يؤثّر على سلامة اللبنانيين وحياتهم في ظل جائحة كورونا المتفشّية بشكل كبير في البلد؟
واقع المستشفيات
تنتنشر المستشفيات في لبنان في كل المناطق، ويكاد يكون لبنان متقدّمًا على كثير من البلدان في نسبة عدد المستشفيات قياسًا بعدد السكّان المقيمين، وهي بالمناسبة نسبة مرتفعة لصالح المستشفيات، التي هي على نوعَين: مستشفيات حكومية تابعة مباشرة للدولة، وأخرى خاصة تتبع لجامعات أو جمعيات أو مؤسسات خاصة وشركات أو حتى أفراد.
غير أن تعاملات هذه المستشفيات مع المرضى تكاد تكون واحدة غير مختلفة إلا بحدود ضيّقة جدًّا، إذ إن المريض اللبناني غالبًا ما يكون مكفولًا صحيًّا إمّا عبر مؤسسة الضمان الاجتماعي الوطني (مؤسسة شبه رسمية تشاركية بين المؤسسات الخاصة والعاملين فيها)، وإمّا عبر شركات التأمين الخاصة، وإمّا عبر وزارة الصحّة العامة.
وعندما يلجأ المريض إلى تلقّي العلاج في إحدى المستشفيات، فإنّ هذه الجهات الضامنة تتولّى تسديد قرابة 90% من قيمة الفاتورة الاستشفائية التي تتوجّب عليه، فيما يتولّى هو تسديد الـ 10% المتبقيّة، كما أنّ هناك قسمًا من اللبنانيين يتلقّون العلاج والعناية الطبيّة عبر ضمانة مؤسسات الجيش وقوى الأمن الداخلي، وبقية الأجهزة الأمنية والإدارية العاملة في إطار الدولة اللبنانية.
هجرة الكثير من الأطباء أصحاب الاختصاص إلى دول عربية وأجنبية، وكذلك هجرة مئات الممرضين، يترك فراغًا كبيرًا في قطاع الاستشفاء الصحّي، ويترك العديد من المرضى في مهبّ الريح.
وقطاع المستشفيات كان إلى الأمس القريب يُعدّ قطاعًا مربحًا ومنتجًا في لبنان، وكانت المستشفيات تشكّل عماد السياحة الاستشفائية التي كان يلجأ إليها مواطنون من الجوار العربي، وكان ذلك يُشكّل دخلًا مهمًّا من مداخيل المستشفيات ومن مداخيل الخزينة اللبنانية.
غير أن وضع المستشفيات في ظلّ الواقع الحياتي والمعيشي والاقتصادي الذي يعصف بلبنان اليوم، راح يتراجع وبدأ يهدّد حياة اللبنانيين بخطر الموت، أو خطر عدم تلقّي العلاج اللازم.
فالمستشفيات اليوم في لبنان تواجهُ معضلات ومشكلات متعدّدة ومختلفة الأوجُه، حيث هناك نقص بالمعدات الطبية التي تحتاجها المستشفيات، بالنظر إلى استيراد هذه الأدوات والقطع من الخارج بالدولار الأميركي، في لحظة تُسجّل الليرة اللبنانية انهيارات كبيرة أمام الدولار.
يتم هذا بينما ما زالت المستشفيات ملزَمة بالتعامُل مع المرضى بالليرة اللبنانية، ووفقًا لسعر الصرف الرسمي للدولار، أي على سعر 1515 ليرة لكل دولار، بينما الدولار في السوق الموازية يقارب الـ 20 ألف ليرة، ما جعل المستشفيات تواجه هذا الواقع الذي بدأ يرخي بثقله عليها.
ثم هناك مشكلة أخرى تتّصل بمادة المازوت التي ترتبط بإنتاج الكهرباء، وعدم توفًّرها بشكل آمن في لبنان، ما هدّدَ عمل العديد من المستشفيات التي لجأت إلى إقفالِ بعض أقسامها، فيما عدّلت مستشفيات أخرى من جدول خدماتها اليومية واستقبالها للمرضى، بينما هدّدت أخرى بالإقفال التام بالنظر إلى عدم توفّر مادة المازوت التي توفّر الكهرباء للمستشفيات.
يؤدي ذلك إلى تهديد حياة عشرات ومئات المرضى، خاصة الذين ترتبط حياتهم بالعلاج الدائم للأمراض المزمنة، كغسيل الكلى وغيره، كما أن هناك نقصًا ببعض المواد الطبية كالبنج، الذي يُعدّ وسيلة أساسية في العمليات والعلاج الطبي.
فضلًا عن هذه وتلك هناك مشكلة إضافية تتمثّل بهجرة الكثير من الأطباء أصحاب الاختصاص إلى دول عربية وأجنبية، وكذلك هجرة مئات الممرضين، ما ترك فراغًا كبيرًا في قطاع الاستشفاء الصحّي، وترك العديد من المرضى في مهبّ الريح.
واقع الأدوية والصيدليات
يعاني لبنان من أزمة كبيرة في موضوع الدواء، إن لناحية الاستيراد وفتح الاعتمادات بالدولار الأميركي ومن ثم بيع الأدوية بالليرة اللبنانية، وإن لناحية رفع المصرف المركزي التغطية المالية أو الدعم الحكومي للأدوية، وهو ما جعل أسعارها في السوق مرتفعة جدًّا، وفتح باب الاحتكار أمام التجّار والمستوردين بشكل كبير.
وباتت الصيدليات تفتقرُ إلى الكثير من أصناف الدواء، خاصة أدوية الأمراض المزمنة، كما أنّ الأسعار حلّقت بشكل جنوني حيث ارتفعت أكثر من عشرة أضعاف، ناهيك عن فقدانها من السوق أو ندرتها.
وقد لجأت وزارة الصحّة خلال الأيام الماضية، مدعومة من الأجهزة الأمنية وبغطاء قضائي، إلى مداهمة العديد من مستودعات الأدوية، وصادرت كمّيات كبيرة من الأدوية المخزّنة والمحتكرة من قبل بعض التجّار والمستوردين، وهي أدوية في أغلبها مفقودة من الأسواق.
في مطلق الأحوال إن المواطن هو الذي يدفع الثمن من ماله وحياته، لأنه يضطرّ أحيانًا إلى دفع ثمن بعض الأدوية عشرات أضعاف سعرها الحقيقي للحصول عليها، أو يضطر إلى الانقطاع عنها وهو ما يهدّد حياته بالموت.
أمّا الصيدليات فقد عمدت أكثر من مرّة إلى إقفال أبوابها والإضراب عن العمل، تحت حجّة عدم وجود دواء لدى الشركات المستوردة، أو تحت حجّة تحميل الصيدليات فرق الصرف للدولار بين السعر الرسمي وسعر السوق.
في مطلق الأحوال إنّ المواطن هو الذي يدفع الثمن من ماله وحياته، لأنه يضطرّ أحيانًا إلى دفع ثمن بعض الأدوية عشرات أضعاف سعرها الحقيقي للحصول عليها، أو يضطر إلى الانقطاع عنها وهو ما يهدّد حياته بالموت.
واقع المراكز الطبية والمستوصفات
تنتشر المراكز الطبية والمستوصفات الخيرية في معظم المناطق اللبنانية، وهي في الغالب مملوكة لجمعيات ومؤسسات أهلية وخيرية، وتقدّم الخدمات الطبية التي تتراوح ما بين الفحوصات العادية والكشف الطبي العادي، وصولًا إلى التصوير الشعاعي والفحوص المخبرية وخدمات علاج الأسنان وخلاف ذلك.
تتقاضى هذه المراكز والمستوصفات بالغالب مبالغ رمزية من المرضى، الذين وجدوا فيها مند سنوات ملاذهم الذي يخفّف عنهم عبء العلاج والتكاليف المالية الباهظة، والحقيقة أنّ هذه المستوصفات المنتشرة خاصة في الأحياء الشعبية وفي الأرياف، خفّفت كثيرًا عن كاهل المواطنين، وحالت في كثير من الأحيان دون تحكّم المستشفيات أو الأطباء في العيادات الخاصة بالمرضى لناحية الأسعار والخدمات.
غير أنّ واقع المستوصفات اليوم بات أيضًا مهدّدًا بالإقفال أو التخفيف من الخدمات، بالنظر إلى الأسباب التي تمّ ذكرها آنفًا والمتعلقة بتأمين مادة المازوت، من أجل تأمين الكهرباء لضمان حسن سير عمل المستوصفات، وكذلك تأمين الكادر الطبي من أطباء وممرضين ومعدّات طبية لازمة.
واقع الأطباء
أمام الأزمة المعيشية والحياتية التي تعصف بحياة اللبنانيين، عمدت نقابة الأطباء إلى زيادة تعرفة “الكشف الطبي” على المرضى في العيادات الخاصة، وهو ما أوجد حلًّا جزئيًّا لمشكلة الأطباء في ظلّ الأزمة الحياتية وتراجُع قيمة الليرة اللبنانية، غير أنّه ليس حلًّا كاملًا أو مستمرًّا، في مقابل أنّه أوجد مشكلة إضافية لدى المواطنين.
وأمام ذلك عمدَ بعض الأطباء والممرضين إلى البحث عن فرص عمل خارج لبنان، لا سيما في دول الخليج العربي والعراق، ما شكّل نزفًا في الكادر الطبي في لبنان.
كما أنّ الأطباء والممرضين يواجهون غالبًا وكغيرهم من اللبنانيين مشكلة انقطاع مادة البنزين، ما يؤثّر على سرعة انتقالهم إلى عياداتهم أو مستشفياتهم أو مستوصفاتهم، وبالتالي فإنّ المتضرر الأول من ذلك هو المريض الذي يبحث عن العلاج وعن الدواء وعن الخلاص من الأوجاع والآلام.
إنه الواقع الصحّي الصعب في لبنان على الجميع دون استثناء، على الطبيب والممرض والمريض والمستوصف والمستشفى والصيدلي والأهل والجميع.. إنه واقع ينذر بوضع حدّ لحياة الكثير من اللبنانيين، مع إدراك الجميع أن الآجال بيد الله.