هل آمنت النُّخَب العربية بالديمقراطية فعلًا؟ إن انقلاب قيس سعيّد في تونس، ووقوف طيف واسع من النُّخَب في صفّه، يعيد إلى السطح هذا السؤال الحارق، والذي سبق لنا طرحه بعد انقلاب العسكر المصري.
كتبنا حينها أن سرعة الردة على العام الديمقراطي اليتيم في تاريخ مصر، مردّه إلى قوة العسكر وإلى قصر المدة وضعف أداء مَنْ حكمَ، رغم أن الحُكم على نتائج سنة واحدة كان حكمًا تعسُّفيًّا.
لكن بعد 10 سنوات و4 انتخابات ديمقراطية في تونس، وجدنا المرتدّين أنفسهم، كأن لا فرق بين تجربة 10 سنوات وتجربة سنة، ما يشي أن هناك فئات ترفض الديمقراطية في العمق وتتربّص بها وتتحيّن زمنًا مناسبًا للعودة إلى حكم الرجل الواحد، بما يعنيه من تناقض مع الديمقراطية.
كانت هناك مؤشِّرات لم نقرأها بدقة
وإذ نعيد ترتيب عناصر الصورة، نجد أن الذين وقفوا داعمين لانقلاب قيس سعيّد، هم أنفسهم الذين باركوا ويباركون عمل السيسي في مصر، وهم طابور حفتر المرتدّ في ليبيا، وشبيحة بشار الدموي في سوريا.. ونذهبُ بعيدًا فنجدهم أنصارًا لبن علي قبل الثورة، وكان بعضهم عصاته الغليظة التي ضربَ بها الإسلاميين لمدة رُبع قرن.
شاركوا في الانتخابات ودخلوا البرلمان ومارسوا كل شكليات الديمقراطية التعددية، لكنهم في أول فرصة قفزوا من مركب الديمقراطية وثقبوه لصالح حكم الفرد
إنهم خطّ سياسي واحد يتلوّن ولكنه يحافظ على مواقعه، وينتج الممارسات السياسية نفسها: رفض التعايش السياسي داخل الديمقراطية، بما يعنيه من القبول بالمختلف والتعامل معه كمكوِّن وطني.. هذ الخط هو خط القوميين العرب بكل فصائلهم ومسمّياتهم، وخط اليسار العربي بكل زعاماته.
لقد شاركوا في الانتخابات ودخلوا البرلمان ومارسوا كل شكليات الديمقراطية التعددية، لكنهم في أول فرصة قفزوا من مركب الديمقراطية وثقبوه لصالح حكم الفرد، وليس لهذا من توصيف إلا أنهم كانوا ينافقون المرحلة، ويخدعون الناس في فكرهم وجوهر ممارستهم المعادية للشعوب التي يريدون حكمها.
نجاة الإسلاميين أخلاقيًّا وديمقراطيًّا
جيلي المُشرِف على العقد السادس، عاشَ يسمع جملة حوّلها أصحابها إلى قاعدة تحليل وعمل سياسي، وهي أن الإسلاميين ليسوا ديمقراطيين، وأنهم يتظاهرون بالإيمان بالصندوق الانتخابي، وهم يزمعون الانقلاب عليه بمجرد وصولهم للسلطة.
التجربة التونسية تكشف العكس تمامًا، لقد أيقنّا أن الإسلاميين هم الأشد إيمانًا بالصندوق والتداول على السلطة، بخضوعهم التام للإرادة الشعبية، بينما تبيّن لنا أن من كان يتّهمهم بذلك كان يُسقط عليهم من فكره السرّي، ومن تخطيطه الإجرامي، وانقلاب قيس سعيّد دليل إضافي بين يدَي التحليل.
لقد كشف قيس سعيّد دون علمه حقائق مهمة، وهي أن أعداء الديمقراطية كانوا بيننا ولم نرَهم، وكان يجب أن ينقلبوا لنسمّيهم ونصنّفهم.
وقد قدّموا دون علمهم شهادةَ براءة للإسلاميين، سيسجّلها التاريخ وسينكرونها كما أنكروا غدرهم بالديمقراطية باسم التصحيح.. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا يغدر هؤلاء بالديمقراطية؟
تيارات فاشية في الجوهر
يحمل القوميون العرب على أكتافهم وزر الفشل الذريع لـ 5 أنظمة قومية، حكمت بلدانها طيلة نصف القرن الماضي، وأجرمت في حق شعوبها ودمرت معيشتهم، وورطت بلدانها في حروب عبثية، حتى إن بعضها ناصر جيش الرب الأوغندي.
لم يمنعنا الإسلاميون من حريتنا ولكنَّ القوميين في طريق مفتوح لقمعنا، متخفّين وراء التصحيح كما تخفّوا دومًا وراء ثورات الإنقاذ العربية، التي حوّلت بلدانها إلى أنقاض.
أفقر البلدان العربية الآن وأسوأها معيشة هي البلدان الخمسة التي حكمها القوميون العرب، وكان حكمهم في عداء صريح مع شعوبهم ومع جيرانهم.
هذه الجرائم مكتوبة في ذاكرة الناس على طول الخريطة العربية، لذلك إن ظهور قومي واحد في مشهد سياسي، يذكّر الناس سريعًا بذلك الإرث البغيض، وهذا سبب رئيسي كي لا يقبل القومي العربي المرور بصناديق الاقتراع.. إنها تفضح فاشيته.
خصوصًا أن المواطن العربي يمكنه أن يكون عروبيًّا ويدافع عن قضايا أمته، ومنها فلسطين المحتلة، دون أن يمرَّ بحزب أو تنظيم قومي زعمَ احتكار القضية.
لقد تفطّن الناس منذ زمن أن العروبة ليست القومية، بل أن الأنظمة القومية هي سارقة العروبة من أهلها، والجميع يعرف أن هذه الأنظمة لم تحرِّرْ شبرًا واحدًا من الأرض المحتلة.
وحدها الديمقراطية تسمح لنا بقول هذا لقومي عربي، ولأنه لا يريد سماع هذه الحقيقة البسيطة، فإنه يقطع طريق الصندوق الذي هو نفسه طريق الحرية.
ولأن القومي العربي يقفُ الآن مع الانقلاب، فإننا نخشى على حريتنا، حيث لم يمنعنا الإسلاميون من حريتنا ولكنَّ القوميين في طريق مفتوح لقمعنا، متخفّين وراء التصحيح كما تخفّوا دومًا وراء ثورات الإنقاذ العربية، التي حوّلت بلدانها إلى أنقاض.
والقوميون واليسار واحد في فاشيتهم، فهم يعادون الصندوق ويقفون مع كل دكتاتور حكمَ بلده، إلا قليلًا استنكفَ وتميّزَ فنبذَهُ اليسار نفسه.
الديمقراطية لم تكن هدفًا جماعيًّا
يمكننا أن نعيد قراءة تاريخنا القريب، لنفهم كيف حكم بن علي ومبارك والقذافي، فما كل من تكلّمَ باسم الديمقراطية كان يؤمن بها فعلًا، فقد تكلّمَ هؤلاء الطغاة باسم الديمقراطية، ووجدوا نُخَبًا تصفّقُ لهم، وهذه النُّخَب نفسها تقفُ مع كل انقلاب.
لم تكن هذه الفصائل مؤمنة بالديمقراطية، ولذلك أفشلت الثورات من داخلها بأن تسرّبت لها وشوّهت مطالبها وحرّفت اهتمامات الجمهور الواسع، الذي كان دومًا أقرب إلى الفطرة السليمة منه إلى الكيد الأيديولوجي.
الحالة التونسية شاهد ملك على كيف خرّبت النقابةُ الثورةَ، وقيادة النقابة الأغلبية هي القوميون واليسار، وها هم يسلّمون البلد لحاكمٍ فردٍ لا نرى له من مكرمة، فقد كمنَ للديمقراطية على طريقة اليسار والشبّيحة، حتى تمكّن من رقبتها فخنقها.
ما زال لدينا حتى اللحظة هامش طرح السؤال عن مصيرنا، لكن المؤشرات التي نجمعها تشير إلى أن هذه آخر أيام الحرية، وقد يكون مقالنا الأخير في زمن التشبيح التونسي هي وصية لأصدقائنا، يطّلعون عليها بعد الخروج من سجوننا، وقد صرنا أشباحًا.
هل كان هناك طريق آخر؟ الأجيال القادمة ستكتبُ أنَّ الربيع العربي لم يعرف أعداءه بدقّة، ولم يسمّهم بأسمائهم فغدروا به.