“ماضٍ من على شفا باب القاعة… اندفع فارسٌ مجهول
لاحَ جسده ليتبدّى كواحدٍ من أعظم الهياكل في نموّه:
من رقبته العريضة إلى سمكِ وضخامةِ عجيزته
وخصره وساقَيه الطويلتَين العظيمتَين
هكذا أعدّه نصف عملاق على الأرض
بيد أنه لا يقلّ عن أضخم الرجال
فيما هو يركب خيله… تلوح قامته من علٍ
جسده قاتم… ظهره وصدره
خصره أهيف
شكّلَ في كل لمحةٍ تآلفًا منصفًا
هكذا كان.
تنامى اندهاشٌ هائل في القاعة
لاح بلونٍ أشد غرابة
في عيون الرجال وفوق سطح حاجياتهم
بلونٍ أخضر كما يمكن للّون أن يستبدَّ في وجودهِ”
هكذا وُصِفَ الفارس الأخضر في قصيدة “سير غواين والفارس الأخضر” لكاتبها المجهول.. وصفٌ يخلع عنه الصفات الإنسانية المادية، ويرفعه إلى مرتبة تقارِعُ العمالقة في سموّهم وبأسِهِم.
وبتلك النعوت التي تمضي بمحاذاة الأمارات المميزة للفروسية، بل تفوقها في القدرات الجسدية والهيبة والفتونة، وتكتسب تباينها بلونٍ يستبدّ بجميع المخلوقات، لأنه في أصله لون للرخاء، بيد أنه هنا يتبدّى كأنه علامة أسطورية تثبت وجود الفارس الأخضر، وتهيّئ له حضورًا ميتافيزيقيًّا يرتبط ارتباطًا وثيقًا برمزية خضراء اللون.
لا يسعنا التحدث عن فرسان العصور الوسطى، دون استحضار الفارس الأكثر شهرة والأعظم شأنًا في تاريخ الأقاصيص والحكايات: دون كيخوته، المطارَد بأخيلة المثل العليا والمروءات التي يستقيها من أبطال روايات الفروسية الأكثر شعبية والأكثر رداءة على حدٍ سواء في العصور الوسطى.
روايات تطغى بوقائعها المزيَّفة وهلوساتها وأحلامها على عين الصواب والحقيقة، ليطوِّع دون كيخوته حاضرَه على تلك الحوادث، ويقيس حياته ممتثلًا لوقائعها، ويهوى في واقعٍ مغاير لا يراه أحد سواه، ويخضع لدستور الفروسية الأخلاقي، ويأخذه كعقيدة مشابهًا فرسان الروايات، ومقارعًا أشباح فرسان ووحوش ليس لهم وجود.
كتب ميغيل دي ثيربانتس شخصية دون كيخوته ليكشف مثالب أدب الفروسية المستوحِش في العصور الوسطى، وينتقده من خلال شخصية ابنة بيئته، ليست مختلفة أو أجنبية عن عالم تلك الروايات نفسه.
ولكن في فيلم “الفارس الأخضر” للمخرج الرائع ديفيد لاوري، ورغم أن القصيدة الأصلية “سير غواين والفارس الأخضر” تميّزت نوعًا ما بالخروج عن المألوف، ورفض البنية الأخلاقية والعُرف الأخلاقي للفرسان، بتضمين الشعوذة كأداة تساعد الفارس ضد خصمه، وهذا لا يعدّ من مروءات الفروسية، إلى جانب نهايتها الغريبة والغامضة في تلك الحقبة، التي كان يعتمد أدبها على النهايات البطولية الحاسمة.
بيد أن لاوري لم يتناول القصة بحذافيرها، بل اقتبسَ روح القصيدة كعلامة في أدب العصور الوسطى، وشرعَ في هدم شخصية البطل المنوطة بالحكاية الأصلية، وانهمرَ في نسج شخصية تخضع لثيمات إنسانية أكثر ممّا يستند على بطولات نمطية وشجاعة معهودة.
التفكيك والإحلال
نسخة لاوري تسير بمحاذاة النسخة الأصلية، ولكنها تجرُّ اللامعقول إلى حيّز الانفعال البشري، تتيح لنفسها فرصة الاقتراب من جودة الإنسان الحقيقية من خلال فعل الحكي، الذي يمكن أن يكون له تأثيرًا أعظم ممّا ترسمه الصورة الجمالية.
ففعل الحكي هنا تتمّ ممارسته في صورة داخلية، أي أنها لا تخضع لسردية نمطية تكتسبُ قيمتها من أجواء العصور الوسطى، أو حبكة كلاسيكية يظهر فيها بطل مثالي يستمتع بخلع الرقاب ويلهث وراء التحديات، حيث نرى هنا صور بطل مشوَّهة، ليس بطلًا ينتمي إلى العصور الوسطى إلا من خلال الصورة والمكان، بينما يقف هو خارج ذلك الزمن، لأنه يرى نفسه في كل الأزمنة.
ينهمكُ لاوري في تفكيك شخصية البطل داخل إطار الحكاية الأصلية، ويعطيها فرصة أكثر مرونةً من نصوص العصور الوسطى الجامدة، فرصة الانفلات من شخصية البطل، ليتحول إلى اللابطل (Anti- Hero) وهذه نقطة مهمة، لأن طبيعة الفيلم الملحمية تقتضي وجود البطل، وطبيعة القصة على السواء تلزمُ المُخرج بشكل قصصي معيّن من الصعب التخلُّص منه.
حتى الجمهور داخل القاعات في انتظار السير غواين الهمام، بسيفه القاطع ودهائه الفاتك بخصومه، لذلك خرجَ الكثير منهم خائبي الرجاء لأن الفيلم ليس فيلم بطولة أو حركة كما قلتُ مسبقًا، بل هو أكثر من ذلك، أنه فيلم يدور حول الموت، ليس الموت نفسه كشيء قائم على الأخذ، بل ككيان يمنح غواين شعورًا بغيضًا بالخوف.
إنه فيلم حول الخوف من الموت واحتقار البطولة، هذا الموت الذي كان يحرِّك الشخصية في النصف الثاني من الفيلم، عَملَ كمحرِّر ومانح للعظمة في النصف الأول منه.
الموت هنا يأخذ وجهَين، ولكن مقابل هذَين الوجهَين تخلّى عن نصف هيبته، فهو ليس فاصلًا في فرض نفسه كأداة مخلِّصة، بل انحرفَ عن طبيعته كشيء محسوب مسبقًا، صارم، لا يخطئ؛ في سبيل إيجاد كيان يمثّل طبيعة لا نعرفُ مكنونها، كأنه نصف إله يحملُ مسؤولية اختبار البشر، من خلال حالة وضِعت في سياق أشد عبثًا من أن يستخدمها كيان شبه سماوي.
إنها محض لعبة، حتى لو كانت لعبة خطيرة، تظلُّ لعبة في نهاية الأمر، كأنه يودّ القول: أليست حياتنا مجرد لعبة في النهاية، محض مقامرة خطرة؟ وهذا إن دلَّ على شيء فيدلُّ على انحطاط هذا العالم، ليس انحطاطًا شكليًّا إنما يردُّ الإنسان إلى طبيعته الأرضية ولا يرفعه إلى مرتبة سماوية، أو يضعه في خضمّ ناموس إلهي من الصعب عليه أن يفهمه.
التفكيك هنا حدث على مستويَين، المستوى الأول هو التفكيك الخارجي، وهذا يرتبط بالصناعة السينمائية ككُلٍّ، وبشكل الفيلم الأميركي على وجه الخصوص، الذي يخضع غالبًا لصيغة تجارية تذيبُ معظم جهود الأفراد لصناعة فيلم متماسِك.
وإذا أخذنا الفيلم الملحمي كمثال، فإنه وسط كل الأفلام يعتمدُ على ركيزتَين تحملان الفيلم للنجاح التجاري، الأولى هي البطل الأوحد، أو المخلِّص الذي يحمل غايةً خيّرة في أساسها، ويتحرك من خلال موتيفات العاطفة والخير والمثالية، والركيزة الثانية هي القتالات والحروب التي يخوضها هذا البطل، والتي من خلالها يخسر أحد أعزائه، ليتمَّ توظيف شعور البطل بالفقد كثيمة لتحريك البطل نحو الطرف الآخر.
لا يختلف هذا النوع من الأفلام كثيرًا عن الأفلام التجارية، يمنح الجمهور ما يستلزم رؤيته، يهبهم ما يصبون إليه في حياتهم اليومية، ما يحلمون بتحقيقه، البطل الشعبي الأكثر مثالية، والقتالات الترفيهية الدامية التي تحرِّك فيهم مشاعر الإعجاب والغبطة.
ولكن إذا دققنا النظر في فيلم الفارس الأخضر، فهو لم يستعمِلْ أي من هذه الموتيفات أو الثيمات، وعليه فالبنية السردية الجاهزة تغيّرَت، وطريقة الحكي نفسها اختلفَت، لأن البطل ليس مثاليًّا ولا يفقد أي من أصدقائه خلال الرحلة، ولم يتعرّض للاضطهاد ولم يخضْ أي قتال تقريبًا، وهذا شيء ثوري بالنسبة إلى الأفلام الملحمية الأميركية بشكل خاص.
كما يعتبَر انتفاضةً للفنّ من أجل الفن يجب الانتباه والنظر إليها، حيث تمّ تفكيك البنية الملحمية المثالية والجاهزة، من أجل بنية انفعالية في سردها تعتمد على دواخل الشخصية أكثر من خوارجها، وتهتمّ بالتعاطي مع البيئة المحيطة والصمت المطبَق كانعكاس لسريرة البطل وبطانة عقله وضميره.
أمّا المستوى الثاني من التفكيك، كان مستوى داخليًّا، وهو كما ذكرنا سابقًا يتعلق بالبطل نفسه، فهو لا يتمتّع بتلك النزعة الهادئة للخير، ولا يخضع للانحراف المارق نحو الشر، بيد أننا لا يمكننا تصنيفه كشخص متّزن، بل أنه مشتت، لا يحمل شيئًا من صفات البطولة، ينام في إسطبل، يرتدي أسمالًا، ليس فتيًّا مثل أقرانه حتى لو ظهر كذلك، جبان ويخاف الموت، ساذج، وله أم مشعوذة.
وإذا خلعنا عنه الدم الذي يربطه بالملك آرثر، سيتلاشى من صفّ الأشخاص الاستثنائيين، وسيرتدّ إلى مرتبة العامة والغوغاء والصعاليك.
حتى خلال رحلته ومغامرته، لم يتطوّر البطل ليتحول إلى شخصية استثنائية، بل تقوّضت فُرَصه بالنجاة، وانهدمت عزيمته وارتعدت فرائصه ليقع فريسة لأي شخص.
هذا هو التفكيك لشخصية البطل، ومحاولة إحلال قِيَم أخرى تحيل البطل من شخصية استثنائية إلى فزاعة قشٍّ جبانة، إنها فضيلة الخوف تلك التي يمارسها المُخرج ديفيد لاوري على فارسه غواين.
من العمومي إلى الفرداني
يتضمن فيلم “الفارس الأخضر” صراعًا داخليًّا، استهلَّ ذلك الصراع وجوده من لعبة الفارس الأخضر، بدأت اللعبة على مرأى من الجميع في تحدٍّ انبسط ليلفَّ كل الفرسان في القاعة، بل كل من كانوا حاضرين في عيد الميلاد، ولكن استجابة غواين لتحدي الفارس الأخضر وأخذه الضربة الأولى، حوّل هذه اللعبة من شيء كلّي شامل إلى شيء شديد الخصوصية، يتعلق بشخصٍ واحد يجب عليه أن يتحمل عواقب الأمور.
احتوت تلك اللعبة طرفَي صراع، الشاب غواين والفارس الأخضر، بيد أن مدة الزمن -الممثَّلة بعامٍ كامل- طوّقت حياته وسيّجت أخيلته في حيّزٍ أشد ضيقًا مما يتحمّله فتى ما زال يستكشف الحياة، وخلّفت في نفسه شعورًا بأنه محاصر داخل نقطة زمنية مكثَّفة، معلّقًا في ذكرى خطيرة لا يملك خيارًا إلا ليحملها عامًا كاملًا ثم ينتهي كل شيء.
مع مرور الأيام، تذوب الخصومة الحسية وينصهر الصراع الملموس، وتنخلع المقارعة عن هيكلها المادي، وتستحيل صراعًا بين الإنسان وقدره، إنما يفتقد القدر لواحدة من أعظم ميّزاته، حيث القدر هنا مألوف ومعروف من البداية، يفتقد إلى فنّ التخفي، ولكنه لا يفرط في كونه محتومًا لا بدّ من حدوثه، أو هكذا كان يظن غواين.
وتنتقل الأمور بعدها من حيّز المعقول إلى اللامعقول، ويبدأ غواين في تنحية العمومي والتخفي داخل الذاتي، ويبدأ رحلة البحث عن القدر.. أي رحلة تلك التي يبحث فيها المرء عن موته؟
كان على غواين أن ينصاع لكلمته، وينطلق في رحلة الذهاب فيها دون عودة، أمّه تعزّمه برقية سحرية، وحبيبته تلتمسُ فيه مشاعر لم يقدر على منحها، ثم يستهلّ البطل رحلته مصاحبًا سيفه البتّار، وحصانه الوفي.
يتولد من تلك النقطة انحراف في عالم الفيلم، ينطلق السرد في تلك اللحظة من ذاتية الفارس غواين نفسه، من دخيلته، يختفي العالم الخارجي ويبقى هو، كل شيء ظهر في سردية الفيلم منذ بداية الرحلة كان انعكاسًا لوجدان الفارس الشاب.
فمنذ خطواته الأولى يبدو أن الحظ السيّئ يتقفّى أثره، الأشجار تتهاوى والأجساد تمتصّها الأرض، ورجل متروك في قفص حتى تحلَّل، كل شيء يلوح من بعيد كفأل شؤم، كأن كل خواطره وأفكاره التي حدّث بها نفسه في البلدة تحدث الآن.
يقع غواين فريسةً سهلة لفتيان من قطّاع الطرق، يُنهَب ويُترَك مقيّدًا لوقت حتى يستطيع تحرير نفسه، بيد أنه لم يتحرر فعليًّا، بل تجرّد من بوادر شرفٍ ومهابة ملكية، حتى الدم الذي كان يدبّ في وجهه هرب إلى أصابعه، وأضحى جلده أكثر شحوبًا، هائمًا على وجهه، لم يعرف ماذا يفعل.
انتشله دماغه من واقعه، وهيّأ له واقعًا موازيًا لا يختلف كثيرًا عن واقعه، ولكنه يسير بمحاذاته، في أحيان تتولد الطبيعة من خضمّ معاناته وتتوافق ألوانها مع قساوة هيئته، وفي أحيان أخرى يمتزج الواقع مع تأثيرات ماضٍ غابر، ويصنع تقاطعات مع حيوات أشخاص مضوا منذ زمن، ولكن ما زالت أنفسهم معلّقة في الهواء، تتهاوى على رؤوس الهائمين في الطرق، تنتظر مخلّصًا لها.
الاستعارة والرمز
استخدم المُخرج ديفيد لاوري عدة استعارات، ووظّف عددًا وافرًا من الرموز في فيلمه، ربما هذ ما يجعل من الصعب التعلّق بالفيلم، لأنه يثير عدة أسئلة بطريقة غرائبية.
لعب الثعلب دورًا كبيرًا في الميثولوجيا على اختلاف أصولها، ويقع في العصور الوسطى الأوروبية موقع الفِطنة والنباهة، ويرتبط دائمًا ذلك الدهاء بسلوكٍ احتيالي، لذلك كان في بعض الأحيان يصوَّر كشيطانٍ ينسلّ ويتوارى في هيئة مختلفة.
وفي أساطير أخرى كانت له القدرة على تبديل شكله، والتستُّر في هيئة إنسان أو أي مخلوق آخر يريده لغرضٍ ما في نفسه، وفي بعض الأساطير الأخرى كان يعمل كرسول للآلهة.
توظيف لاوري للثعلب متأثِّر بالأساطير والحكايات الشعبية، لكنه ليس شيطانًا أو ملاكًا حارسًا، بل يقع في المنطقة الرمادية، لا نعرف ما يرمز إليه بوضوح، لأنه شيء شديد الخصوصية كما قلنا سابقًا، ظهر خلال رحلة غواين، وكان ملازمًا له في معظم فتراتها، بيد أنه لم يساعده بشكل واضح.
عندما تحدّث أخبره بضرورة الرجوع، كأنه رأى الكثير قبله، ولكن في الرجوع خيانة لروح الفروسية التي لم نرَها في غوين إلا في عزمه على إنهاء مهمته، وبيد أن همسَ الثعلب كان صوت العقل، لكننا لم نعرف ما يمكن حدوثه إذا نقض غواين العهد، لذا الثعلب هو اختبار لروح الفارس، تداهمه في نقطة إذا تخطاها لن يعود لديه القدرة على العودة مجددًا.
ترى عالمة اللغويات والكلاسيكيات والباحثة في الميثولوجيا، جين إلين هاريسون، أن كلمة “Titan – عملاق” تشيرُ في اليونانية إلى الأرض/ الطين/ الجبس الأبيض، وأن العمالقة كانوا مخلوقات مكوَّنة من الطين الأبيض، أو رجالًا مغطين بالجبس الأبيض، أي أنهم ينتمون إلى الأرض.
ونرى في الفيلم مجموعة من العمالقة، ربما كانوا الأرباب الاثني عشر، أبناء غايا وأورانوس، 6 من الذكور و6 من الإناث، نلاحظهم يتحركون فيما تتهاوى أذرعهم وتهتزّ أكتافهم، هذا التحقُّق من اللامعقول ينقلُ الفيلم إلى مرتبة روحيّة أعلى، بحيث أصبحَ يتعاطى مع خرافات أو أقاصيص شعبية وأساطير سماوية تفتح المجال بشكل أوسع للتأويلات.
لم يكتفِ لاوري بهذا، بل اصطدم بالهوية الدينية المسيحية عبر استثماره السردي في قصة الراهبة وينفريد، التي قطع خطيبها/ حبيبها رأسها حينما قررت أن تعتنق الرهبنة في الكنيسة، وألقاه في نبع، بيد أن القديس بيونو أعاد إليها رأسها، ومن هنا ظهرت قوة سحرية لذلك النبع، قوة شفائية تطهّر رواده، وهذا يفسِّر الرؤيا التي ظهرت لغواين في النهر، واللون الأحمر الذي اشتمله لعدة ثوانٍ، كإشارة لقدَرِهِ الدموي المحتوم.
أمّا المجرة أو الغبار الكوني المفروش في مساحة شاسعة من الفضاء، هي محاولة للتعافي والنظر إلى الشيء بشكل أنضج، محاولة للتوحّد مع الكلّي واكتساب قوة إضافية، هذا المشهد كان تأثير النهر السحري على الفارس غواين، ومنحه هدية تعيده مرة أخرى لرحلته وتعضّد موقفه.
يرسّخ لاوري لحضور السحري والديني كرُكنٍ أصيل في الحكاية، ويوظِّفها في السرد كموتيفات تؤثِّر في منطق الحكي، منذ اللقطات الأولى تظهر المشعوذة مورغان لافي كوالدة غواين، ولكنها في الحقيقة -القصيدة- ليست أمه، إلا أن المخرج تعمّد وضعها في تلك المنطقة لتضفي على الفيلم نوعًا من الغرائبية، كمزج بين ما هو منحطّ وما هو سحري.
مورغان لافي هي من عزَّمت لكي تبعث الفارس الأخضر للحياة، كنوع من التحدي لابنها وطريق مختصر للعظمة، بجانب ذلك حاول لاوري تغيير صورة الملك آرثر وزوجته، وصوّرهما كشيخَين في أرذل العمر، خلع عنهما الصفات المعهودة، ومزجهما مع الحدث من خلال تصويرهما في شكل أيقونات دينية، عبر استغلال تفاصيل بسيطة مثل التيجان على رؤوس الملك وزوجته، ويقول لاوري عن تلك التيجان:
“أردتها إن تبدو مختلفة عن تيجان العصور الوسطى التقليدية، وبحثنا أنا ومصممة الأزياء ملغوزيا تورزانسكا عن أمثلة أخرى داخل ثقافات وحضارات مختلفة، من ضمنها حضارات أميركا الجنوبية التي اخترنا منها هذا الشكل، ولكن أكثر شيء أحببته في هذا الشكل أنه يمنح الملك آرثر والملكة غوينيفير هيئة أيقونات دينية، ويعطيهم مساحة لتمثيل الأممية المسيحية”.
لا نستطيع التحدث عن الصورة، لأنها ستأخذ مساحة هائلة لا يمكن للمقال أن يستوعبها، بجانب عدم قدرتنا الكتابة عن النهاية حتى لا نحرق على المُشاهد نهاية الفيلم المثيرة للجدل.
بيد أن الفيلم في كلّهِ صورة، يستخدمُ لغة بصرية ليحكي بها، وهذا ما يجعله متفرّدًا، ولكنه ليس خاويًا، بل يوظِّف نفسه بشكل مميز داخل السياق التاريخي والمعرفي للعصور الوسطى، ويمزجها في نسيج واحد.
كما أن سرديته مختلفة، أكثر بطئًا وأشد تكثيفًا من السردية المعهودة، في بعض الأحيان ستشعر أن بعض الأقاصيص مقحم ودخيل على القصة، ولكنه في الحقيقة جزء من منطقة يحاول المخرج استكشافها بشجاعة.