تلقي التفجيرات التي شهدها مطار حامد كرزاي بالعاصمة الأفغانية كابول في 26 من أغسطس/آب الحاليّ بظلالها القاتمة على المشهد الأفغاني برمته، فيما تتجه الأجواء إلى مزيد من التسخين بعد حالة التبريد السياسي والأمني التي شهدتها في أثناء وفي أعقاب سيطرة حركة طالبان على السلطة في البلاد.
التفجيرات التي أسفرت عن مقتل 175 شخصًا، بينهم 13 عسكريًا أمريكيًا و3 رعايا بريطانيين، وما لا يقل عن 28 مقاتلًا طالبانيًا، بالإضافة إلى إصابة أكثر من 200 آخرين، وتبناها تنظيم الدولة “داعش” عبر ولايته في أفغانستان “خراسان” قلبت الطاولة رأسًا على عقب فيما يتعلق بإستراتيجية الإجلاء ومستقبل الوجود الأجنبي في البلاد.
التفجيرات التي لم تكن مفاجئة للولايات المتحدة وعواصم أوروبا، في ضوء التحذيرات التي سبقت العملية، تحمل الكثير من الدلالات والرسائل التي يود تنظيم الدولة إيصالها إلى جميع الأطراف المعنية بالترتيبات الأمنية والسياسية التي يجري العمل على صياغتها بعد وصول طالبان إلى رأس السلطة.
ردود الفعل حيال تلك العملية سواء من الجانب الأمريكي أم الغربي بصفة عامة، وتعاطي الحركة الأفغانية مع ما تحمله من دلالات، تثير الكثير من التساؤلات عن تبعات هذه الخطوة بشأن التموضعات الحاليّة للقوى الموجودة في المشهد، وما يمكن أن تُحدثه من ارتباك ومن ثم تغيرات محتملة في الخريطة السياسية لأفغانستان.
رد أمريكي
الضربة أثارت حفيظة الأمريكان بشكل واضح، كونها أول استهداف مباشر من تنظيم الدولة للوجود الأمريكي في أفغانستان طيلة العشرين عامًا الماضية، الأمر الذي دفع إدارة الرئيس جو بايدن للرد الانتقامي بأقصى سرعة، حفاظًا على هيبة الدولة وسمعتها الخارجية.
الجيش الأمريكي وبعد أقل من 24 ساعة أعلن استهدافه – عبر طائرة مسيرة – مسؤول التخطيط في تنظيم الدولة شرق أفغانستان، لافتًا في بيان له أن المؤشرات الأولية للعملية تشير إلى أنها أسفرت عن قتل الهدف، فيما نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مسؤول أمريكي قوله إن استهداف تنظيم الدولة بضربة جوية عمل استباقي، بعد أن أظهرت معلومات استخبارية أن الرجل المستهدف متورط في التخطيط لهجمات مستقبلية في كابل، وأن العملية تمت في حدود الساعة 11:30 مساءً بتوقيت غرينتش، والقوات الأمريكية انتظرت إلى حين عزل الهدف عن المدنيين قبل شن الضربة الجوية.
الهجوم على المطار، وهو العملية الكبرى للتنظيم خلال العام الحاليّ، لم يكن مفاجئًا لأطراف المشهد، إذ جاء بعد ساعات قليلة من تحذيرات بايدن في الـ25 من أغسطس/آب الحاليّ، الأمر الذي حمل معه الكثير من الدلالات
فيما نقلت قناة “فوكس نيوز” عن مسؤول في وزارة الدفاع الأمريكية أن الهجوم بالطائرة المسيرة استهدف مركبة تقل زعيم تنظيم الدولة في خراسان، مشيرًا إلى وجود شريك آخر في السيارة مع الشخص المستهدف، الذي يعتقد أنه شارك في التخطيط لهجوم مطار العاصمة.
السفارة الأمريكية في كابل نصحت رعاياها بتجنب الذهاب إلى المطار، منوهة في بيان لها أنه “ينبغي للموجودين عند بوابة أبي والبوابة الشرقية والبوابة الشمالية أو عند بوابات وزارة الداخلية الجديدة المغادرة فورًا”، هذا في الوقت الذي حذر فيه الفريق الأمني للرئيس بايدن من احتمالية وقوع هجمات إرهابية أخرى في العاصمة الأفغانية خلال المرحلة المقبلة، وأن مهمة إجلاء الرعايا ربما تكون أكثر خطورة.
الرسائل ودلالات التوقيت
بعد أقل من 10 أيام على سيطرة طالبان على العاصمة كابل، كشف تنظيم داعش عبر الجريدة الناطقة باسمه “النبأ” في عددها الصادر بتاريخ 19 من أغسطس/آب الحاليّ، عن موقفه إزاء انسحاب القوات الأجنبية وفرض الحركة قبضتها على المشهد السياسي في البلاد.
التنظيم وصف طالبان بأنها “مرتدة”، معتبرًا أن محادثات السلام في العاصمة القطرية الدوحة حولتها من “مقاتلين” إلى “مفاوضين”، وأن ذلك يمثل هزيمة، متهمًا إياها بأنها كانت تقيم الشريعة “ناقصة” قبل الغزو الأمريكي، وأنها باتت في “حضن الطواغيت” في إشارة لأمريكا.
واعتبر التنظيم أن ما حصل من انتصار لطالبان، إنما هو باتفاق مع أمريكا، وأن واشنطن منحت البلاد للحركة، وتابع “نصرة الإسلام لا تمر عبر فنادق قطر ولا سفارات روسيا والصين وإيران! والنصر الذي توقع عليه أمريكا وترعاه قطر وإعلامها، وتباركه السرورية والمرجئة والإخوان لهو نصر موهوم”.
الهجوم تجاوز الحركة الطالبانية إلى حركة المقاومة الإسلامة “حماس” التي باركت سيطرة طالبان على السلطة في بلادها، إذ قال التنظيم في بيانه المنشور في الجريدة: “حتى حركة حماس المرتدة هنأت وباركت – لأول مرة في تاريخها – لطالبان، ونشرت صورًا لاجتماع ضم وفدًا من قياداتها بوفد طالبان في الدوحة، ولم تكن حماس لتهنئ طالبان بذلك لولا علمها – بطرق رسمية – أن طالبان الجديدة لم تعد تُوصم بالإرهاب، ولم يعد في الثناء عليها أي خطر أو ملامة”.
وفي ضوء تلك التطورات فإن الهجوم على المطار، وهو العملية الكبرى للتنظيم خلال العام الحاليّ، لم يكن مفاجئًا لأطراف المشهد، إذ جاء بعد ساعات قليلة من تحذيرات بايدن في الـ25 من أغسطس/آب الحاليّ، الأمر الذي حمل معه الكثير من الدلالات.
أولى تلك الدلالات تتعلق برغبة داعش في تصعيد حدة عملياتها الإرهابية في البلاد خلال الفترة المقبلة، وهو ما أعلنته صراحة في ضوء موقفها المناوئ للحركة وبقية الأطراف الخارجية المشاركة في مرحلة ما بعد طالبان، وتشير التقديرات إلى أنه منذ إعلان الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في أول مايو/آيار الماضي قام التنظيم بقرابة 107 عمليات مسلحة، حتى الـ26 من الشهر الحاليّ، أسفرت عن سقوط 447 بين قتيل وجريح، في صفوف طالبان والقوات الأجنبية.
الباحث المتخصص في شؤون الإرهاب، بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، أحمد كامل البحيري، يرى أن هناك 3 أسباب رئيسية وراء تصعيد تنظيم الدولة لعملياته المسلحة، أولها استغلال الارتباك بعد الانسحاب الأمريكي، بهدف توسيع نطاق العمليات الإرهابية في محاولة لإثبات النفوذ والسيطرة.
أما السبب الثاني فيتعلق بمحاولة تأسيس قيادة التنظيم لقاعدة ارتكاز محتملة له، عبر فرع خراسان بعد الضربات التي تلقاها في مراكزه الأساسية في سوريا والعراق، الأمر الذي ربما يجعل من أفغانستان بؤرة ارتكاز جديدة للتنظيم خلال المرحلة المقبلة، فيما اختتم الباحث بمركز الأهرام أسباب التصعيد بمحاولة تسريع وتيرة الانسحاب الأمريكي عبر سياسة الترهيب خاصة في ظل تنامي بعض الأصوات الرافضة لتلك الخطوة.
جدير بالذكر أن ولاية خراسان قبيل دخول طالبان العاصمة كابل بأيام قليلة نشرت إحصاء عن عدد عملياتها المسلحة التي نفذتها خلال الفترة من أغسطس/آب 2020 وحتى أغسطس/آب 2021، إذ وصلت إلى 269 عملية، الأمر الذي يعكس إصرارًا واضحًا لدى قيادات الحركة بمواصلة التصعيد.
استمرار حالة الفوضى الأمنية وتفشي رائحة الدماء بين ثنايا أعمال العنف المتوقعة، سيكون له ارتداداته السلبية على دول الجوار، التي وضعت نصب عينيها استقرار أفغانستان كشرط أساسي لفتح قنوات تواصل دبلوماسي مع طالبان
طالبان وأمريكا.. إعادة تموضع
رغم التأويلات المتعددة والقراءات المتباينة تفسيرًا لتصاعد هجمات تنظيم الدولة في أفغانستان خلال الآونة الأخيرة، فإن القراءة الأكثر واقعية تلك التي ذهب إليها الباحث بمركز الأهرام وغيره من المراقبين، والمتعلقة بمساعي قيادات داعش – عبر فرع خراسان – تعزيز نفوذهم وفرض أنفسهم على خريطة الاهتمام الإعلامي والميداني مرة أخرى بعد الضربات الموجعة التي تلقوها في معاقلهم الأساسية.
عشرات الآلاف من أفراد التنظيم خرجوا من سوريا والعراق بعد الهزائم المتتالية لهم هناك، ما دفعهم للبحث عن عاصمة جديدة لهم لاستعادة قوتهم وحضورهم مرة أخرى، وربما وجدوا في كابل الفرصة السانحة لذلك لا سيما بعد حالة الفراغ السياسي التي خلفها الانسحاب الأمريكي وقوات حلف الناتو، بجانب السقوط المفاجئ وغير المتوقع للحكومة الأفغانية والجيش النظامي.
التفجيرات التي شهدها مطار العاصمة قبل يومين، وما يتوقع أن تشهده البلاد خلال الساعات القادمة في ظل التوقعات الاستخباراتية بشأن حدوث تفجيرات أخرى قريبًا، لا شك أنها تمثل ضغطًا كبيرًا على واشنطن والدول المنسحبة، كما أنها تعزز من وضعية الفريق الرافض للخروج الأمريكي من أفغانستان.
وفي السياق ذاته فإن استمرار حالة الفوضى الأمنية وتفشي رائحة الدماء بين ثنايا أعمال العنف المتوقعة، سيكون له ارتداداته السلبية على دول الجوار، التي وضعت نصب عينيها استقرار أفغانستان كشرط أساسي لفتح قنوات تواصل دبلوماسي مع طالبان رغم الخلافات السياسية بينما.
استشعار القلق حيال العمليات الإرهابية في أفغانستان لدى تلك القوى وعلى رأسها الصين وروسيا وباكستان من المتوقع أن ينعكس سلبًا على مستقبل العلاقات بين تلك الدول وطالبان، وهو ما قد يمثل ضغطًا سياسيًا كبيرًا على الأخيرة التي ربما تجد نفسها في مأزق العزلة مرة أخرى.
وفي الناحية الأخرى قد يؤدي مزيد من هجمات التنظيم، والضغوط السياسية الممارسة من الحلفاء، إلى إعادة نظر واشنطن في خريطة انسحاب قواتها من أفغانستان، بما يتجاوز المدة المحددة سلفًا، والمقررة نهاية يوم الـ31 من أغسطس/آب الحاليّ، لا سيما في ظل التحديات والعراقيل والتهديدات التي تواجه إجلاء الرعايا الأمريكيين.
كل ذلك من المحتمل أن يدفع طالبان إلى الانتقام من تنظيم الدولة الذي بات يشكل تحديًا كبيرًا يضع مكتسبات الحركة السياسية والعسكرية ميدانيًا على المحك، ما قد ينذر بمسلسل من المواجهات الدموية بين الحركة والتنظيم والقوات الأجنبية وعلى رأسها الأمريكية.
ونتيجة منطقية لهذا التطور قد تدخل العلاقات الأمريكية الطالبانية نفقًا من الصدام، في حال استمرار القوات الأمريكية العاملة في البلاد ومواصلة عملياتها العسكرية لما بعد المدة المحددة للانسحاب، خاصة إذا اعتبرت الحركة أن العمليات العسكرية الأمريكية انتهاك لاتفاق انسحاب القوات الأجنبية.
وفي المحصلة.. فإن الانتصارات التي حققتها طالبان عسكريًا بعد سيطرتها على مفاصل الدولة، وسياسيًا من خلال كسب جولات مهمة في معركة الاعتراف الدولي بها، أصبحت على “كف عفريت” في ظل تهديدات داعش وإصراره على تحويل أفغانستان إلى معقل جديدة للتنظيم، من المتوقع أن ينضم إليه بقية الأعضاء في شتى المعاقل المجاورة.
الأيام القليلة القادمة إن شهدت عمليات داعشية جديدة ربما تقلب الطاولة على الجميع، لتفرض تموضعات جديدة للأطراف المعنية بترتيبات المرحلة، هذا إن لم يحدث اتفاق جديد بين الحركة وواشنطن يضمن تجنب الصدام والاصطفاف في خندق واحد في مواجهة التنظيم الذي يبدو أنه يدافع عن بقائه أكثر من مسألة توسيع دائرة نفوذه.