تحاول دولة قطر في السنوات القليلة الأخيرة رفع جاهزية واستعدادات قواتها المسلحة الداخلية، لكي تتواءم مع مستويات رفع التهديد المتزامنة في الإقليم عامة، وفي منطقة الخليج العربي المتوترة من أكثر من اتجاه بشكل خاص.
تتنوع تلك الجهود التي تبذلها القيادة السياسية والعسكرية للدوحة بغرض سد الفجوة الموجودة في الهيكل الإداري والتسليحي للجيش على المستوى الداخلي (الوطني) من جهة، ومن أجل اللحاق بالجيوش المشابهة في المنطقة من جهة أخرى، مع الأخذ في الاعتبار عوامل الجغرافيا والتاريخ وفلسفة الدولة والإمكانات البشرية والتقنية المتاح تداولها هذا المجال.
تقع هذه الجهود ضمن حزمة متكاملة من الإجراءات التي تهدف إلى تقليص عامل الزمن وتقليل مشاكل الجغرافيا، بما في ذلك تكثيف التدريبات المشتركة مع الحلفاء وضم حلفاء جدد والاستثمار المالي طويل المدى في الصناعات العسكرية داخل البلاد وخارجها.
ولعل من المستجدات التي فتحت الحديث عن هذا الموضوع، الذي يعد موضع اهتمام متزايد بين الأكاديميين الغربيين العاملين في مساحات الأمن السياسي لمنطقة الخليج، هو توجه الدوحة إلى تدعيم سلاحها الجوي بشكل نوعي، بما في ذلك صفقة طائرات F-15 الأخيرة مع واشنطن.
ما الذي نعرفه عن الصفقة؟
تعد الصفقة محصلة تعاون إستراتيجي مهم بين سلاح الجو القطري الأميري وعدد من مؤسساته وكوادره الفنية والبشرية والمالية من جهة، وإحدى قلاع صناعة الأسلحة الأمريكية، شركة “بوينغ”، وبالأخص تلك المتعلقة بأنشطتها في ولاية ميزوري الأمريكية من جهة أخرى.
لا تقتصر الصفقة على مجرد توريد الطائرات المقاتلة وذخائرها، وإنما تشمل برنامج تعاون ممتد ومتشعب بين الطرفين، يضمن للدوحة المشاركة في صناعة بعض أجزاء الطائرة وصقل خبرات كوادرها البشرية وتوفير الإمدادات الفنية لهذا الطراز لأعوامٍ، ما رفع حجم الصفقة وسعرها إلى 36 مقاتلة (3 أسراب) بقيمة إجمالية تصل إلى 12 مليار دولار أمريكي.
“F- 15QA” القطرية، هي نسخة مدعمة بتطويرات ثورية تجعلها الأفضل في العالم ضمن فئات هذا الطراز
ضغطت شركة “بوينغ” الجدول الزمني المتفق عليه مع الدوحة بشكل ملحوظ لنصل إلى المشهد الذي سلطت عليه الأضواء يوم الخميس الماضي، مشهد تسليم سلاح الجو القطري الدفعة الأولى من هذه المقاتلات في أمريكا.
ولعل من الشواهد البارزة على ذلك، توقيع خطاب النوايا بين الطرفين ثم زيارة قيادات سلاح الجو القطري إلى ميزوري لتدشين خط الإنتاج الجديد في الفترة القصيرة من يونيو/حزيران 2017 إلى أغسطس/آب 2018 فقط.
على نحو ما تقدمه الشركات الأمريكية الدفاعية للعملاء المتميزين في “إسرائيل” والخليج وحلفاء واشنطن في آسيا المناهضين لبكين، فقد قدمت للدوحة نسخةً خاصةً لا يمتلكها غيرها من هذا الطراز، تعرف باسم “F- 15QA” القطرية، وهي نسخة مدعمة بتطويرات ثورية تجعلها الأفضل في العالم ضمن فئات هذا الطراز كما يقول الخبراء.
ما الجديد هذه المرة؟
عادةً ما تنقسم مراحل توريد أي صفقة سلاح إلى عدة مراحل فرعية، الأولى هي التوقيع ودفع جزء من قيمتها، ثم المتابعة الفنية لخطوط الإنتاج التي ستتولى توريد المعدات المطلوبة، مرورًا بحفل تسليم (أو إنزال إذا كانت معدات بحرية) القطع المتفق عليها في بلدها الأصلي، وصولًا إلى تحليقها أو إبحارها إلى المشتري في المرحلة الأخيرة.
ما حصل يوم الخميس، كان المرحلة الثالثة، ما بعد التوقيع والمتابعة الفنية، وهي مراسم تسليم الدفعة الأولى من المقاتلات من الجانب الأمريكي إلى الشريك القطري في بلاد الطرف الأول، إيذانًا بخروجها من المصنع على أكمل وجه، وبداية خضوع الطيارين إلى برامج التدريب مع الخبراء الأجانب.
في هذه المناسبة أدلى وزير الدولة القطري لشؤون الدفاع خالد العطية بتصريحات مهمة إلى قناة الجزيرة في ولاية ميزوري مقر شركة “بوينغ” الأمريكية بخصوص برنامج التعاون الممتد في هذه الصفقة، فقال: “لقد عمل القطريون مع زملائنا في بوينغ على تطويرها بما يتناسب مع طبيعة العمليات المطلوبة من دولة قطر”.
وعما سيوفره هذا الطراز من المقاتلات إلى سلاح الجو القطري، فقد عدد العطية هذه الأهداف قائلًا: “حماية المقدرات الاقتصادية والمشاركة مع الحلفاء في مكافحة الإرهاب وحفظ الأمن والسلم الدوليين بالتنسيق مع الشركاء”، مضيفًا، في معرض حديثه عن تفاصيل الصفقة القطرية من هذا الطراز “بلا شك فإن بهذه الطائرة أجزاء كثيرة بشراكة قطرية أمريكية، كما أن الحكومة القطرية تملك الملكية الفكرية لبعض الأجزاء بالشراكة مع بوينغ”.
على غرار ما سنه سلاح الجو القطري من تقليد بخصوص إطلاق المسميات المستمدة من المعجم القرآني على أسرابه الجديدة، فقد أطلق القطريون على هذا السرب الجديد اسم: “أبابيل” المرتبط بحادثة “الفيل” التاريخية في الثقافة الإسلامية.
وترجح بعض المصادر أن ترفع قطر الأعداد من هذا النوع إلى 72 مقاتلةً في السنوات القادمة، ضمن شراكة مزدوجة تهدف إلى استمرار تدفق خطوط الإنتاج الأمريكية من هذا الطراز، في نفس الوقت الذي تستفيد خلاله قطر من هذه التكنولوچيا الأمريكية المتطورة في دعم أهدافها الجوية والعسكرية.
ويمكن للطائرة القطرية أن تحمل حتى 12 صاروخا جو جو، من مختلف الطرازات والمديات
تمتلك المقاتلة رادارًا فائق القدرات من طراز AN/APG-82v الذي يعمل على نمط “أيسا” الغربي، المقابل لنمط “بيسا” في المقاتلات الروسية، ويعد رادارًا نشطًا ممسوحًا بشكل ضوئي أو: Active Electronically Scanned Array Radar كما يوصف في العلوم الجوية.
زودت المقاتلة بنظام طيران واستهداف على ارتفاع منخفض بالأشعة الحمراء، Low Altitude Navigation and Targeting infrared for night، إضافة إلى نظام ملاحة خارجي تحت مداخل الهواء الخاصة بالمحرك ونظام حرب إلكتروني (TEWS) يتألف من مستقبلات إنذار راداري وأجهزة تشويش على الرادار وقاذف شعلات حرارية لتضليل الصواريخ المعادية.
ويمكن للطائرة القطرية أن تحمل حتى 12 صاروخًا جو جو، من مختلف الطرازات والمديات، على غرار صواريخ “سايدويندر” و”سبارو” و”أمرام”، إضافة إلى التحليق حتى ارتفاعات شاهقة (60 ألف قدم) وقطع مسافة ألف ميل، دون التزود بالوقود جوًا.
صفقات أخرى
من خلال استقراء أنشطة سلاح الجو القطري التعاقدية في السنوات الأربعة الأخيرة، يمكن الجزم بأن هناك خطةً متكاملةً لإعادة تدشين هذا التخصص في الجيش القطري، بما يتلاءم مع التحديات الجديدة ومبدأ ضرورة تنويع مصادر السلاح.
فقد أبرم سلاح الجو القطري منتصف عام 2015 صفقةً مع نظيره الفرنسي ممثلًا في شركة “داسو” العملاقة من أجل توريد نفس العدد (36 مقاتلة/3 أسراب) من طائرات “رافال” الفرنسية متعددة المهام التي تتفوق على مقاتلات الجيل الرابع التقليدية بقيمة إجمالية تصل إلى 7 مليارات دولار.
تتضمن الصفقة توريد نسخة مخصوصة، أيضًا، من هذا الطراز إلى سلاح الجو القطري حملت اسم Rafale QA202، وقد تسلمت القوات الجوية القطرية بعد 4 أعوام (2019) الفوج الأول من هذه الطائرات، الذي أطلقت عليه اسم “العاديات” نسبةً إلى الخيل العاديات المذكورة في المعجم القرآني.
تتميز الطائرة برادارٍ عملاق يمكنه تعقب 40 هدفًا في وقت واحد، والاشتباك مع 8 أهداف منها في نفس الوقت، إلى جانب “منظومة حرب إلكترونية متكاملة من الأفضل في العالم” (Spectra) على نحو ما أثنى عليها المسؤولون القطريون خلال التسليم قبل عامين، وبإمكانها الطيران بسرعة تتجاوز 2400 كيلومتر في الساعة الواحدة، والتحليق على ارتفاع 50 ألف قدم.
وتعتبر المقاتلة الفرنسية الجديدة، التي نالت ثقة سلاحي الجو المصري والهندي مؤخرًا، إلى جانب سلاح الجو الفرنسي، تعويضًا وتطويرًا للرافد الفرنسي الذي بني عليه سلاح الجو القطري الحديث من طرازات “ميراج 2000” و”ميراج F1″، ويتضمن العقد تدريب 136 كادرًا، بين طيار وفني، من سلاح الجو القطري على قيادة وصيانة هذا الطراز.
وفي سبتمبر/أيلول عام 2018، كشفت تفاصيل طراز أوروبي جديد وصفقة ضخمة مع، هذه المرة، شريك بريطاني، هو شركة “بي أي إي سيستمز”، بقيمة إجمالية تتخطى 6.5 مليار دولار أمريكي، للحصول على درة الصناعات الجوية الأوروبية، مقاتلات “يورو فايتر تايفون” بعدد 24 مقاتلة، إلى جانب مروحيات “هاوك/9″، ومن المنتظر أن يبدأ تسليم الدفعة الأولى من هذه المقاتلات خلال العام القادم.
وفي مجال الحروب غير المتماثلة، اتجهت الدوحة، مبكرًا، إلى الشريك التركي، الذي يربطها به اتفاقيات دفاع مشترك وتمويل استثماري لمجال الصناعات العسكرية إلى جانب عقود شراء كبيرة، من أجل الحصول على طائرات “بيرقدار” المسيرة القتالية.
روما أنشأت بالفعل مركز تدريب حمل اسم “حلول 1” لتدريب الكوادر القطرية على القطع البحرية المتقدمة
وقع الاتفاق مارس/آذار 2018، لتصبح قطر أول دولة تتعاقد على هذا الطراز، بعدد 6 طائرات “بيرقدار تي بي 2″، وخلال عام، كان 55 عنصرًا قطريًا قد أنهوا التدريب البشري على تشغيل هذه الطائرات، التي تضمن عقدها توريد محطات التحكم الأرضي بالطبع، إلى جانب حزم متطورة من البرمجيات والدعم الفني لمدة عامين.
البحرية والدفاع الجوي
في الواقع، لا تقتصر خطة إعادة هيكلة القوات المسلحة القطرية على سلاح الجو، وإن كان صاحب النصيب الأكبر من الاهتمام بالطبع، وإنما، مع ذلك، تشمل الخطة إعادة هيكلة باقي الأفرع الرئيسية في الجيش، بما في ذلك البحرية والدفاع الجوي.
الصفقة الأبرز التي أبرمت لإعادة هيكلة البحرية القطرية مؤخرًا، كانت تلك الصفقة التي قالت عنها مجلة “فوربس” الأمريكية فبراير/شباط 2020، إنها الأكثر تكاملًا وأهميةً في تاريخ هذا الفرع في الجيش القطري، التي ستضعه في مصاف البحريات المعتبرة خليجيًا، لكونها ستضم غواصات وسفن إنزال وقاعدة بحرية لوجيستية سيجهزها شريك أوروبي.
ظلت قطر في خانة التعاون مع الغرب الأوروبي بحريًا، لكنها ذهبت هذه المرة إلى الشراكة مع إيطاليا، جنبًا إلى جنب مع فرنسا وبريطانيا وأنقرة التي تتعاون معهم لتأهيل سلاح الجو الأميري في حلته الجديدة.
وقعت الشراكة البحرية الممتدة مع روما نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وكانت إرهاصاتها قد بدأت مارس/آذار عام 2018 مع التوقيع على توريد نحو 30 مروحية بحرية إيطالية متقدمة، وبموجب العقد الأخير الموقع العام الماضي بقيمة تصل إلى 4 مليارات يورو، فإن الدوحة ستحصل على 4 قرويطات يصل طول الواحدة منها إلى 100 متر، وسفينتي دورية صاروخية لأعالي البحار يصل طول الواحدة إلى 60 مترًا، إلى جانب سفينة حاملة للمروحيات LPD.
في يونيو/حزيران الماضي، أي قبل نحو شهرين من الآن، قالت المصادر العسكرية الإيطالية إن روما أنشأت بالفعل مركز تدريب حمل اسم “حلول 1” لتدريب الكوادر القطرية على القطع البحرية المتقدمة، وبدأت، بالفعل، تصنيع أول جزء فولاذي من حاملة المروحيات، على أن يبدأ التسليم الأولي للصفقة من العام القادم.
وبعد سنوات من المفاضلة بين المنظومات الشرقية الروسية والمنظومات الغربية الأمريكية في مجال الدفاع الجوي، استقر القطريون على شراء، وتركيب لاحقًا، منظومات دفاع جوي من طراز “باتريوت” لتعمل جنبًا إلى جنب مع منظومات “هاوك” متوسطة المدى، ضمن صفقة كلفت نحو 7 مليارات دولار أمريكي، لتوفير حماية للأهداف الاقتصادية الإستراتيجية، من موانئ ومنصات للغاز، بامتداد البلاد.
تهديدات متنامية من الجيران
رغم العلاقات الطيبة بين الدوحة وطهران، فإن لدى كل دول الخليج، بما في ذلك قطر، خوفًا من قدح الشرارة الأولى لأي حرب إقليمية ضد إيران، سواءً كانت من الولايات المتحدة أم “إسرائيل” أم خصوم إيران من الدول العربية السنية، وهو ما سيؤثر حتمًا على استقرار الدوحة، خاصةً عند الأخذ في الاعتبار أن طهران تهدد بإشعال المنطقة بالكامل، إذا تعرضت لأي اعتداء عسكري أو تجاوز لخطوطها الحمراء.
سرب أبابيل بات الذراع الضارب الأكثر طولًا وقوةً في المنطقة كلها حاليًّا
لكن الجديد وما تنامى خلال السنوات الأربعة الماضية، هو ذلك الخطر القادم والمحتمل من الجيران العرب في الخليج ضد الدوحة، وبالأخص الرياض وأبو ظبي، وهو ما دفع الدولة الصغيرة إلى الاستعانة، بشكل عاجل، بحليف خارجي (تركيا) لردع أي خطط للاجتياح والسيطرة على الثروات الاقتصادية للبلاد، ثم، في نفس الوقت، إعادة التفكير في بناء القوات المسلحة في البلاد.
فبالتزامن مع الحصار الخليجي لقطر يونيو/حزيران 2017، فكرت وخططت، الرياض وأبو ظبي، إلى غزو الدوحة عسكريًا، بقواتٍ سعودية مدعومة إماراتيًا، كما أشارت مصادر عديدة صحافية وسياسية وفنية، على رأسها وزير الدفاع القطري نفسه، خالد العطية، وهو ما دفع القطريين إلى إعادة ترتيب أوراقهم في أسرع وقت كما يبدو، على مختلف الأصعدة، وعلى رأسها الصعيد العسكري.
يقول الخبير العسكري محمد حسن لـ”نون بوست”: “أحد أوجه تميز الصفقات العسكرية الأخيرة للدوحة، بوضوح، أنها تتفوق، على نظيرتها المصنوعة خصيصًا لأبو ظبي، ومن بينها مقاتلات إف 16 بلوك 60 الإماراتية التي صنعتها لوكهيد مارتن بإمكانات خاصة للإمارات”.
“بهذه الصفقة الجديدة التي تسلمتها الدوحة من بوينغ، وعلى وشك الوصول إلى الأجواء القطرية فإن سرب أبابيل بات الذراع الضارب الأكثر طولًا وقوةً في المنطقة كلها حاليًّا، فتلك المقاتلات هي الأكثر قوةً والأثقل حمولةً والأطول في المدى والأقوى في الرادار من بين كل المقاتلات العاملة في الشرق الأوسط”، يقول حسن.
وبحسب نفس الخبير، فإن:”جيل الرادار القطري الجديد أحدث كثيرًا من رادار النسخة الإماراتية من إف 16، بفضل طاقته التي تعطيه مديات وقدرات مضاعفة، وبشكل عام، فإن رادار أيسا العامل على النسخة القطرية من إف 15 يصعب رصده إلكترونيًا، وبالأخص في حالات الهجوم الجوي، إذا ما قورن بنظيره الإماراتي”.