مر عامان على توقيع الاتفاق الدستوري في السودان الذي تم اعتماده ليكون أساس مهام وتشكيل هياكل حُكم الفترة الانتقالية بعد سقوط النظام السابق بقيادة عمر البشير.
فترة العامين كافية بكل تأكيد لتقييم الأداء ومراجعته، فقد نصت الوثيقة الدستورية التي تم توقيعها بين قوى مدنية وعسكرية على أن يكون عُمر الفترة الانتقالية 39 شهرًا، تبدأ منذ التوقيع عليها، على أن يعقب الفترة الانتقالية إقامة انتخابات حرة ونزيهة كان يفترض أن تتم في نهاية العام القادم 2022، إلا أن اتفاقية جوبا للسلام “صفرت” العداد من جديد، ونصت على أن تبدأ المرحلة الانتقالية منذ التوقيع على اتفاق سلام جوبا.
تمديد الفترة الانتقالية ليست المشكلة الأساسية التي يعاني منها الشعب السوداني في الوقت الحاليّ، بل تكمن القضية في رداءة الأوضاع على الأصعدة كافة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، حتى الوثيقة الدستورية نفسها أُفرغت من محتواها، فلم يتم تشكيل المجلس التشريعي حتى اليوم، مع أنها نصت على أن يباشر المجلس عمله خلال 90 يومًا من توقيع الاتفاق.
كذلك لم يتم إنشاء المؤسسات الدستورية مثل مجلس القضاء ومفوضية الدستور والانتخابات وغيرها، إذ يتحكم مجلسا السيادة والوزراء في كل السلطات التنفيذية والتشريعية والعدلية، ويلغيان تمامًا مبدأ الفصل بين السلطات، ما يتنافى مع أبسط قواعد الديمقراطية المنشودة.
تصدع الائتلاف الحاكم
خلال العامين الماضيين من توقيع الوثيقة الدستورية، تصدع ائتلاف قوى الحرية والتغيير، “الحاضنة السياسية” للحكومة الانتقالية، فقد بدأت الانشقاقات بخروج الحزب الشيوعي من الائتلاف، وصولًا إلى دعوته الصريحة لإسقاط الحكومة بعد قرارات رفع الدعم، بعدها جمد حزب الأمة القومي عضويته في الائتلاف فترة من الزمن، وإعلانه معاودة النشاط في حال إجراء إصلاحات محددة، وقبل انسحاب الأمة والشيوعي انشق تجمع المهنيين السودانيين إلى كيانين، وأعلن الكيان الذي يسيطر على صفحات التجمع بمواقع التواصل الاجتماعي تجميد عضويته داخل ائتلاف قوى الحرية والتغيير.
في هذا الخصوص، اتهم القيادي بقوى إعلان الحرية والتغيير، ساطع الحاج، العسكريين بخرق الوثيقة الدستورية، وأشار إلى أن ذلك ما كان ليحدث لولا تماهي القوى السياسية وانشغالها بتعظيم مكاسبها الحزبية على حساب المصلحة الوطنية، وقال ساطع في تصريحات صحفية: “الوثيقة الدستورية سقطت في بئر الخلافات وضعف قوى الحرية والتغيير”.
انهيار اقتصادي
حالة من الإحباط الشديد لازمت غالبية السودانيين منذ توقيع الوثيقة الدستورية وتشكيل الحكومة الانتقالية، بسبب الأزمات الاقتصادية وتفاقم صعوبة الأوضاع المعيشية، كما تردت الخدمات من كهرباء وصحة وتعليم إلى مستوى أدنى مما كان عليه في العهد السابق رغم الدعم الدولي الكبير الذي وجدته الحكومة الانتقالية.
فلا يزال المواطن السوداني يكابد أزمة اجتماعية واقتصادية حادة من شح السلع الأساسية مثل الخبز والوقود، وارتفاع معدلات التضخم إلى معدلات قياسية، وتدهور العملة الوطنية رغم استقرار سعر الصرف في الفترة الأخيرة.
انعكست هذه الأزمة الاقتصادية المتفاقمة سلبيًا على شريكي الحكم المكونين العسكري والمدني للسلطة بتبادل اللوم علنيًا، فالمدنيون يقولون إن حل الأزمة بيد الجيش، لأنه الذي يتحكم بمعظم الموارد الاقتصادية عن طريق شركاته التي تستحوذ على اقتصاد البلاد، والمؤسسة العسكرية تصد الاتهام وترد بالقول إن سبب التدهور الاقتصادي ضعف الحكومة المدنية.
في ظل هذه الأجواء يشعر العديد من النشطاء السودانيين بخيبة أمل مضاعفة، فبعد عامين من الوثيقة الدستورية لم يطرأ أي إصلاح على الاقتصاد
الملف الاقتصادي يراهن عليه أنصار “الثورة المضادة”، فخيبة الأمل الشعبية المتصاعدة بسبب تردي الوضع الاقتصادي والمعيشي تمثل أكبر تحدي للحكومة الانتقالية بشقيها، فما من مواطن سوداني كان يتوقع أن يصل الحال إلى هذه الدرجة من التدهور بعد عامين من سقوط نظام البشير.
مخاوف من إطالة الفترة الانتقالية
في ظل هذه الأجواء يشعر العديد من النشطاء السودانيين بخيبة أمل مضاعفة، فبعد عامين من الوثيقة الدستورية لم يطرأ أي إصلاح على الاقتصاد، ولم يحاكم رموز النظام السابق، ولم يكتمل بناء الهياكل الحكومية، ولم يشكل المجلس التشريعي بعد، كما أن مسار تحقيق السلام مع الحركات المتمردة (دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق) يمضي ببطء شديد.
ولا يخفي المتشائمون مخاوفهم من انهيار حلم الوصول إلى تشكيل حكومة مدنية منتخبة ديمقراطيًا بنهاية الفترة الانتقالية، إذ يجدد هؤلاء مطالبهم بعودة العسكريين إلى الثكنات وفك الارتباط معهم والاحتكام إلى الشارع لاستعادة الثورة من جديد.
لكن بعض المتفائلين يرون أن هناك بوادر أمل يمكن أن تشكل نواة لتحسن كبير منها شطب اسم السودان رسميًا من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، والتقدم الذي طرأ على ملف شطب الديون، إلى جانب تحسن العلاقات مع المجتمع الدولي.
حمدوك يستشعر الخطر
رئيس الوزراء عبد الله حمدوك يبدو أنه أحس بحالة الغضب الشعبي من أداء الحكومة الانتقالية بعد عامين من توقيع الاتفاق الدستوري، فطرح مؤخرًا مبادرته “الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال.. الطريق إلى الأمام”، ومن أهم المحاور التي تضمنتها المبادرة:
– قضية العدالة وإصلاح المؤسسات العدلية والقضائية.
– تفكيك نظام الثلاثين من يونيو ومحاربة الفساد.
– السياسة الخارجية والسيادة الوطنية.
– إصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية.
– إصلاح التشوهات الاقتصادية وبسط سيطرة وزارة المالية وولايتها على كل المؤسسات الحكومية بما فيها التابعة للجهات العسكرية والأمنية، وتفكيك المؤسسات التي أسست لأهداف سياسية، وموارد البلاد الرئيسية.
لكن عددًا من المرشحين لعضوية مبادرة حمدوك أعلنوا اعتذارهم عنها مثل حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي وناظر قبيلة الهدندوة بشرق السودان محمد الأمين تِرك وناظر قبيلة البني عامر علي دقلل.
خارجيًا، وجدت مبادرة رئيس الوزراء دعمًا جيدًا، فقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في اتصال هاتفي مع حمدوك، دعمه للمبادرة التي طرحها الأخير لحل الأزمة الوطنية والانتقال الديمقراطي.
وأكدت الخارجية الأمريكية في بيان، أن بلينكن أكد دعم بلاده لمبادرة رئيس الوزراء لتعزيز الوحدة الوطنية وتسريع خطوات تشكيل المجلس التشريعي وإصلاح القوات المسلحة ودمج القوى الأخرى في جيش محترف.
بعد دخول الوثيقة الدستورية عامها الثالث، فإن ضعف أداء الحكومة المدنية يبدو واضحًا للجميع
مع حالة التشظي والهشاشة الأمنية والأوضاع الاقتصادية المتردية، يظل هناك أمل ولو ضئيل في أن تثمر مبادرة حمدوك عن بعض النجاحات، في ظل إحباط الثوار بعد أن مضى عامان على الاتفاق الدستوري الذي احتفلوا به معتقدين أن البلاد تمضي في المسار الصحيح.
المبادرة في حد ذاتها قد تكون جيدة وجاءت في وقتها، ربما الهدف الأساسي منها منع أي محاولة انقلابية قد يفكر فيها الشق العسكري الذي يتمتع بسيطرة قوية على مفاصل الدولة، مستفيدًا من ضعف الحكومة المدنية.
لكن مبادرة رئيس الوزراء بحاجة إلى إكمال هياكل السلطة وعلى رأسها تشكيل البرلمان الانتقالي والمحكمة الدستورية والمفوضيات، إلى جانب الانفتاح نحو الكتلتين الأكثر نشاطًا في معارضة الحكومة الانتقالية “الحزب الشيوعي والإسلاميين”.
أخيرًا، بعد دخول الوثيقة الدستورية عامها الثالث، فإن ضعف أداء الحكومة المدنية يبدو واضحًا للجميع، وهذا غير مستغرب لأن اختيار الوزراء والقياديين لم يتم وفقًا لعامل الكفاءة والجدارة، بل أتت بهم المحاصصة الحزبية والعلاقات الشخصية، وهذا ما يمكن أن يكون أكبر معوق لمبادرة حمدوك ولأي مبادرة إصلاحية أخرى.